إذا كان ما يسمى (القوة الناعمة) تعتبر أشد أنواع الدبلوماسية والقوة السياسية تأثيرا فى العالم لأنها لا تعتمد على قوة السلاح بقدر ما تستند على عناصر قوة أخرى مثل: الثقافة والاقتصاد والآداب والمكانة الدينية والفنون والتى تعد جميعها جزءا مما يصنع (قوة عظمى)، فهذه (القوة الناعمة) لا قيمة لها لو لم ترتبط بفكرة (التغيير الناعم) بهدف خلق مناطق نفوذ وأسواق واسعة تساعد هذه الدولة على تحقيق نفوذ اقتصادى وعسكرى عالمى أكبر من قوتها الحقيقية. فمصطلح "القوة الناعمة" يعنى قدرة دولة ما على إقناع دول أخرى بتبنّى رؤيتها نفسها والأهداف التى تتبناها هذه الدولة بشكل يسوده الترغيب قبل الترهيب.. أما أدوات هذه القوة الناعمة التى تستخدمها هذه الدولة لتحقيق فكرة التغيير الناعم فتتضمن: الثقافة؛ سواء عبر نشر الفنون والسينما، ونمط الحياة فى هذه الدولة داخل الدول الأخرى، وكذا جعل النموذج الاقتصادى الذى تتبعه هذه الدولة عنصر جذب لها من الدول الأخرى.. وبهذا المعنى نفهم لماذا هيمن الأمريكان على العالم بقوتهم الناعمة قبل العسكرية؛ عبر استغلال صناعة السينما فى هوليوود وترويج نمط الحياة الأمريكى الثرى فى جذب كل البشر للتجربة الأمريكية، رغم أن حقيقتها ليست كذلك!. من المهم أن نشير هنا إلى أن من ابتدعوا هذه القوة الناعمة هم المسلمون؛ حيث الدعوة بالحسنى وعمل الخير ومساعدة الغير وعدم فرض التغيير بالقوة والاعتماد على الإقناع وعلى القدوة، فهى ليست فكرة حديثة رغم أن الغرب برع فى تأصيلها (تماما كفكرة "العلوم المستقبلية" التى يعتبر المسلمون هم "أبو المستقبليات" فيها ولكنه أصبح الآن علما غربيا). هذه القوة الناعمة سبق أن استغلتها مصر بقوة عقب ثورة 23 يوليو 1952 من خلال تقديم نموذج الثورة المصرية للتحرر من الاستعمار للدول الإفريقية، ثم من خلال التجارة والاستثمار فى إفريقيا.. واستغلتها فى الريادة على الدول العربية عبر نشر الثقافة المصرية التى تسللت لهذه الدول من خلال كمّ رهيب من الأفلام السينمائية (أبيض وأسود) والمسلسلات التلفزيونية التى لا تزال تشكل وجدان وثقافة المنطقة العربية. وهذه القوة الناعمة المصرية كان لها عنصر تأثير قوى آخر، ولكن لم تستغله مصر حتى الآن ممثلا فى الأزهر الشريف والكنيسة المصرية، فالأزهر -لو جاز التعبير- أشبه بالفاتيكان فى العالم، ومجرد ذكر كلمة (الأزهر) تفتح أبوابا كثيرا للتأثير لاحترام هذه المكانة الدينية.. والأمر نفسه ينطبق على الكنيسة المصرية باعتبارها أقدم الكنائس فى إفريقيا ولها تأثير على مسيحيى دول إفريقية عديدة منها إثيوبيا التى تعين الكنيسة المصرية قيادتها الدينية. وعندما طالب البعض بدخول الكنيسة المصرية على خط أزمة المياه مع إثيوبيا، اعتبر كثيرون هذا توجها محمودا لو فعلته الكنيسة المصرية لاستعادة دورها الذى فقدته من بعد الأنبا كيرلس السادس وتولى البابا شنودة وانفصال الكنيسة الإثيوبية عن تبعيتها للمصرية، ولذلك أعجبنى قول نادر مرقس -عضو المجلس القبطى الملى التابع للكاتدرائية- إن البابا تواضروس الثانى تدخل بالفعل لحل أزمة سد النهضة ولم يتم تكليفه بذلك رسميا بحكم علاقته بالبابا متياس الأول بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى إثيوبيا، خاصة أن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية فى إثيوبيا سيزور مصر منتصف يونيو الجارى. وإن لم يعجبنى لغة الحديث من بعض أتباع الكنيسة عن أن هذا التدخل الكنسى يتم بعيدا عن الرئاسة المصرية(!).. لأن الطبيعى هنا أن يتكامل دور الكنسية الوطنية المصرية مع رئاستها، وإلا كررت خطأ الانعزال والتحرك كأنها دولة داخل الدولة.. والأهم من هذا وذاك أن تنجح قوة الكنيسة الناعمة -ضمن باقى التحركات المصرية- فى تفادى أزمة السد الإثيوبى. بقيت إشارة مهمة: حين سادت مصر بقوتها الناعمة كانت تقدم فنا وسينما ومسرحا وثقافة محترمة، أما الآن فقد انهار هذا الفن وهذه السينما وأصبحت تقدم الغث والتفاهات، كما أصبحت ثقافات وفنون أخرى (تركية – هندية – أسيوية – غربية) تؤثر على العالم بقوة .. وحين سادت مصر كانت تقدم لإفريقيا وأسيا والعرب علماء وخبراء ومنتجات وطنية خرجت من مصانعنا مباشرة، أما الآن فقد أصبح لاعبو كرة القدم والممثلون أعلى شأنا من العلماء والمخترعين، وأصبحنا نستورد طعامنا بما فيه طعام القطط والكلاب.. ولن نسود ونؤثر بقوتنا الناعمة دون تكامل وعودة كل عناصر هذه القوة الناعمة.. وهنا يأتى دور ثورة 25 يناير التى أظن أن أهم هدف لها هو العودة لثقافتنا وحضارتنا بعد طمسهما، والانطلاق بسرعة الصاروخ لتعويض ما أضاعه علينا حكامنا الفاشلون السابقون.