تربي لوجه الله، إعلان وظيفة رسمية للعمل بجبانات أسيوط يثير الجدل ومتابعون: هيعيش على الصدقات    عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت بعد الارتفاع بالصاغة    بعد انخفاض الأسعار.. أرخص سيارة هيونداي في مصر    حزب الله يستهدف 6 مواقع لجيش الاحتلال في القطاعين الشرقي والغربي من جنوب لبنان    بايدن: إنتاج أول 90 كجم من اليورانيوم المخصب في الولايات المتحدة    شعبة المخابز: مقترح بيع الخبز بالكيلو يحل أزمة نقص الوزن    فودة وجمعة يهنئان أسقف جنوب سيناء بسلامة الوصول بعد رحلة علاج بالخارج    بعد سنوات من الغياب.. «مراكز متقدمة للجامعات المصرية فى «الآداب والعلوم الإنسانية»    الوداع الحزين.. ليفربول خارج الدورى الأوروبى    الإفتاء: التجار الذين يحتكرون السلع و يبيعونها بأكثر من سعرها آثمون شرعًا    بيان عاجل من الجيش الأمريكي بشأن قصف قاعدة عسكرية في العراق    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق اليوم السبت 20 أبريل 2024    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    الوزيرة فايزة أبوالنجا    وزير الخارجية الإيراني: سنرد على الفور إذا تصرفت إسرائيل ضد مصالحنا    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    بركات قبل لقاء الأهلي: مباراة مازيمبي وبيراميدز شهدت مهازل تحكيمية    كرة يد.. تعليمات فنية مطولة للاعبي الزمالك قبل مواجهه الترجي التونسي    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    "شقهُ نصُين".. تشييع جثة طفل لقي مصرعه على يد جاره بشبرا الخيمة (صور)    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    ضبط نصف طن لحوم فاسدة قبل استعمالها بأحد المطاعم فى دمياط    بالأسماء ... ارتفاع ضحايا حادث تصادم بالدقهلية إلى 10 مصابين ومتوفى    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    حدث بالفن| وفاة صلاح السعدني وبكاء غادة عبد الرازق وعمرو دياب يشعل زفاف نجل فؤاد    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الادب الافغاني في حظيرة طالبان
البستان
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 13 - 09 - 2021

موصومة أفغانستان، بطالبان، فلا يرد ذكر أفغانستان إلا وتستدعى الذاكرة القتل والاغتيال، والعنف ضد المرأة والفكر المتشدد غير المستنير الذى يقف من الفكرة والثقافة والحوار موقف العدو.
عانى الأدب الأفغانى فى العقود الثلاثة الأخيرة، مرة من الاحتلال السوفياتى، ومرات من حركة طالبان، ثم من دوامة الوجود الأمريكى، وها هو يعود من جديد إلى حظيرة طالبان بعد أن رحلت أمريكا وأعلنت الحركة سيطرتها من جديد على كامل التراب الأفغانى .
كان لسيطرة طالبان على أفغانستان خلال التسعينيات تأثير خطير على المجتمع عامة والثقافة بشكل خاص. فقد سعت «طالبان » لإفراغ أفغانستان من ثقافته وتاريخه الذى يعود لآلاف السنين، مقابل تأسيس ثقافة جديدة، ولكن بمفهوم خاص وبتطبيق صارم وأعمى للشريعة الإسلامية. وبسبب طالبان غاب الأدب الأفغانى عن الساحة الأدبية العالمية، رغم التنوع الأدبى الذى يتمتع به والذى يستند الى ثروة عرقية، وثنائية لغوية باعتباره أحد الآداب الفارسية. ونتيجة صراعات العقود الأخيرة أصبح أدباء أفغانستان (أبرزهم: سيد بهاء الدين مجروح، خالد حسينى، عتيق رحيمي، وزرياب) أكثر اهتماما بقضايا الحرب والصراعات الدينية والانقسام العرقى والجسد ولغة الكتابة، وحرية المرأة.
من جديد عادت طالبان لصدارة المشهد والحكم من جديد، فماذا عن مستقبل الأدب والفن والثقافة تحت حكم الحركة؟
الإجابة تحتاج أن نستعرض قصة الفكر والثقافة فى أفغانستان فى العقود الثلاثة الأخيرة.
