منذ ثلاث سنوات تقريبا (قبل الثورة بنحو عام كامل) كتبت ونشرت السطور التالية: .. ثم إن الغُلب والبؤس يبدأ فعلا من الاقتصاد وسياسات الإفقار والتجويع والحرمان المادى، غير أن مفاعيله وآثاره التخريبية للأسف لا تتوقف عند هذه الحدود، بل من خصائص البؤس أنه يتفشى ويستفحل حتى يتحول نمطا شاملا وقانونا صارما يتحكم فى صيرورة الحياة، ويصير بتراكم الزمن غولا ينهش عقول وأفئدة وأرواح وأخلاق وضمائر الناس، بمن فيهم هؤلاء المحظوظون الذين أفلتوا من الفاقَة والعوز، لهذا فجريمة النظم القمعية الفاسدة التى من نوع نظام الحكم الحالى فى بلادنا تتجاوز كثيرا جدا مجرد نهب وتخريب مقدرات وثروات المجتمع المادية لصالح حفنة من اللصوص الكبار الذين يتحلَّقون حول الحاكم الديكتاتور وأسرته وجماعته مقابل إفقار الأغلبية الساحقة من الشعب، إذ هى بطبيعتها جريمة قابلة للتضخم والتورم والتحور باستمرار.. لماذا؟ لأن عملية السطو المسلح على السلطة والثروة يرافقها غالبا عمليات تدمير وتخريب تكميلية تستهدف كلها ضرب وتغيير طبيعة ما يسمونه فى علوم السياسة (البنية الفوقية) للمجتمع، أى عقله ووجدانه ونسقه القيمى والأخلاقى ومنظومة الثقافه السائدة فيه، خصوصا التفاسير والمفاهيم المنسوبة إلى الدين التى يجرى تطويعها وتسطيحها وابتذالها عمدا وبطريقة منهجية لكى تُستخدم كسلاح إرهابى، ربما هو أكثر خطورة وفاعلية من أسلحة ووسائل القمع والقهر المادى البوليسى المباشر المتوفرة والحاضرة أصلا». أدرى أن الكلام السابق يبدو صعبا ومسرفا فى الحزلقة النظرية أكثر من المعتاد أو المحتمل، ولكى أبسط وأوضح الفكرة التى أريد توصيلها لحضرتك، فإننى أرجوك أن تستعيد معى تلك القاعدة الذهبية المشهورة التى عملت بها قوى الاستعمار القديم (والحديث أيضا) ويقول منطوقها صراحة: «إن الشعب الجاهل أسهل وأسلس قيادا من الشعب النابه المتعلم».. هذه القاعدة الخبيثة ورثتها عصابات الاستعمار الداخلى التى قفزت إلى سلطة الحكم فى بلادنا وأوطاننا المنكوبة وطبقتها أحيانا بالتزام وإخلاص أشد من جيوش الاحتلال الأجنبى.. وعليه فإن «التجهيل» ونشر التخلف والتعصب وضيق الأفق هى كلها بضاعة أساسية لا يستطيع حكام البؤس العيش والبقاء على قلوبنا إذا هم تهاونوا أو تكاسلوا فى ترويجها. إذن ليس من قبيل الصدفة أبدا أن تشهد العقود الثلاثة الأخيرة من عمر هذا الوطن شيوع وانتشار تلك الطائفة الواسعة جدا من الظواهر المشينة، التى قد يضحك بعضنا منها وينجرف أغلبنا بالغفلة والإلحاح للغرق فى وحلها، ومنها مثلا ظاهرة تبجيل وترقية أنصاف المتعلمين والجهلة و«الصيَّع» وتمكينهم، ليس فقط من التحكم فى مفاصل الدولة عن طريق اصطفاء هذا الصنف بالذات لتولى الوظائف والمناصب التنفيذية العليا واحتلال مقاعد سلطة التشريع (انظر نوعية نوابنا ونوائبنا فى مجلس قصر العينى) وإنما أيضا تسليطهم عمدا على أدمغة الناس من خلال منابر الإعلام الحكومى بجناحيه العام والخاص، بحيث أضحت الجهالة والبذاءة المادة الرئيسية التى تبثها هذه المنابر ليلا ونهارا فى عقل المجتمع ووجدانه. والحق أن الدين نفسه لم ينجُ من هذه المحرقة العقلية والروحية الرهيبة، بل لعله كان أهم وأثمن ضحاياها، على ما يدل «تسونامى» الرطان والضجيج الدينى الرهيب الذى يحاصرنا من ساعة أن نصحو حتى ننام، بينما هو فارغ تماما من أى مضمون خلقى أو روحى ومسجون فحسب فى زنازين «الشكل» و«الطقس» و«ديكور» الورع الكاذب المنافق الذى يسمح بارتكاب موبقات وجرائم يندى لها الجبين، ليس أقلها شيوع الكذب والنفاق، فضلا عن فاحشة التحرش الجنسى الجماعى بالنساء فى الشوارع. انتهت السطور القديمة.. وأستحلفك بالله يا أخى وأستصرخ ضميرك: هل ترى شيئا تغير فى البلد مجتمعا ودولة يجعل هذا الكلام غريبا على الواقع القائم الآن، أم أن الغريب حقا أن أسباب الانحطاط زادت وتفاقمت؟!