»يعملوها الكبار ويقعوا فيها الصغار«. ليس مجرد مثل شعبي دارج، بل إنه يمثل واقعاً يعيشه المصريون دائماً وبخاصة في عالم السياسة وصراعاتها، وقد يحدث ذلك بقصد أو بحسن نية. هكذا فجرت واقعة استغلال أطفال أيتام في الترويج لدعم ترشيح وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية، موجة من الغضب في أوساط الحقوقيين الذين طالبوا بضرورة محاسبة الدار والجمعية الأهلية التابعة لها، منعاً لتكرار الواقعة. أطفال في عمر الزهور يقفون في "عز البرد" وفي صباح يوم ممطر، بملابس صيفية خفيفة، يرفعون صوراً للفريق السيسي ويرددون هتافات تؤيد ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، قُرب مؤتمر عقد للغرض ذاته في قاعة المؤتمرات بمدينة نصر نهاية الأسبوع الماضي. هذا المشهد الذي التقطته الكاميرات أثار ردود فعل واسعة، وحالة من الجدل بين أنصار السيسي ومعارضيه علي مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار صور هؤلاء الأطفال، وتدفق التعليقات عليها. وكانت دار "الراضي للأيتام" التابعة لجمعية "سيدي عبدالسلام وهدان الشاذلي" حشدت مجموعة من أطفال الدار للمشاركة في مؤتمر "السيسي رئيس بأمر الشعب" الذي عقد الخميس الماضي في قاعة المؤتمرات بمدينة نصر (شرق القاهرة)، وظهر في مقاطع الفيديو التي رصدت الواقعة ترديد الأطفال هتافات علي شاكلة "السيسي عزيمة قوية.. السيسي مية مية"، فيما قام أحد المشرفين بالدار بغناء نشيد "الله معك الله معك يا حبيب الشعب يا سيسي، يارب يصونه ويحفظه، وحقق له كل الآمال كل الآمال، الله معك". رئيس مجلس إدارة الدار، عدلي الشريف، دافع عن موقفه بمبرر لا يبدو مقنعاً أو حتي منطقياً، حين قال إن الأطفال كانوا يرتدون فساتين "سواريه" وعليها معاطف، لكنهم قاموا بخلعها لالتقاط بعض الصور مع الحضور، موضحاً أنه متحمل مسئولية ما حدث، فهو يري أن ما فعله كان تعبيراً عن حبه للفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذي أكد أنه مستعد أن يفتديه بروحه، مشيراً إلي أنه تلقي تهديدات بعد هذا الحفل من مجهولين قالوا له "هننسفك". الوزارة تحقق في المقابل، كان الرد الرسمي سريعاً وقاطعاً، حيث صرح المتحدث الرسمي لوزارة التضامن الدكتور هاني مهني، بأن مساعد الوزير لشئون الجمعيات تامر جمعة، سوف يقوم بتشكيل لجنة للتحقيق مع مسئولي دار" الراضي للأيتام"، وذلك فيما نسب إليهم من استغلال أطفال الدار في الحشد لمؤتمر سياسي لتأييد ترشح السيسي للرئاسة، وذلك بالمخالفة للقانون الذي يحظر علي الجمعيات الأهلية الاشتغال بالسياسة، فضلاً عن جلب الأطفال للمؤتمر بملابس خفيفة لا تناسب الطقس السيئ في هذا اليوم، مؤكداً أنه سيرفع تقريراً بذلك لوزير التضامن الدكتور أحمد البرعي، لاتخاذ ما يراه بشأن مجلس إدارة الجمعية التابعة لها الدار. وأكد المتحدث الرسمي لوزارة التضامن، أن الوزارة موقفها ثابت في هذا الأمر وهو رفض استغلال الأطفال عموماً وبخاصة الأيتام في الحشد السياسي، وأن الوزارة كما وقفت ضد تنظيم "الإخوان" الإرهابي، في