الادب الافغاني المعاصر
د. عثمان بوطسان
عاش الأدباء والمثقفون الأفغان عبر التاريخ وضعا قاسيا وقاتما، خاصة فى عهد طالبان. ارتبط القمع والتعذيب والعنف والاضطهاد ضد المثقفين بشكل أساسى بتاريخ أفغانستان المعاصر. إن المعاملة اللاإنسانية للمثقفين الأفغان، وقبل كل شيء البربرية غير المسبوقة التى تعرضوا لها من قبل طالبان فى القرنين العشرين والحادى والعشرين، تكشف بشكل واضح عن قسوة العنف الذى استهدف رجال ونساء الأدب فى هذا البلد. فلفرض قيمها القبلية والظلامية، حظرت طالبان الفنون والشعر وفرضت قيودًا، بما فى ذلك حظر استنساخ الصور والمنحوتات واللوحات. وكان المثقفون الذين لا يحترمون هذه القيود يعانون من جميع أنواع التعذيب والسجن والعنف. بالرغم من كل هذه المخاطر، ظل المثقفون الأفغان ملتزمون بالدفاع عن حقوقهم، حيث شكل الفضاء الأدبى أحد معاقل المقاومة الفكرية وتعبيرا عن الاستمرارية الثقافية فى سياق اختلطت فيه خطابات الحرية والهوية الممزقة بصرخات العنف وصوت الرصاص والشوارع الملطخة بالدماء. ولا يمكن الحديث عن الأدب الأفغانى المعاصر دون الرجوع إلى أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية والثقافية التى ساهمت فى بروزه وتطوره وغيابه عن الساحة الأدبية العالمية لسنوات عديدة. يتميز الأدب الأفغانى اليوم ليس فقط بتعدد الأجناس الأدبية، ولكن أيضًا بثرائه وتنوعه الأسلوبى والبلاغي. إذا كانت كتابات السيرة الذاتية فى أفغانستان قد برزت بشكل لافت للنظر لأكثر من ثلاث عقود، فذلك لأن الشعور بالنقص والهوية الوجودية شكلا جوهر الكتابة. سعى الأدب الأفغانى المعاصر إلى ربط الكتابة بالحالة النفسية للذات الكاتبة من خلال إعادة سرد الأحداث التى مر بها الكتاب. فالبرغم من تفرده، يعانى من قلة القراء بسبب الصورة النمطية التى نشرتها وسائل الإعلام الغربية حول أفغانستان والتى ارتبطت بقضية طالبان والإرهاب فى أذهان كل من يتجاهل خصوصيات وتاريخ هذا البلد.
السياق التاريخى والسياسي
لدراسة أى أدب، يتجه الباحثون غالبا إلى تسليط الضوء على سياقه التاريخى الثقافى الذى يشكل الإطار المرجعى الذى تندرج فيه معظم الأعمال الأدبية. لطالما عمل الأدباء الأفغان على تقديم أعمال أدبية تستمد مرجعيتها وخصوصياتها ومواضيعها من الأزمات التى عصفت بأفغانستان منذ الثلاث عقود الماضية. لذلك، تعود نشأة الأدب الأفغانى المعاصر إلى سياق تاريخى وثقافى تميز بتداخل الأحداث السياسية والاجتماعية المأساوية التى أجبرت العديد من المبدعين والفنانين والكتاب على مغادرة البلاد بحثًا عن السلام والحرية التى تضمن لهم حق التعبير عن نزعاتهم الايديولوجية والفكرية. نشأ الأدب الأفغانى المعاصر كردة فعل تجاه الأعمال الظلامية والمتعصبة التى فرضتها مجموعة من الأنظمة السياسية الاستعمارية الأجنبية كالاحتلال السوفييتي، وصولا إلى نظام طالبان الذى بسط سيطرته على البلاد وجعل منها سجنا ومقبرة لكل المعارضين. لذا، حاول الأدباء الأفغان مقاومة هذا المد الطائش من خلال الكتابة، فى محاولة منهم إلى إعادة التفكير فى التراث الأفغانى الذى كان الضحية الأولى لهذه الأنظمة لسنوات عديدة. برز الأدب الأفغانى المعاصر إذن، كردة فعل ضد الواقع المتدهور الذى عرفته أفغانستان منذ عام 1978. إلا أن معظم الأعمال الأدبية تم تجاهلها فى البداية، وذلك لسببين رئيسيين: أولا، كانت معظم الإنتاجات الأدبية قد صدرت خارج أفغانستان بسبب الرقابة وبالتالى عدم وصولها إلى القارئ الأفغاني، بحيث ظلت لسنوات خارج الحدود الأفغانية. ثانيا، إقدام السلطات السوفييتية على حرق كل الأعمال التى كانت تتنافى مع الفكر الشيوعى والتى كانت تدعو إلى تشكيل حركة المقاومة من خلال فضح الوجه الآخر للمستعمر عبر نصوص دموية تعكس بطش وظلم السوفييت.
