أن يكون للأمة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق, ومن خلال الدعم فى مجالات الثقافة والفن والدبلوماسية, مما يؤدى بالآخرين إلى احترام ثقافتها والإعجاب بها.. هذا ما يسمى بالقوة الناعمة. يؤكد الخبير بالعلوم السياسية والسياسة الدولية «جوزيف س. ناى» أن الوصول إلى الأهداف بواسطة القوة الصلبة من استعمال القوى الكبرى للقوة قد يشكّل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية.. لذا فإن الولاياتالمتحدة كنموذج لتلك الدول الكبرى سعت لاستغلال قوتها الناعمة من أجل تدعيم نفوذها حول العالم ونجحت فى ذلك فحصدت الإعجاب الجماهيرى العالمى بعلومها وأفلامها وموسيقاها إلا أنها خسرت كثيرًا من جاذبيتها عندما استخدمت قواها الصلبة وخاضت حرب فيتنام وعند غزوها للعراق عام 2003. وقد شهدت مصر فى العقود الأخيرة تراجعا شديدا أثر سلبا على مكانتها الإقليمية التى لم يتبق منها إلا عناصر القوة الناعمة, التى شهدت تراجعا هى الآخرى .ويسعى هذا التحقيق للوقوف على أزمة تراجع القوة الناعمة لمصر ومعوقات استغلال أدواتها من الفن والثقافة والإعلام والدبلوماسية والتحديات التى تواجهها فى المستقبل. يوضح الدكتور محمود خليل، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن القوى الناعمة تعتمد على الإقناع بالطرق الكلامية من خلال الأدوات التى تعتمد على التعامل الشعبى والتراث الفكرى والفنى والإبداعى للمجتمع، مشيرا إلى أن مصر قوة ناعمة مؤثرة بشكل ناعم على العالم العربى كله اعتمادا على مخزونها الفكرى والثقافى وأدواتها الإعلامية وانتاجها الدرامى القادر على التسرب بسهولة للوجدان العربي, بالإضافة إلى الثقل الحضارى الذى تتمتع به ,الأمر الذى أوجد صورة نمطية لها بكونها الشقيقة الكبرى للعرب. وأضاف أن مصر مطالبة بتوظيف قواها الناعمة على مستويات مختلفة يتصدرها تفعيل أدوار الدبلوماسية الشعبية التى يمكن أن تكون أداة جيدة للتعامل مع المشكلات الإقليمية التى تواجهها ومن بينها أزمة سد النهضة، مشيرا إلى أن هذا المستوى شهد تقدما جيدا عقب ثورة 25 يناير, إلا أن حالة الفشل والتراجع التى سيطرت على المشهد خلال حكم الإخوان وما بعده أدت لاختفاء هذه الأداة المهمة، كما أننا بحاجة على المستوى الإعلامى لدعم الإنتاج الدرامى المصرى ,الذى كان أداة مهمة لقوة مصر الناعمة إلا أنه تراجع و بدأت دول أخرى منافسة لمصر فى محاولة سد هذا الفراغ، مضيفا «أشعر بالحزن الشديد عندما أشاهد الدراما التركية المدبلجة بالعربية تغزو الشاشات العربية وتحاول أن تنشر قيما قد لا تتناغم مع قيم المجتمعات العربية وتؤدى لزيادة قوة تركيا وتأثيرها على المستوى العربى فى ظل تراجع المسلسلات المصرية التى كانت تجعل اللهجة المصرية لغة لكل العرب». كما أكد ضرورة تطوير الجامعات التى تلعب دورا مهما فى تدعيم القوة الناعمة لمصر فى ظل حرص الكثير من الطلاب العرب على القدوم للتعلم بمصر، معربا عن أسفه لتدهور الجامعات المصرية وتراجعها فى قوائم التصنيف الدولية، وتابع مستنكرا «هل يعقل أن يكون مطرب خليجى هو صاحب أشهر أغنيتين مرتبطتين بالأوضاع فى مصر؟ نحن الذين كنا نملك رصيدا خصبا من الأغانى الوطنية؟ وهل تراجعنا لدرجة عدم وجود مطرب مصرى يعبر عن الزخم الشعبى الذى تعيشه البلاد؟»