استغلاله للأطفال، ستقف بحزم ضد أي جمعية أهلية تفعل ذلك مهما كان الغرض نبيلاً. أطفال "رابعة" "اللبس الصيفي لتأييد السيسي، لا يختلف عن حمل الأطفال الأكفان تأييداً لمرسي". كتبها أحد النشطاء علي موقع التواصل "فيسبوك"، ملخصاً وجهة نظره، في واقعة "دار الراضي"، وعلي الوتيرة ذاتها علق آخرون علي الواقعة رافضين استغلال الأطفال في الأمور السياسية وبخاصة أنهم أطفال قُصر شبه مسلوبي الإرادة، واستغلالهم في أمور منافية لقوانين الطفل، التي تكفل حمايته ورعايته وعدم استغلاله. وأعادت الواقعة الأخيرة الأذهان واقعة استغلال جماعة "الإخوان" للأطفال الأيتام في تأييد الرئيس المعزول محمد مرسي، أثناء اعتصام مؤيديه في ساحة "رابعة العدوية" الذي فضه الأمن في 14 أغسطس العام الماضي، وظهر فيه أسوأ استغلال للصغار وهم يحملون أكفانهم علي أكفهم الصغيرة، بينما ظهر آخرون وعلي ملابسهم لافتات حملت عبارة "أنا مشروع شهيد"، وهو ما عارضه بشدة مختصون في حقوق الطفل، واعتبروه محاولة دنيئة لاستغلال براءة الصغار في أغراض سياسية، والترويج لأفكار إرهابية. ولم تكن تلك هي الواقعة الوحيدة، حيث تكرر المشهد خلال فعاليات المؤتمر الصحفي لحرية »الشعب يأمر« مطلع الأسبوع الجاري بفندق »سفير« بالقاهرة لتدشين استمارة تكليف السيسي بالترشيح للرئاسة، استغلال الأطفال للترويج للفكر حيث جلس الأطفال في الصفوف الأولي داخل القاعة التي عقد فيها المؤتمر رافعين صور السيسي. وعلي الرغم من الصمت الرهيب الذي سيطر علي أنصار جماعة "الإخوان" إبان واقع استغلال الأطفال الأيتام في اعتصام "رابعة" إلا أن هؤلاء الأنصار تبدلت مواقفهم فجأة، وخرجوا عن صمتهم، واستنكروا واقعة استغلال أطفال "دار الراضي" أخيراً، بمنطق تصيد الأخطاء، ومحاولة تشويه صورة السلطة الحالية، بل وتشويه صورة الفريق أول عبدالفتاح السيسي. وفي هذا السياق، انبرت المواقع الإلكترونية والصفحات الإخوانية علي مواقع التواصل الاجتماعي في نشر صور الأطفال أمام قاعة المؤتمرات، والتي ظهروا فيها حاملين صورة للسيسي كُتب عليها "السيسي رئيسي"، وأخري "مركبة" تجمع السيسي مع الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، وعلق عليها الإخوان بقولهم "فضيحة الانقلابيين.. يستغلون الأطفال الفقراء اليتامي للدعاية للسيسي والانقلاب"، علي حد وصفهم. لا أحد ينكر أن هذا الخطأ أعطي فرصة جيدة لاستغلالها إعلامياً من جانب "الإخوان"، تماماً مثلما أرادوا الترويج لفكرة وجود "فأل سيء" مرتبط بتحركات وزير الدفاع، فتحت عنوان "نحس السيسي الآن يقتل مؤيدي السيسي نفسه"، نشر أحد المواقع الموالية للجماعة في 16 ديسمبر الماضي خبر وفاة أمين شرطة، وإصابة ثلاثة آخرين من الحرس الشخصي الخاص بوزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين، حين اصطدمت إحدي سيارات الحراسة التابعة للوزير السابق بشجرة مما أدي إلي وقوع الحادث، وذلك عقب مشاركته في المؤتمر التأسيسي لجبهة "مصر بلدي" الداعية لدعم السيسي وترشحه للرئاسة. مخالفة قانونية ويعد استغلال الأطفال