أحمد عبد اللطيف أول ما يلفت الانتباه فى معرض العراق للكتاب (من 3 إلى 13 ديسمبر)، الذى تنظمه مؤسسة المدى، الموسيقى المنتشرة فى ربوعه كأنها موسيقى تصويرية للأحداث، موسيقى عراقية لا تخلق أجواءً مريحة فحسب، ولا هى على سبيل الترحيب، بل، فى الأساس، تعبير عن الهوية والتمسك بها وإنعاش للذاكرة، كأن المعرض المنطلق من الكتاب يعود إليه كحافظ للهوية عبر الموسيقى، أو كأن السماعى والمكتوب يتضافران معًا غير أن الموسيقى لا تختص بالمعرض لوحده، فحتى متحف بغداد، المجاور لشارع المتنبى الشهير، يضع موسيقى لكل حدث تراثى أو تقليدي، فالمتحف (فى شكل بيت متسع) مقسّم إلى غرف تضم تماثيل لكل منها مناسبة اجتماعية، من الحنة إلى الزفاف، من الموت والتعديد إلى جلسات الرجال، من الخبيز والعجين إلى إعداد الحمص، انتقالًا إلى تماثيل للمهن الأصيلة مثل النجارة والجزارة وبيع اللبن فى المتحف موسيقى لكل مناسبة، وفى المعرض موسيقى فولكلورية تعيد إلى الأذهان بغداد القديمة التى ظهرت فى «ألف ليلة وليلة»، وفى الشارع والسوق ثمة تأكيد على هذه الهوية. بالإضافة للبعد السمعي، وتضمن كذلك حفلات موسيقية، حاول معرض العراق خلق احتفالية ثقافية متكاملة، ففى البعد البصرى أُقيم مسرحُ عند المدخل لعرض مسرحيات قدمها معهد الفنون الجميلة، وعروض من مسرح العرائس للأطفال. توزعت جلسات المعرض (وأغلبها ضيف ومحاور ما أتاح الفرصة للضيوف من كُتّاب وسياسيين وفنانين بالتحدث أكثر عن وجهات نظرهم)، بين الأدب والفن والسياسة، وكان لافتًا وإن لم يكن غريبًا مساحة الحرية التى تناولت قضايا عراقية معاصرة ويومية مثل: الانتخابات وتداول السلطة والديمقراطية، ولعل تعدد الجلسات السياسية يحيلنا إلى واقع العراق الحالى وما يشغله من قضايا، وإن قلنا إن القضية السياسية شغلت مكانًا فى الجلسات، يمكن أن نقول إنها فى النهاية كانت بين قوسين، فالأمسيات الشعرية مثل أمسية الشاعر العراقى أحمد عبد الحسين والسورى حسين بن حمزة، منحت بعدًا جماليًا للمعرض، رغم أنها لم تنفصل كذلك عن الواقع العربى العراقى منه واللبناني. شارك كاتب هذه السطور بجلسة عن الرواية المصرية الجديدة والقاهرة وتحولاتها أدبيًا من نجيب محفوظ إلى الآن، وشاركت الكاتبة الكويتية دانة مدوه فى جلسة بعنوان الكتابة فى زمن العزلة، ولأن المعرض انطلق تحت عنوان 100 نون عراقية، كان الحضور النسائى لافتًا، ولعل جلسة أنثى المعنى قراءة فى المشهد النقدى النسائي وتحدثت فيه د.