مَن يجرؤ علي الكلام عن مشاكل الثقافة أو "أزمة الهوية" المُرَوِعة التي إنزلقنا إليها وسط انشغال الناس بالجري وراء لقمة العيش وعنائهم الشديد في تدبير أرزاقهم يوماً بيوم؟!!.. قد يبدو ذلك نوعاً من المخاطرة أو الترف الفكري.. ولكن الحقيقة والواقع يؤكدان أن قتل "القوة الناعمة" لمصر والتدمير الممنهج لأدوات ومؤسسات الثقافة المصرية، بدأ بالتزامن مع تحوّل اقتصادي خطير تمثل في جرائم "الخصخصة" التي أنهت دور الدولة وأفقرت الشعب، وسلمت البلاد لطبقة جديدة من الرأسمالية الطفيلية التي لا تعرف سوي التربح بأي ثمن حتي ولو بالتضحية بالوطن وكنوزه الحضارية والثقافية وتجريده من أهم مراكز قوته الاقتصادية والاجتماعية وهي القطاع العام.. نعم.. تزامن صعود الطبقة الجديدة من رجال الأعمال المعادين للثقافة والذين ينطبق عليهم وصف الأبنودي " عندهم جهل يُغنيهم عن كل علم"، مع بداية الغزو السلفي الوهابي المدعوم بأموال النفط والذي ركز كل جهوده في نشر التخلف والجهل وتغيير "الخريطة الجينية" للهوية المصرية!!.. ففي منتصف سبعينيات القرن المنصرم داهمنا "انفتاح السداح" متزامناً مع فتح الأبواب للجماعات المتطرفة التي فرضت، بدعم سخي من نظام السادات وأموال النفط، نمطاً غريباً من التدين الشكلي الذي ضرب "الوسطية" المصرية في مقتل وراح ينشر في دأب وصمت أفكاراً وهابية متخلفة تجاوزها العصر والعقل البشري ولكنها كانت ومازالت تقدم خدمة هائلة لطبقة الطفيليين الجُدد التي استثمرت "الدين الجديد" في خداع الناس وتكوين ثروات خرافية وتدشين اقتصاد ريعي يقوم علي الاستهلاك والسمسرة والمضاربة وتوظيف الأموال (الريان والسعد.. نموذجاً) ويعادي الإنتاج والتصنيع وكل ما يحقق الإكتفاء الذاتي واستقلال القرار الاقتصادي.. وتحقق لهم ذلك عن طريق تصفية القطاع العام وتقليص أو شل دور الدولة في إدارة الاقتصاد.. وهنا تتعين الإشارة إلي توجيهات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي للسادات بعد "كامب ديفيد" بضرورة "تغيير التركيبة الطبقية للمجتمع المصري لتَقَبُل الثقافة الرأسمالية القادمة بعد حرب أكتوبر".. وتم تنفيذ الأوامر الأمريكية حرفياً لتخرج إلي النور طبقة من المليونيرات الصغار الذين كبروا وتعملقوا في عصر المخلوع مبارك، بدعم ورعاية المعونة الأمريكية والمؤسسات المالية الدولية، حتي صاروا ديناصورات ودانت لهم السيطرة علي الاقتصاد والسياسة والإعلام!!.. تداعيات هذا الانقلاب السياسي الاقتصادي الاجتماعي في حياتنا كانت بالغة التأثير علي الثقافة ومؤسساتها وأدواتها وآلياتها من تعليم وإعلام وسينما ومسرح وفنون مختلفة.. وصارت الثقافة بمعناها الأوسع يتيمة بعد غياب أو تغييب دور الدولة.. تركنا الصحافة القومية والحزبية والخاصة تحتضر، وفقد "ماسبيرو" الكثير من تأثيره وهو ما أدي إلي تراجع الدور الثقافي الرسمي.. أما الفضائيات فلا تقوم بأي دور ثقافي يُذكر.. بل إن فضائيات رجال الأعمال الجدد تشارك في تشويه صورة المجتمع وتستضيف إعلاميين عربا كل مهمتهم نشر كل ما يسيء إلي مصر والمصريين.. أما الجريمة الحقيقية التي ترتكبها هذه الفضائيات فهي بث مسلسلات وأفلام تركية وهندية مترجمة بلهجة لبنانية وهو ما يصب في مخطط ممنهج للقضاء علي اللهجة المصرية، إذ أعلن بعض الموتورين من بارونات الإعلام الخليجيين بصفاقة أن المهمة الأولي لفضائياتهم هي "جعل العرب ينسون اللهجة المصرية"!!.. فقد أثار حفيظة هؤلاء الموتورين وأوغر صدورهم، دخول اللهجة المصرية قلوب وبيوت كل العرب عبر السينما والمسرح والأغنية والإذاعة والتليفزيون حتي أن بعضهم وصف ذلك ب"الإستعمار الثقافي المصري"!!.. والأدهي من كل ما سبق أن المسلسلات والأفلام المدبلجة لا تضرب فقط "القوة الناعمة" المصرية في مقتل ولكنها تقدم دعاية سياحية مجانية لأعدي أعدائنا وهي الحكومة التركية.. والحاصل الآن أن قوتنا الناعمة في خطر ونحتاج لثورة ثقافية حقيقية لإنقاذها..