علي هذا النحو مخالفاً لما ورد في قانون العقوبات، وقانون الطفل، وانتهاكاً لجميع المواثيق والاتفاقيات الدولية الموقعة عليها مصر في هذا الصدد، وهو ما دفع "الائتلاف المصري لحقوق الطفل"، إلي إعلان رفضه التام لاستغلال الأطفال في السياسة من جانب أي طرف أياً كان، وذلك في بيان، أصدره الخميس الماضي، تعليقاً علي قيام دار "الراضي للأيتام" باستغلال الأطفال في الدعاية للفريق عبدالفتاح السيسي. وطالب الائتلاف في بيانه بالوقف الفوري لهذه الانتهاكات وتقديم المسئولين عنها للمحاكمة، وأكد إدانته التامة لاستغلال الأطفال سياسياً من جانب أي فصيل سياسي مهماً كان سواء كان مؤيدا أو معارضا لطبيعة المرحلة السياسية التي تمر بها البلاد، أو كان مؤيداً أو معارضاَ للدستور الجديد، لكونه مخالفاً للمادة 192من قانون العقوبات والمضافة بتعديلات قانون الطفل 126 لسنة 2008 وانتهاكاً لكافة المواثيق والاتفاقيات الدولية المصدق عليها من قبل الحكومة المصرية. وكان الائتلاف سبق أن حذر جميع القوي السياسية من استغلال الأطفال سياسياً في جميع الأحداث السياسية السابقة من خلال تيارات الإسلام السياسي أو أثناء الانتخابات الرئاسية الماضية، ووجه العديد من المناشدات بوقف هذا الاستغلال الذي يرقي إلي مرتبة "الاتجار بالأطفال"، ويعد جريمة تصل عقوبتها للأشغال الشاقة المؤبدة - علي حد تأكيد الائتلاف - وقد سبق أن تقدم ببلاغات للنائب العام حول هذه الأحداث جميعها. وتابع البيان: يرغب الائتلاف هنا في التأكيد علي إدانته لاستغلال أطفالنا سياسياً، ويناشد كافة القوي السياسية والأجهزة الرسمية بالدولة بضرورة التدخل الفوري لوقف مثل هذه الجرائم في حق أطفالنا، والتحقيق مع الجمعية المذكورة في هذه الواقعة وتقديم المسئولين عنها للمحاكمة، حتي تكون رادعا لكل من تسول له نفسه باستغلال الأطفال سياسياً من قبل أي فصيل. التحقيق بشفافية في السياق ذاته، قال مدير المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، الناشط الحقوقي محمد زارع، إن الدار وقعت في مخالفة قانونية تستوجب التحقيق مع مسؤوليها من قبل النيابة العامة، فمن المفترض أن هذه الدار لها إدارة تلتزم بالقانون ورعاية الأطفال الأيتام الموجودين لديها، لافتاً إلي ضرورة مساءلة الجمعية الأهلية التي تتبعها الدار لمعرفة سبب هذه الواقعة ومن الشخص المسئول عنها وهل اتخذ هذا الإجراء بقرار شخصي أم بعد الرجوع لمجلس إدراة الجمعية، فمن الناحية القانونية محظور علي الجمعيات الأهلية المشاركة في العمل السياسي. وأضاف زارع: لا أحد يرضي أن يقف الأطفال الصغار بملابس خفيفة في طقس بارد لمجرد التأييد، سواء كان ذلك بحسن نية أو من أجل التملق، فهذا كله لا يجوز، ويخالف القوانين المعمول بها في مصر والاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الطفل والتي وقعت عليها مصر، لذا أرحب بموقف وزارة التضامن واتخاذها قرار فوري بالتحقيق في الواقعة، وهنا أتوسم أن يتم التحقيق بشفافية لنتأكد أننا بدأنا عصراً جديداً تحترم فيه حقوق الإنسان.