زينة محجوب ود. عزيز الموسوي، وجلسة تطويع السردية النسوية فى الرواية، وشاركت فيها فاطمة بدر وحلا حمزة، تمثيل لطرح قضايا المرأة فى المجتمع العراقى سواء فى عقود ماضية أو الآن. فى هذا السياق شاركت دينا صدوق ورتاج خليل ومريم العكيلى وانتصار الميالى ورشا الربيعي، بتقديم على بدر، فى جلسة نروى ما لا يروى للاقتراب من لغة تعبر عن الآن عبر كتابات نسائية شابة. فيما تحدثت نهلة النداوى عن مشروع كتاب يخص تاريخ النساء العراقيات من عام 1940 وحتى مطلع الخمسينيات، باعتباره جيلاً من النساء نشأ فى الفترة الملكية ثم تشكل مع الجمهورية. تناولت سارة الصراف فى جلستها الرواية التاريخية، وذهبت إلى أن رواية توثق الحرب يجب ألا تجنح إلى الخيال، وأن تلتزم بالموضوعية والدقة، فيما تناولت جليلة السيد وإيمان يوسف موضوع كيف ترصد الرواية العربية تغيرات المجتمعات، وذهبت المتحدثتان إلى مسئولية الرواية عن رصد هذا التحول مع الاعتراف بتغيرات المدن العربية فى السنوات الأخيرة. وفى حوار مفتوح معها، أداره الكاتب لؤى حمزة عباس، تحدثت الشاعرة إيمان مرسال عن تجربتها فى الكتابة النثرية من عن الأمومة وأشباحها إلى فى أثر عنايات الزيات، وهى تجارب نثرية لاقت نجحًا ملفتًا. لم يغب تناول المسرح عن الجلسات، إذ استضاف المعرض عواطف نعيم وتناولت إحدى الندوات بحضورها تجربتها عن مسرحية نساء لوركا، وامتدادًا لفكرة المعرض الرئيسية جاءت جلسة قضايا النسوية فى الواقع الثقافى العراقى الراهن. استطاع المعرض، الذى تنظمه دار المدى برئاسة الكاتب والسياسى فخرى كريم، أن يعيد للأذهان صورة العراق القديمة المترسخة فى العقل العربي: بلد الموسيقى والثقافة والفنون، البلد النابض بالحياة وبحب الكتب والقراءة، ولعل إقامة مسرح الجلسات فى منتصف المعرض وتخصيص حوار منفرد مع كاتب، ساهم بشكل كبير فى امتلاء اللقاءات بالحضور كما ساهم فى إلقاء الضوء على تجربة كاتب، بعيدًا عن ازدحام المنصة وفراغ القاعات ما يحدث فى معارض عربية أخرى، وكان هذا الحضور انعكاسًا للعطش للمعرفة، فى لقاءات الكُتّاب غير العراقيين، ومحاولة للتواصل والفهم، فى حالات الكُتّاب والسياسيين العراقيين. والحقيقة أن المعرض بأجوائه يمنح زائره الأمل فى أن العراق المثقف يعود بقوة للمشهد الثقافى بعد أن توارى وراء أخبار الحرب والخراب، فرغم سنوات الدمار والاحتلال لا يزال لدى الناس شغف القراءة والمعرفة والإنصات للفنون ورؤيتها، حتى فى تنوع زوار المعرض ومقدمى فقراته الفنية، من أطفال وفتيات جامعات ونساء من أعمار مختلفة، مرآة لمجتمع تشكّل الثقافة مكوّنه الرئيسي. لقد حدث كل ذلك محاطًا بمشهد لا يخلو من فن رفيع فى اختيار الألوان والبانرات وتنظيم الكافيهات بالخارج والداخل، ومحاطًا بتنظيم لافت سواء فى اختيار الضيوف أو الموضوعات الراهنة، وطرح أسئلة تخص الآن بقدر ما تخص التاريخ والمستقبل، وجاءت الجلسات ممتعة وموسوعية وجاذبة، ما يعنى أن وراء هذا المعرض عقولاً تعرف بدقة سؤال الثقافة كما تعرف سؤال المجتمع واحتياجاته وتدرك المرحلة الانتقالية بكل ما فيها من توتر والتباس، وتقرر أن تكون الثقافة إحدى دعائمها. فى النهاية، أكثر من كونه معرضُا للكتاب، كان معرض العراق كرنفالًا ثقافيًا يحتفى بالتنوع الثقافى والفنى كما يحتفى بالاختلاف.