شهدت منظومة البحث العلمى فى مصر خلال السنوات الأخيرة تطورًا لافتًا انعكس فى ارتفاع معدلات النشر الدولى، وتوسع برامج دعم الابتكار، وزيادة الشراكات البحثية مع المؤسسات الدولية، وهو ما أسهم فى تعزيز مكانة مصر على مؤشرات البحث العلمى عالميًا، وفى ظل توجه الدولة نحو ترسيخ اقتصاد المعرفة وتعزيز دور البحث العلمى كقاطرة للتنمية المستدامة، يبرز دور أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا كأحد المحاور الرئيسية الداعمة للابتكار وربط مخرجات البحث العلمى باحتياجات المجتمع والصناعة، كما يبرز دور بنك المعرفة المصرى كأحد أكبر المشروعات القومية الداعمة للتعليم والبحث العلمى، إلى جانب المعارض البحثية المتخصصة التى تفتح آفاقًا جديدة لتسويق مخرجات البحث العلمى وربطها بالصناعة، وفى هذا الحوار، تكشف الدكتورة جينا الفقى، القائم بأعمال رئيس أكاديمية البحث العلمى، عن أبرز ملامح استراتيجية الأكاديمية خلال المرحلة الحالية، وجهود دعم الباحثين والشباب، ودور المبادرات الوطنية مثل بنك المعرفة المصرى والمعارض البحثية فى تحويل الأفكار العلمية إلى مشروعات قابلة للتطبيق، وتعزيز مكانة مصر على خريطة البحث والابتكار إقليميًا ودوليًا. اقر أ أيضًا| عاشور: البرنامج التدريبي للمرشحين بالمراكز البحثية يدعم البحث العلمي إلى أى مدى نجح معرض «IRC Expo» فى دعم الباحثين الشباب ورواد الأعمال؟ - حقق المعرض نجاحًا فاق التوقعات، فقد وفّر منصة حقيقية للباحثين الشباب ورواد الأعمال لعرض أفكارهم، والتواصل المباشر مع الخبراء والمستثمرين، والحصول على التوجيه الفنى والدعم اللازم لتحويل هذه الأفكار إلى مشروعات قابلة للتطبيق، كما ساهم فى فتح آفاق جديدة للتعاون والشراكات، وهو ما انعكس إيجابيًا على عدد من الأفكار التى بدأت بالفعل خطواتها الأولى نحو التنفيذ، وبالنسبة لنا، كان المعيار الأساسى لقياس نجاح المعرض من عدمه هو حجم الشراكات والاتفاقيات الحقيقية التى يتم إبرامها بين الباحثين والمبتكرين من جهة، وممثلى الصناعة والمستثمرين من جهة أخرى، حيث تم التوصل إلى 4 اتفاقيات فعلية تم توقيعها، بالإضافة إلى أن هناك أكثر من 16 اتفاقية أخرى قيد المتابعة فى طريقها للتنفيذ. ما الرؤية الحالية لأكاديمية البحث العلمى؟ - أكاديمية البحث العلمى أصبحت اليوم شريكًا رئيسيًا فى دعم توجهات الدول نحو اقتصاد المعرفة والتنمية المستدامة، ولم يعد دورها مقتصرًا على البحث الأكاديمى فقط، بل امتد ليشمل ربط البحث العلمى باحتياجات المجتمع والصناعة، وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال الحدث الدولى الذى سبق المعرض مباشرة، حيث عُقد اجتماع عالمى لأكاديميات البحث العلمى بمشاركة 103 أكاديميات من مختلف دول العالم، تمثل أكثر من 80 دولة، هذا الحضور الواسع يعكس وجود رؤية دولية مشتركة تقوم على تعزيز التعاون البحثى العابر للحدود، وتوظيف المعرفة والابتكار فى دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. ما أبرز التحديات التى تواجه البحث العلمى فى مصر؟ - التحدى لم يعد فى التمويل بالدرجة الأولى، فالدولة تبذل جهودًا كبيرة ومتواصلة لزيادة مخصصات البحث العلمى سنويًا، وقد أُعلن فى أكثر من مناسبة أن الإنفاق على البحث العلمى ارتفع من نحو 0.3% من الناتج القومى منذ عشر سنوات 1% حاليًا، وهى نسبة معتبرة وتقترب مما تنفقه دول متقدمة فى مجال البحث العلمى، فإن التحدى الرئيسى يتمثل فى ثقافة مجتمع البحث العلمى نفسه، سواء من حيث ربط الأبحاث بالاحتياجات الفعلية للدولة والصناعة، أو من حيث تبنى فكر تحويل مخرجات البحث العلمى إلى تطبيقات اقتصادية وتنموية، لا يزال البحث العلمى لدى شريحة كبيرة يُنظر إليه باعتباره وسيلة للترقى الأكاديمى فقط، دون وعى كافٍ بأن البحث العلمى يمكن أن يكون مصدرًا للدخل، سواء للدولة أو للباحث نفسه، ونعمل حاليًا على تغيير هذه الثقافة من خلال إيجاد آليات ومسارات جديدة تشجع الباحثين أنفسهم على الانخراط فى التطبيقات العملية والابتكار، وليس الاكتفاء بالنشر الأكاديمى، فالتركيز اليوم لم يعد فقط على عدد الأبحاث، بل على قيمة البحث وأثره التطبيقى وقدرته على التحول إلى منتج أو خدمة أو حل لمشكلة حقيقية. أى مدى نجحت الأكاديمية فى تحويل مخرجات البحث العلمى إلى تطبيقات صناعية وتجارية؟ - نحن نمتلك 853 باحثًا لكل مليون مواطن، وهى بذلك فى الترتيب ال55 عالميًا من حيث عدد الباحثين لكل مليون مواطن، كما أن هناك 140,230 باحث نشروا أبحاثًا مدرجة فى سكوبس خلال الفترة من 2022–2025، كما تصاعد عدد الباحثين المصريين المدرجين ضمن أفضل 2% من العلماء بقائمة ستانفورد من 396 باحثًا فى عام 2019 إلى 1106 فى تقرير القائمة لعام 2024، كما أن مصر احتلت المركز ال25 عالميًا فى تصنيف SCImago من حيث عدد الأبحاث التى تم الاستشهاد بها، بإجمالى يقارب 41,897 بحث مستشهد به، وكذلك المركز الأول فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى تصنيف سيماجو للمنطقة. أما عن التقدم النوعى فى جودة النشر، فإن 53.5% من الأبحاث المصرية منشورة فى المجلات المدرجة ضمن الربع الأول Q1 الأعلى جودة عالميًا، و78% منها منشورة فى مجلات (Q1 Q2). أيضًا هناك إنجاز كبير وهو دخول القاهرة الكبرى ضمن أفضل 100 تجمع علمى وتكنولوجى عالميًا (المركز 83)، لتكون الممثل الوحيد لقارة إفريقيا والشرق الأوسط فى هذا التصنيف. وفى ملف ريادة الأعمال، تصدرنا القارة الإفريقية وجاءت مصر فى المركز الثالث بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث حجم استثمارات الشركات الناشئة، والتى بلغت حوالى 2 مليار دولار خلال السنوات الأربع الأخيرة. كيف يتم توجيه هذا التمويل بما يخدم أولويات الدولة؟ - تعمل الأكاديمية من خلال مكاتب متخصصة داخل الجامعات ومراكز البحث، يكون دورها العمل المباشر مع الباحثين، ليس فقط على مستوى تنفيذ الأبحاث، ولكن أيضًا على مستوى توعيتهم بكيفية تعظيم الاستفادة من مخرجات البحث العلمى، وربطها باحتياجات الدولة والمجتمع الصناعى.. أما فيما يتعلق بالتمويل، فالأكاديمية لا تخصص مبلغًا ثابتًا لكل بحث، وإنما تعمل من خلال آلية النداءات البحثية، ففى بعض الأحيان يتم فتح نداءات موجّهة لمعالجة قضايا محددة تُمثل أولوية للدولة فى فترة زمنية معينة، وفى هذه الحالة يكون التمويل مفتوحًا فى حدوده العامة، ولكن وفق معايير واضحة. هل توجد برامج خاصة داخل الأكاديمية لدعم الباحثات وتمكين المرأة فى مجال البحث العلمى والابتكار؟ - نعم، تمكين المرأة يُعد أحد المحاور الأساسية فى استراتيجية الأكاديمية، ولذلك تم تخصيص أكثر من آلية وبرنامج لدعم الباحثات على المستويين البحثى والابتكارى. من أبرز هذه البرامج برنامج WomenUp، والذى يتم تنفيذه بالشراكة مع الاتحاد الأوروبى، ويستهدف دعم السيدات اللاتى يمتلكن أفكارًا مبتكرة قابلة للتحول إلى شركات ناشئة، من خلال توفير التمويل، وبناء القدرات، والدعم الفنى اللازم. إلى جانب ذلك، تقوم اللجنة الوطنية للمرأة فى العلوم بدور محورى فى معالجة القضايا المرتبطة بتمكين المرأة فى البحث العلمى وريادة الأعمال، وضمان إدماجها بشكل فعّال فى مختلف البرامج والمبادرات. كما تخصص الأكاديمية جوائز موجّهة للمرأة، مثل جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية، تقديرًا لمسيرتها العلمية والمهنية. كيف يمكن حماية حقوق الملكية الفكرية للباحثين والمبتكرين؟ - حماية الملكية الفكرية كانت تتبع الأكاديمية حتى شهر فبراير الماضى ولكن الآن أصبحت تتبع الجهاز المصرى للملكية الفكرية التابع لمجلس الوزراء، ولكننا ندعم حقوق الملكية الفكرية قبل الحصول على براءة الاختراع من خلال مركز التسويق ونقل التكنولوجيا بالأكاديمية، نعمل على وضع وتطبيق سياسات واضحة للملكية الفكرية، تضمن أن يكون كل طرف على دراية كاملة بحقوقه والتزاماته منذ البداية. فالهدف الأساسى هو خلق بيئة آمنة وعادلة تشجع الباحثين على التعاون مع الصناعة دون التخوف من ضياع حقوقهم. فعلى سبيل المثال، إذا كان لدى الباحث بحث علمى وتم التعاون مع جهة صناعية، فإن سياسات الملكية الفكرية توضح بشكل مسبق ما هى حقوق الباحث، وما هى حقوق الجهة الصناعية، ونسب العوائد المالية المتوقعة من استغلال المخرجات البحثية، إضافة إلى آليات حماية هذه الحقوق، ويتم العمل على هذه السياسات مع الباحثين قبل التقدم بتسجيل براءات الاختراع، لضمان وضوح الصورة لدى جميع الأطراف. كما أن الأكاديمية، بصفتها جهة ممولة، يكون لها جزء محدد من حقوق الملكية الفكرية، وهو أمر يتم تنظيمه بشكل شفاف وواضح. ما هو دور بنك المعرفة المصرى فى دعم البحث العلمى والتعليم؟ - بنك المعرفة المصرى له دور محورى وأساسى فى دعم البحث العلمى والتعليم على حد سواء، فهو «هدية السيد الرئيس للمصريين»، وهى هذه ليست عبارة مجازية، بل توصيف حقيقى لمبادرة قومية انطلقت منذ ما يقرب من عشر سنوات سنة 2016، وكان هدفها الأساسى ترسيخ مبدأ ديمقراطية المعلومة. اليوم، يحق لأى مواطن مصرى يحمل رقمًا قوميًّا أن يدخل على بنك المعرفة، ويجد أمامه إتاحة كاملة لمصادر معلومات ضخمة ومتنوعة، تخدم مختلف فئات المجتمع وفى شتى المجالات، من التعليم المدرسى إلى التعليم الجامعى، مرورًا بالتدريب والتثقيف العام. وعلى مستوى البحث العلمى تحديدًا، يقدم بنك المعرفة قيمة استثنائية للباحثين، حيث يتيح الوصول المجانى إلى كبرى دور النشر العالمية والدوريات العلمية المتخصصة فى مختلف التخصصات، هذه الموارد عادةً ما تكون مرتفعة التكلفة، إذ قد تصل تكلفة الاطلاع على بحث واحد إلى عشرات الدولارات، وهو ما يشكّل عبئًا كبيرًا على الباحثين، لكن بنك المعرفة يتكفل بإتاحة هذه الموارد دون أى تكلفة على الباحث، من خلال اشتراكات قومية ضخمة تضم ملايين الأبحاث والمراجع العلمية. هذا الإتاحة المفتوحة والمستمرة لأحدث الأبحاث العالمية تُمكّن الباحث المصرى من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه العلم فى مجاله، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على تحسين جودة البحث العلمى، ورفع مستوى الإنتاج البحثى، وضمان أن تكون الأبحاث الجديدة مبنية على أحدث المعارف المتاحة عالميًا. وباختصار، فإن بنك المعرفة المصرى لا يكتفى بدعم التعليم والبحث العلمى، بل يضع الباحث المصرى فى قلب المنظومة البحثية العالمية، ويمنحه أدوات حقيقية للمنافسة والإبداع. إتاحة المعرفة بهذا الشكل الواسع من خلال بنك المعرفة المصرى انعكست بشكل مباشر على جودة البحث العلمى فى مصر. فكلما تحسّنت جودة الأبحاث المنشورة، ارتفع تصنيف الجامعات المصرية على المستويات الدولية، وأصبح تقييم مخرجات البحث العلمى الصادرة من جامعاتنا أكثر تنافسية عند مقارنتها بنظيراتها عالميًا. وهذا ليس مجرد تصور نظرى، بل أمر لمسناه عمليًا. اليوم، أصبح الباحث المصرى قادرًا على الاطلاع على أحدث ما نُشر عالميًا فى مجاله لحظة بلحظة، وهو ما انعكس على نوعية النشر العلمى. فبعد أن كانت الأبحاث تُنشر عبر مختلف الفئات التصنيفية للدوريات العلمية (Q1 إلى Q4)، شهدنا خلال العامين أو الثلاثة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا فى جودة النشر، حيث أصبحت نسبة كبيرة من الأبحاث المنشورة تقع فى الفئتين الأعلى Q1 وQ2، وهو ما كان له أثر مباشر وإيجابى على تصنيف الجامعات المصرية دوليًا. ولا يقتصر التأثير على البحث العلمى فقط، بل يمتد إلى العملية التعليمية نفسها. فعندما يمتلك عضو هيئة التدريس إمكانية الوصول إلى أحدث المعارف العلمية أثناء إعداد محاضراته، يصبح المحتوى التعليمى أكثر حداثة وارتباطًا بما يجرى عالميًا، وهو ما لا ينعكس إيجابًا على مستوى الطلاب وجودة التعليم الجامعى. وقد حظى بنك المعرفة المصرى بتقدير دولى واضح، حيث أعدّت منظمات دولية مثل اليونسكو واليونيسف دراسة حالة عنه، واعتُبر واحدًا من أفضل المكتبات الرقمية على مستوى العالم، وبذلك، أصبح بنك المعرفة المصرى نموذجًا رائدًا لكيفية توظيف المعرفة الرقمية فى دعم البحث العلمى، وتحسين التعليم، وتعزيز المكانة العلمية لمصر إقليميًا وعالميًا.