القوة الناعمة من أفضل أسلحة الدولة فعن طريقها تستطيع خدمة مصالحها ، والتأثير على الدول الأخرى ، هى قوة معنوية لها أدواتها الخاصة فى مجال الثقافة والفن والأدب ولها مقومات عديدة تعمل على انجاحها . في هذه السطور نستعرض الأسباب التى أدت ال تراجع قوتنا الناعمة والتى اختلفت حولها الآراء ، وما ينبغي القيام به للمضى فى استرداد تلك القوة ودورنا الريادي اقليميا وعالميا . استعادة الثقة بالنفس تؤكد الدكتورة هدى زكريا إستاذة علم الاجتماع السياسى بكلية الآداب جامعة الزقازيق أن المصريين أول من استخدم القوة الناعمة وظهر ذلك فى معاملات التجار فى العصور الوسطى واستقبالهم للتجار من الدول الأخرى والترحيب بهم ، وفى عصر المماليك أطلق على التجارالمصريين أفضل تجار لطهارة لسانهم ولغتهم واختيار كلماتهم المجاملة . وتوضح أن القوة الناعمة هى فن وشعر وموسيقى ومجالات أخرى كثيرة ، وأن مصر كما قال المفكر الكبير جمال حمدان كانت «توكة فى حزام العالم» وتقول : أثرت القوة الناعمة لمصر على مدى عقود ماضية ، وانتشرت اللهجة المصرية من خلال الأفلام السينمائية ، وجذبت القوة الناعمة إفريقيا بعد أن دعمها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من خلال فروع فى معظم دول القارة لشركات وطنية لصناعة السيارات وأخرى للمقاولات حتى أن أوغندا لم يكن بها سوى محطة كهرباء وحيدة وكانت مصرية وكذلك بتصدير الأفكار الثورية ومساندة الشعوب والزعماء الأفارقة فى العديد من الدول للحصول على استقلالهم. وتضيف الدكتورة هدى زكريا أن مصر بحكم موقعها الجغرافى المتميز أعطت تجاربها وحكمتها ، واستفادت من حكمة وتجارب الغير بل و»مصرتها» , وأصبحنا حالة خاصة ، وظهر ذلك فى استعانة محمد على بفضل قوته الناعمة بمهندسين أنشأوا له القناطر الخيرية والعديد من المشروعات، وأقاموا بمصر وظلوا يعملون بها ، فقوتنا الناعمة كانت شديدة الجاذبية فكثير من الغزاة عاشوا فى مصر وتدينوا بدينها واكتسبوا ثقافتها وانضووا تحت لوائها . وتضيف أن القوة الناعمة المصرية تعرضت فى الفترة الماضية لمؤامرات من الداخل والخارج عن طريق استخدام لغة الخطاب الدينى نتيجة لفقدان الأزهر لدوره كمؤسسة قوة ناعمة ومحاولة فرض قوة ناعمة مضادة بطرق مختلفة منها المال . وتشير الى أن استرداد القوة الناعمة بدأت بشائره ، باستعادة الثقة بالنفس ، وكأن المصريين كانوا فاقدين للذاكرة واستعادوها . استرداد إفريقيا يوضح الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، ان مصر كانت ذات مكانة عالية فى افريقيا خاصة بعد ثورة 23يوليو 1952 وبدأ دورها يتراجع تدريجيا منذ أيام السادات ، وتراجع كثيرا خلال النظام الأسبق حيث كان لمحاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسنى مبارك رد فعل قوى بابتعاد مصر عن افريقيا كثيراً ، بل ان مصر سقطت من حسابات الدول الافريقية تماما بعدها . وأوضح أن الأزهر الشريف كان فى إفريقيا له دور عظيم , ولابد من إسترداد هذا الدور ، فهو المرجعية للعالم الاسلامى ، وهناك من يحاول أن يأخذ مكان الأزهر ويصنع مرجعية جديدة ، ولكن ليس هناك جهة تستطيع أن تفعل ذلك . وطالب بدراسة وافية لتفعيل دور الأزهر بإرسال علماء واستقبال طلاب ، وتسهيل الترابط والتواصل الدائم بين خريجى الأزهر الموجودين فى جميع أنحاء العالم والذين يستطيعون المشاركة فى حل كثير من القضايا التى تهم مصر . عبقريات فردية ويؤكد الدكتور الأنبا يوحنا قلتة النائب البطريركى للكاثوليك بمصر إن القوة الناعمة لم تختف وانما خفت صوتها، ولكنها أبداً لن تموت لأنها مصدر من مصادر تقدم الشعوب ، ومصر