الجماعات والتنظيمات والأشياء التى تتكاثر كالفطر من حولنا هذه الأيام ولا تكاد تعثر لها على وصف سياسى مناسب، بينما أغلبها يقتحم ساحة المجال العام بغشم وجهالة، مكتفية بأنها تنسب نفسها للإسلام وتترخص فى محاولة إنزاله من سموه وعليائه إلى عوالم السياسة بدنيويتها ودروبها المعقدة، حيث الآراء تتصارع والأهداف والمصالح تختلف أو تتناقض، والمواقف تتغير وتتبدل مع متغيرات الواقع المعيش وتبدل ظروفه، كما تتفاوت حظوظها من الصواب والخطأ، وحيث يتجاور الصالح والطالح، والشريف والطامع.. إلى آخر ما تعرفه هذه العوالم فى الدنيا كلها. هذه الجماعات والأشياء فجأة وبسرعة مدهشة تآكلت الفوارق (النظرية) بينها، ولم يعد بالإمكان رؤية ما يميز تلك التى تصف نفسها بالاعتدال و«الوسطية» ممن يسرفون فى التطرف وضيق الأفق، لقد اصطف الجميع فى معسكر واحد يداعبهم وهم مغرور بأن المعطيات والظروف الراهنة مهيأة لاختطاف البلد وتهجير مناوئيهم منها (قالوها صراحة مرات عدة، آخرها أول من أمس)، ثم بعد ذلك سيكون لديهم متسع من الوقت كاف لممارسة الصراع التكفيرى الدموى فى ما بينهم وليعملوا فى أنفسهم آلة التدمير الذاتى وتدمير الوطن بالمرة على نحو ما جرى ويجرى فى أفغانستان والصومال. ويضيق المجال عن ذكر آيات الغشم والعربدة المنفلتة من أى رشد أو عقل أو حتى ضمير ومسؤولية وطنية، تلك التى أمطرنا بها أغلب هذه الجماعات منذ سقوط الطاغية المخلوع وأركان عصابته.. ولا داعى للتذكير فى هذا السياق بتفاصيل جريمة محاولة إشعال الفتنة الطائفية وتمزيق نسيج الجماعة الوطنية. غير أن هذه العربدات والاندفاع المتغطرس فى ارتكاب شتى أنواع وصنوف الإرهاب وأخطره الاستسهال والتهور الأعمى فى شهر سلاح التكفير فى مواجهة كل -تقريبا- قوى وتنوعات المجتمع السياسى المصرى، ورمى هذه التهمة النكراء الجاهلة جزافا وبجرأة إجرامية على شخصيات مرموقة تحظى بثقة واحترام الأغلبية الساحقة من المصريين (الدكتور ممدوح حمزة آخر الضحايا)، فضلا عن الإرهاب المادى والبدنى والتهديد الفاضح، بل الإقدام فعلا على استخدام العنف ضد من يخالفهم الرأى أو يتجاسر على مناقشة ودحض الأفكار والمفاهيم المنحرفة التى تسكن عقولهم الفارغة. تلك العربدات التى تظللها وتغذيها حاليا بيئة سياسية قلقة ومضطربة ومرتبكة وشبه فارغة من دولة القانون، وربما من «الدولة» أصلا، راحت تتصاعد وتتفاقم فى الأسابيع الأخيرة حتى بلغت مستوى غير مسبوق من الخطورة، مما دفع البعض إلى التحليق بعيدا فى التشاؤم لدرجة الشعور بأن البلاد صارت على شفا حرب أهلية. المتشائمون هؤلاء يحدثونك عن ظواهر ووقائع مفزعة حقا، منها اتخاذ بيوت الله ودور العبادة (بالمخالفة لكل القوانين) منصات، ليس فقط لإطلاق قذائف الجهالة والتخلف وإشاعة ظلام العقل وبؤس الروح، وإنما أيضا قصف ورمى الوطنيين الشرفاء بسخائم الكفر والعمالة، وتوعد أنبل شباب الوطن بالسحق والعدوان!! قد أفهم دوافع (أغلبها نفاق مفضوح للمجلس العسكرى) أن يتبنى تيار المتلفعين بعباءة الدين موقفا مختلفا ومعاديا لبعض الفاعليات الاحتجاجية السلمية، كالاعتصام القائم الآن فى ميدان التحرير، وأن يستخدموا فى مواجهة هذه الفاعليات مفردات القاموس الأمنى البليد نفسه الذى تستخدمه دوائر «فلول» نظام مبارك من نوع «تعطيل بسكلتة الإنتاج»، و«تهديد الاستقرار والاستثمار» وخلافه، غير أننى فشلت تماما فى فهم التهديد الذى أطلقته قيادات جماعات التطرف والظلام من فوق منابر المساجد يوم الجمعة الماضى بتسيير مظاهرات ومليونيات «حلال» لا تعطل «البسكلتة» المذكورة ولا تمنع الاستقرار والاستثمار، وإنما فقط تحاول تعويض انحلال مباحث أمن الدولة وغياب قوات الأمن المركزى عن الساحة، ومن ثم تنفيذ مهمة فض وتصفية اعتصام الشباب فى ميادين التحرير بالقوة.. قوة السنج والمطاوى والسلاسل الحديدية!!