عبد الرحمن نصر كصخرة أُلقيت فى بركة ماء راكدة، صنعت تموجاتٍ أربكت سكونها، كان هذا تمامًا أثر رواية طرق متنوعة لقتل النمل فى نفسى وبرغم سخريتها السوداء التى تُخفى خلفها وجعًا مقيمًا، لم أملك إلا أن أرسم بسمة صغيرة وأنا أتابع صفحاتها الأولى، تلك البسمة التى لا تأتى من الطرافة، بل من اعترافٍ داخلى بأن ما يُروَى هنا مألوفٌ حدّ الألم. محمد الفولى، الكاتب والمترجم، قدّم رواية قصيرة صدرت عن دار الشروق، لكنها لا تُقاس بعدد صفحاتها، بل بقدرتها على تحريك ما نظنه ساكنًا فينا، وعلى تحويل الطفولة إلى مرآةٍ نرى فيها هشاشتنا نحن الكبار ففى حين يُفترض أن تكون الطفولة ملاذًا للبراءة، يجعلها الفولى حلبةً صغيرة لتجارب القهر الإنسانى، وكأن العالم كلّه قد تقلّص إلى بيتٍ ضيقٍ وغرفة دراسة وأبٍ لا يعرف سوى اليد والعقاب وسيلةً للنجاة من الضعف. يُروَى العمل على لسان الطفل وحيد فهيم، تلميذ الصف الثالث الابتدائى، الذى يحب جون سينا، والمانجو الإسماعيلاوى، واللغة العربية ليس حبًا مدرسيًا باردًا، بل افتتانًا يجعل الطفل يرى نفسه «إمبراطورًا للغة»، ويحلم بأن يصبح يومًا رئيسًا لمجمعها. ومن خلال هذا الحلم البسيط، يرسم الفولى مفارقةً مؤلمة: فبينما يسعى وحيد لتقويم اللغة، تعجز الحياة نفسها عن أن تقوم على معنى مستقيم. وحين يحاول أن يغيّر ترتيب الكلمات، يدرك أنه أعجز من أن يغيّر ترتيب مصيره. يحيا وحيد فى كنف أبٍ قاسٍ، الحاج فهيم، الذى يؤمن أن الرجولة تُصنع بالضرب، وأن الألم هو أصدق وسيلة للتربية. فيكره وحيد مادة الرياضيات، لأن «جدول الضرب» لا يذكّره بالمعادلات بل بوقع اليد على الجسد، وبالدوائر التى لا تنتهى من العنف. لكن هذا الكره ليس كرهًا للعلم، بل كرهًا للسلطة التى تتخفّى وراءه، كما لو أن النظام المدرسى نفسه امتدادٌ لعقيدة الأب: كل شيء يجب أن يُحفظ ويُكرَّر ويُنفَّذ دون نقاش، لأن التفكير خطيئة، والسؤال بداية انحراف. ومن رحم هذا الألم، يبدأ وحيد فى ممارسة سلطته الطفولية على كائنات أضعف — على النمل — محاولًا أن يوقف دورة الضرب عبر نقلها إلى كائنٍ آخر. وكأنّه بذلك ينتصر، أو يتنفّس. النمل هنا ليس مجرد تفصيلةٍ طريفة فى العنوان، بل استعارةٌ مكثفة لحالةٍ إنسانية متكررة: حين يُسحق الإنسان، يبحث عمن يسحقه بدوره ليشعر أنه موجود. وحين يعجز عن حماية نفسه، يمارس القسوة كتعويضٍ بدائى عن العجز. لا تكتفى الرواية بتداول العنف من منظور الطفولة، لكنها تمتد أيضًا إلى المرأة بصفتها حلقةً أخرى ضعيفة فى هذا المجتمع، مثلها مثل الطفل. ف «وحيد» يشاهد أباه يضرب أمه وينهرها، فتتكون لديه صورةٌ مشوّهة عن العلاقة بين القوة والحنان. ويتعلم، دون أن يدرى، أن العنف يمكنه أن يصبح وسيلة للتطهير وتكفير الذنب؛ إذ نرى وحيد يذهب لأمه كى تضربه وتكمل دورة العنف. عند هذه اللحظة تحديدًا، يشعر الطفل وحيد أنه يتطهر كما يتطهر الثوب الأبيض من الدنس. فيخلط بين الألم والغفران، بين الإثم والتوبة. تلك المفاهيم المعوجّة هى ما تصنع عالمه الداخلى، عالمًا يبدو منطقيًا بعيون الكبار، لكنه فى عين الطفل عبثٌ مطلق. ومع ذلك، يحاول وحيد، بمنظوره الطفولى البرىء، أن يُصلح قليلاً فى معنى الأشياء. فهو، بلغته الخاصة، يعيد تعريف العالم كى يصبح أكثر احتمالًا. نجده يقول: «ماما: شيء جميل مثل المانجو الإسماعيلاوى». تعريفٌ بسيط وساذج، لكنه يحمل محاولةً لإنقاذ اللغة من شوائب البيت، ولإيهام نفسه بأنه قادر على تحقيق انتصارات صغيرة داخل عالمٍ لا يعرف الرحمة. تتسع الرواية لتصوّر مفردات الحياة اليومية المليئة بالتناقضات: أمّ تُضرب، وطفل يُعاقَب لأتفه الأسباب؛ كأن يشرب من الزجاجة بدل الكوب، أو يرقص مع أمه فى لحظة فرحٍ عابرة. فى هذا البيت، تتجاور القسوة مع الحنان المقموع، وتختلط مفردات الحب بالعقاب، حتى يصبح الأذى شكلاً من أشكال العاطفة. الكاتب يُبرز هذا التناقض بأسلوبٍ لغوى واعٍ، إذ يجعل من اللغة ذاتها ميدانًا للصراع. فالطفل الذى يعشق العربية يعيش فى بيتٍ لا تُفهم فيه الكلمات على حقيقتها: الأب يستخدمها كسلاحٍ للتهديد، والأم تلوذ بها كاستغاثة، والمدرسة تعيد إنتاجها كأوامر. وهكذا تتحول اللغة من وسيلة تواصل إلى وسيلة قهر، ويصبح حلم وحيد بإعادة تعريف الكلمات نوعًا من الثورة الطفولية ضد المعنى الفاسد، وضد نظامٍ لغويٍّ واجتماعيٍّ لا يُصلح شيئًا لأنه قائم على التلقين لا الفهم، وعلى الخوف لا الحب. وفى الوقت نفسه، يكتب الفولى نصًا لغويًا مشحونًا بالحس السمعى والبصري؛ فصوت العصا، وصدى الخطأ، ووقع الخطوات فى الممر، جميعها تتحول إلى موسيقى خفية تُنذر بالعقاب. لكن هذا العنف لا يُروى بدموعٍ ولا بعاطفة مباشرة، بل بتهكمٍ ذكى ووعيٍ ساخر. فوحيد لا يصرخ، بل يبكى فى صمتٍ كما يليق بالرجال، كما علّمه أبوه الحاج فهيم؛ يخبّئ دموعه خلف كلماتٍ يحاول أن يرتبها على نحوٍ صحيح، كأن اللغة وحدها يمكن أن تُصلح ما أفسده الألم ومن خلال هذا الصمت المتماسك، يكشف النص عن مأساة أعمق: فشل مؤسسات كاملة — من البيت إلى المدرسة — فى إدراك أن التربية ليست صناعة للطاعة، بل محاولة لفهم الإنسان. من جهة أخرى، تُذكّرنا الرواية بأن الطفولة ليست مرحلة زمنية فحسب، بل بنية نفسية تظل حاضرة فينا. فكل واحدٍ فينا يحمل «وحيدًا» صغيرًا فى داخله، يراقب العالم بعينٍ مرتابة، يحاول تفسير الكلمات، ويتألم من اللاعقل فى كل ما حوله. والكاتب يستفيد من هذه النقطة ببراعة، إذ لا يجعل القارئ يرى وحيد كطفلٍ غريب عنه، بل كصوتٍ داخلى مألوف، كنسخةٍ قديمة من ذاته كان قد نسيها أو تجاهلها. السرد يسير بخفةٍ لا تُخفى عمقه، وبسخريةٍ لا تلغى المرارة. فالفولى يستخدم الكوميديا السوداء لا ليُضحكنا، بل ليُعرّينا من حساسيتنا الزائفة. فالضحك هنا يمكن أن يصبح محظورًا أخلاقيًّا؛ إذ سرعان ما يتحول من ضحكٍ على الموقف إلى ضحكٍ خجولٍ من الذات، كأن القارئ اكتشف أنه يبتسم على وجعٍ لا يُحتمل. ومن خلال هذه التقنية، يتلاعب الكاتب بحدود الشعور الإنسانى، فيجعلنا ننتقل من التسلية إلى التأمل، ومن الضحك إلى الإدانة، دون أن نشعر بالانتقال. ورغم قصر الرواية — التى لا تتجاوز مئة صفحة — فإنها مشبعة بالأسى، تمامًا كحياة بطلها التى فاقت عمره فى النضج والتجربة. هى رواية تُقرأ بسرعة، لكنها تُقيم فى الذهن طويلاً. لا لأنها مأساوية فحسب، بل لأنها تُفكّك عالماً بأكمله: عالم السلطة الأبوية، واللغة الفاسدة، والمدرسة بوصفها مصنعًا للعقاب، والمجتمع الذى يربط بين الرجولة والقسوة، والحنان بالصمت. حين نغلق الكتاب، ندرك أن الفولى لم يكتب عن النمل ولا عن القتل، بل عن الإنسان حين يضعف فيبحث عن كائنٍ أضعف منه، وعن اللغة حين تفقد طاقتها على الإنقاذ. كتب عن المعنى حين يُقتل، والطفولة حين تُدفن تحت ركام الكبار. عن ذلك الطفل الذى لا يريد قتل النمل، بل يريد أن يفهم لماذا يُضرب، ولماذا يصمت الجميع. «طرق متنوعة لقتل النمل» ليست مجرد رواية قصيرة؛ إنها مرثية لبراءة مفقودة، واحتجاج ساخر على عالمٍ اختلطت فيه التربية بالعنف، والتعليم بالتلقين، واللغة بالسلطة. وحين نصل إلى النهاية الصادمة فى صفحات الرواية الأخيرة، نكتشف أن محمد الفولى لا يسائل الطفولة فقط، بل يسائلنا جميعًا: كم من النمل قتلناه نحن، ونحن نظن أننا نحمى أنفسنا من الألم؟