اليوم تحاول أن تلحق بركب الحضارة المعاصرة ، وقد يحتاج الأمر لبضع سنوات. ويبين أن القوة الناعمة تعتمد على عبقريات فردية، وليس مؤسسات ، فالأفراد الذين أوتوا موهبة من السماء هم الذين يحركون المؤسسات الوطنية ويؤثرون فى الفكر ، حتى المؤسسات الدينية تقدمت ونهضت بأفرادها ، ففى الأزهر الشريف كان الإمام محمد عبده منارة فى عصره وهو الذى دعا الى التنوع والتعددية كفكر اسلامى ، وفى الكنيسة القبطية أيضا مفكرون منهم لويس عوض ، أسهموا جميعاً فى النهضة من خلال انتمائهم للمؤسسات ، فالعبقرية هبة شخصية للانسان وليس هبة للمؤسسات. ابداع وميراث حضارى بينما يؤكد الفنان التشكيلى الدكتور صلاح المليجى رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق أن قوة مصر الحقيقية فى ثقافتها وابداعها ، وأن القوة الناعمة لمصر ما زالت قوية ولها دور ثابت فاذا كانت قيمة مصر فى أنها قدمت الفن للعالم ، والتراث الانسانى المتمثل فى الحضارات المختلفة الفرعونية والقبطية وغيرها ، بالاضافة الى انها صاحبة ريادة كبيرة فى الشرق الأوسط فى كثيرمن المجالات كالسينما ، والمسرح ، والموسيقى، حتى الخط العربى ، فضلا عن أن مصر لديها ابداع متمثل فى مثقفيها، وأدبائها , وشعرائها ، يموت شاعر مثل نجم فيولد آخر يحمل الراية من بعده، وكل ذلك يجدد لمصر قوتها الناعمة ، مؤكدا أن الحس الانسانى ما زال موجودا داخل الثقافة المصرية وهو أهم ما يميزها. دور الدولة والمثقفين وترى الدكتورة نجوى الفوال أستاذة الاعلام السياسى بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن الدور الريادى لمصر بدأ ينحسر قبل ثورة 25 يناير بعد فرض نظام اقتصادى لا يهدف لمصلحة البلد ، وتفشى الفساد ، وبعد الثورة كان من المنتظر أن تعود مصر لريادتها الثقافية ، لكن للأسف تراجعت وأصبحت منطقة جذب لثقافات أخرى ، بالاضافة الى تضاؤل الانتاج الفكرى بشكل ملحوظ لأن كل الحكومات التى جاءت بعد الثورة كانت مهمتها تسيير الأمور فقط ولم تعط دفعة ثقافية أو فنية ، وكان هذا أحد أسباب وقوف المثقفين والفنانين فى وجه الرئيس المعزول محمد مرسى بعد أن شعروا أن الحياة الثقافية والفنية أصبحت على المحك . وتضيف : أهدرنا رصيد الزعيم جمال عبد الناصر الذى صنعه فى القارة الافريقية ، والأمة العربية ، وعودة مصر لريادتها تقع على عاتق المثقفين ، فعليهم عدم التخاذل والتعبير عن طموحات الشعب المصرى وعدم الانسياق وراء مبدأ الربح ، وهناك أيضا عبء كبير يقع على الدولة فيجب أن تتبنى الانتاج السينمائى والتليفزيونى والمسرحى ، وأن يكون هناك خط فكرى لهذه الأعمال هدفه وجود ثقافة معبرة عن أحلام وآمال المصريين التى كانت وراء اندلاع ثورتى 25 يناير و30 يونيو . انطلاقة جديدة وتشير الدكتورة سهير عبد السلام، أستاذة الفلسفة السياسية وعميدة كلية الآداب جامعة حلوان الى أن تراجع دور مصر الريادى فى المجالات الفنية والثقافية والرياضية يعود للظروف السيئة التى مرت بها مصر خلال العقود الماضية ، وعدم اهتمام القيادات السياسية السابقة ببناء الشخصية المصرية المبدعة ، فلم يصبح للمبدعين المصريين بصمة فى العالم الخارجى ، فضلا عن أن الفترة التى أعقبت ثورة 25 يناير ازدادت فيها المعوقات نتيجة للقمع الذى مارسه التيار الدينى ، والذى عمل على هدم الفن والثقافة وتحطيم الإبداع ، بالاضافة الى أن الفن والأدب فى المرحلة الأخيرة أصبح تعبيرا وتجسيدا للواقع بقبحه وسلبياته ، وابتعد الفن والأدب عن صورته المثالية لعرض القيم الايجابية وبثها فى المجتمع ، وأصبح المدمن والمنحرف والساقطات هم صورة المجتمع المصرى الذى يروج له ، حتى لغة الحوار بين أفراد الأسرة الواحدة فى الأعمال الدرامية والأدبية كانت لغة راقية يتعلم منها الأطفال والشباب أما لغة الحوار الآن فى تلك الأعمال أصبحت متردية وأبشع مما هو موجود فى الواقع بكثير ، مما تراجع معه سلوكيات الشباب وصورة المصريين أمام العالم الخارجى . وأشارت الى أنه مع تراجع الدور المصرى تقدمت التنمية فى دول أخرى لظروفها الاقتصادية الأفضل ، وتمثل ذلك فى ثقافة الخليج والدراما التركية. وتقول الدكتورة سهير عبد السلام ان مصر بدأت من جديد تضع أقدامها بقوة على خريطة العالم ، وتخلق مشروعا قوميا ووطنيا يتشوق اليه كل المصريين من أجل اعلاء اسم مصر ، ولكن ينبغى انماؤها فى كل المجالات سعيا الى رسم ملامح جديدة لمصر ما بعد ثورة 30 يونيو فى ظل دستور جديد زادت فيه الميزانيات الخاصة بالبحث العلمى والتعليم ونص على حرية الابداع ، ولدينا فنانون ومبدعون فى انتظار انطلاقة جديدة تدعمها الدولة ، فالقوة الناعمة نابضة تنتظر من يدعمها ويسوق لها ، وذلك من خلال دور الاعلام عن صورة مصر بشكلها الجديد ورسم ملامح المستقبل . عودة السينما المصرية وأوضح المخرج عمر عبد العزيز وكيل نقابة السينمائيين أن القوة الناعمة لمصر بُعد استراتيجى ، واحد الأدوات المهمة لتلك القوة هى السينما المصرية والتى شهدت تراجعا كبيرا فى الفترة الماضية ، ويرجع ذلك لعدة أسباب منها عدم التواصل فى فترات سابقة مع معظم الدول العربية، بل ان تعالينا عليهم واهمالهم جعلهم يبحثون عن البديل للفيلم المصرى والذى تمثل فى الفيلم الهندى والتركى ، بالاضافة الى أن الحكومة المصرية تخلت عن دورها في تدعيم صناعة السينما . وقال إنه لعودة السينما المصرية لسابق عهدها وقيامها بدورها الفعال تم القيام بزيارات لعدة دول وعمل بروتوكولات مع هذه الدول من بينها كردستان وايران لفتح أسواق جديدة ، ولكن ذلك يتطلب حدوث الاستقرار ، وتقديم فن جيد ، ومساعدة الحكومة للنهوض بصناعة السينما. تنشيط البعثات الدبلوماسية وتبين الدكتورة حنان أبو سكين أستاذة العلوم السياسية بالمركز القومى للدراسات الاجتماعية والجنائية أن القوة الناعمة من أدواتها وسائل الاعلام و العلاقات الدبلوماسية القوية ، وهى تستخدم فى تدعيم التعاون بين الدول ، وترتبط بلعب دور معنوى بتكلفة بسيطة ، ويستمر تأثيرها فى عدة قضايا ، على خلاف القوة الصلبة (العسكرية ) التى تستخدم فى مشكلة واحدة ، وبتكلفة عالية ، وليس لديها القدرة على حل مشكلات تستطيع القوة الناعمة حلها ، بالاضافة الى ان التطور الهائل فى تكنولوجيا المعلومات والانترنت والاتصالات أدى الى ازدياد أهمية القوة الناعمة حيث أصبح من السهل التواصل مع مواطنى دول أخرى , ونقل المعلومة والثقافة والفن بسهولة . وتضيف أن تراجع دور مصر فى الأعوام الثلاثين الأخيرة يعود لأسباب متعددة منها عدم توافر الارادة السياسية ، وأن مصر لديها ملفات كثيرة تم اهمالها كان يمكن حلها باستخدام القوة الناعمة كالملف الافريقى الذى تم اهماله وترتب عليه أن هناك دولا أخرى أخذت مكان مصر فى افريقيا كاسرائيل. وتوضح أن لدينا أدوات كثيرة يمكن استخدامها لاسترداد القوة الناعمة بداية بتفعيل دور المؤسسات الدينية كالازهر والكنيسة ، والرقى بالفن وتحسين الذوق العام ليكون لدينا منتج نستطيع أن نعرضه على الدول الأخرى، وتنشيط البعثات الدبلومسية بوزارة الخارجية لتتفاعل مع قضايا الدول الموفدة اليها وحضور اللقاءات الجماهيرية والمشاركة فى احتفالات الأعياد القومية لتلك الدول وتنظيم البعثات الدبلوماسية المصرية فى الخارج ل « يوم مصرى « يتم من خلاله نشر الثقافة والفن المصرى .