، للأسف تخلصنا من الإخوان الذين أرادوا قذف مصر فى صحراء الوهابية لنجد محاولات ل«خلجنة» مصر, بل إن الحكام المتعاقبين على مصر لم يدركوا قيمتها ولم يفهموا أن ثورة 25 يناير اندلعت لإعادة مصر لتلك المكانة ,وأن الشباب الذين شاركوا فيها كان يحركهم شعور فردى بإهدار الكرامة ويستنكرون على المستوى القومى تراجع بلادهم فى كل المجالات. ويرفض د. شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق, النظر للقوى الناعمة كأنها أقل مكانة ومرتبة من القوى الصلبة، مؤكدا أنها لا تقل أهمية وتأثيرا عن القوى الآخرى, لأن الثقافة تنشط الخيال والإبداع ومن خلال ذلك ينتج الإنسان ويؤثر فى مجتمعه و يخرج المجتمع العلماء والفنانين وغيرهم ممن يؤثرون بدورهم على اقتصاد المجتمع ككل، مشيرا إلى أن البعض يخطئ بشدة عند حصر نطاق وتأثيرالثقافة والفنون على مجرد المتعة اللحظية بينما هى أداة مهمة لتشكيل الوعى، مؤكدا أن الفنون والآداب تفوق قوة الأسلحة العسكرية التقليدية فى أحيان كثيرة. ويؤكد أن سر نجاح عناصر وأدوات القوى الناعمة يجب أن يرتبط بقربها من الناس وحياتهم اليومية والاجتماعية ومشاكل المجتمع, وألا تكون منعزلة عنهم فى قاعات عرض الفنون التشكيلية والندوات ,وأن يتم دمجها بالتعليم والتربية ,وألا يتم التعامل معها باعتبارها مجرد وسائل للترفيه والرفاهية، لافتاً إلى أن أبرز معوقات استغلال القوة الناعمة وتوظيفها فى مصر يتمثل فى انتشار الأمية بنسبة كبيرة وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية بأدوات وعناصر هذا النوع من القوة ,مثل وزارات التعليم والثقافة والشباب والرياضة. يرى د.سيد أمين شلبي، السفير السابق وأمين المجلس المصرى للشئون الخارجية, أن مصر مقبلة على مرحلة بناء دولة ومجتمع جديد وأنه من المهم أن تكون عناصر ومكونات القوة الناعمة من أسس تلك الدولة، موضحا أن الأمر لا يقتصر على مصر فقط ,فبالنظر إلى تجارب الدول الكبرى فى ذلك المجال مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين واليابان ,نراها أدركت أهمية وتأثير أدوات القوة الناعمة فلجأت لاستغلالها والاعتماد عليها لتحقيق إنجازات مهمة , ونجد ذلك واضحا فى أنشطة سفاراتها ومراكزها الثقافية حول العالم، مشيرا إلى أن مصر نجحت من قبل فى استغلال قواها الناعمة خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى فكان لها موقع رائد فى العالم العربى إلا أن هذا الدور شهد تراجعا شاملا من قبل الدولة والمجتمع وهو ما يتطلب إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، مؤكدا ضرورة مواكبة التغييرات المتلاحقة سواء على الجانب السياسى والاجتماعى أو الجانب التكنولوجى لتدعيم عناصر وأدوات القوة الناعمة لمصر. وحول الدبلوماسية كأداة من أدوات وعناصر هذه القوة، يرى شلبى أن الدبلوماسية المصرية مازالت تحتفظ بدورها ومقوماتها كأحد عناصر القوة الناعمة، مشيرا إلى أنها واحدة من أربع دبلوماسيات عريقة فى العالم، إلا أنها تحتاج بشدة إلى إعادة بناء مكوناتها وكوادرها وأن تتجاوب مع التغيرات العالمية خاصة فى مجال تكنولوجيا الاتصالات من أجل تطوير مهام و وظائف الدبلوماسية المصرية فى المرحلة المقبلة.