كل هذه الظروف ساهمت فى بزوغ تيار أدبى جديد سمى بأدب المنفى. فغالبية الكتاب الأفغان الذين اختاروا المغادرة إلى باكستان أو إيران أو أوروبا أو الأمريكتين، كانوا قد أخذوا معهم إنتاجاتهم وذكرياتهم المظلمة فى ظل حكم السوفييت ونظام طالبان. فقد ساهمت الأزمات السياسية فى تطور الأدب الأفغانى بشكل ملموس خارج أفغانستان، خاصة فى باكستان وإيران نظرا للجغرافيا واللغة المشتركين. كان لسيطرة طالبان على أفغانستان خلال التسعينيات تأثير خطير على المجتمع عامة والثقافة بشكل خاص. فقد كان لهذه الحركة رأى آخر يتمثل فى إفراغ أفغانستان من ثقافته وتاريخه الذى يعود لآلاف السنين، فى محاولة منها لتأسيس ثقافة جديدة تقوم على التطبيق الصارم والأعمى للشريعة الاسلامية. فأول ما قامت به هذه الحركة الظلامية تدمير تماثيل بوذا العملاقة فى وادى باميان، بدعوى أنها أصنام. ومن بين التماثيل التى تم تدميرها تمثالان ضخمان مشهوران لبوذا يرجع تاريخهما لأكثر من 1500 سنة يصل طول أحدهما 53 م والآخر 38 م. وبحسب لطيف بيدرام (Latif Pedram)، فإن حركة طالبان كانت تشكك فى الفن وتنفى تمامًا كل مظاهره، وهذا ما أجبر الفنانين الأفغان على البحث عن منطقة أخرى من أجل التعبير عن أنفسهم بحرية. لا يقتصر السياق التاريخى والسياسى الأفغانى على هذه الأحداث، فأبرز فترة عرفها التاريخ الأفغانى المعاصر هى التى تمتد من 1978 إلى 2001 والتى كان لها صدى قوى فى الكتابات الأدبية. فقد تميزت هذه الفترة على غرار توغل السوفييت وسيطرة طالبان على الحكم، بمقتل الملك داوود وقيام نظام نجيب الله ونظام برهان الدين ربانى وخاصة مقتل الشاه مسعود الذى سيتحول إلى رمز أسطورى للمقاومة والبسالة وشخصية بارزة فى جل الأعمال الأدبية الأفغانية. تشكل هذه الأحداث إذن الإطار الزمنى والتاريخى للأدب الأفغانى المعاصر. فجل الأدباء الأفغان المعاصرين عاشوا هذه الأحداث وجعلوا منها مرجعا لمؤلفاتهم التى تميل إلى السيرة الذاتية أو الأدب الملتزم. فقد حاولوا أن يظهروا، كل على طريقته، وحشية هذه المأساة التى عاشها الأفغان من خلال فضح جرائم الأنظمة الموالية للسوفييت وحركة طالبان، والدفاع عن الهوية الوطنية الأفغانية التى تصبح فى خطر كلما سيطرت حركة طالبان على حركة الحكم.
تميز السياق التاريخى والسياسى بتراجع مستوى الثقافة فى أفغانستان. إن الحياة الأدبية لم تتقدم بالشكل الذى كان ينبغى أن تتقدم به، وهذا منذ أكثر من ثلاث عقود من الصراعات والحروب الطاحنة. ولا شك فى أن هذا التعثر يرجع بالأساس إلى التضييق والتهديد بالموت الذى كان يخيم على الساحة الأدبية والذى كان سببا فى فرار معظم المبدعين خارج أفغانستان فى محاولة منهم للنجاة من شر السوفييت وحركة طالبان. فالثقافة هى جزء لا يتجزأ من جسد المجتمع، وبالتالى فالتراجع الذى حصل فى أفغانستان، خاصة على المستوى السياسى والإيديولوجى كان له أثر على المجال الثقافي. ولابد من الاشارة هنا إلى أن وصول حركة طالبان للحكم فى التسعينيات كان السبب الرئيسى فى حجب الأدب الأفغانى وتغييبه عن الساحة الأدبية العالمية، نظرا للصورة الظلامية التى سوقتها وسائل الإعلام عن أفغانستان وحصرتها فى طالبان والأعمال الإرهابية، متناسية تاريخا عريقا وثقافة غنية تميز هذه البلاد عن غيرها من البلدان.
التعددية اللغوية والعرقية
بغض النظر عن السياق التاريخى والسياسى المتأزم والانقسام الدينى الكبير الذى تعرفه أفغانستان، يجب التذكير أن هذه البلاد تتميز أيضا بتنوعها العرقى واللغوي. إذ تنقسم أفغانستان إلى اثنتا عشرة مجموعة عرقية وتستخدم فيها لغتين رسميتين هما الباشتو والداري. إلا أن مجموعة من علماء الاجتماع والانثروبولوجيا كرافان فرهادى (Ravan FARHADI) لاحظ استخدام اثنتين وثلاثين لغة مختلفة فى آسيا الوسطى، اثنتا عشرة منها يتم التحدث بها فى أفغانستان فقط. وقد كتب فى هذا الصدد أنه «بالنسبة للباحث الذى سيدرس تاريخ لغات هذه القارة، فإن أفغانستان لوحدها جنة - إنها بداية ونهاية كل شيء». فى نفس السياق، أشار أوليفييه روا (Olivier Roy) فى كتابه «بحثًا عن الشرق المفقود»، أن أفغانستان تقدم جنة لعلماء الأنثروبولوجيا وألهمت أدبًا أنثروبولوجيًا رائعًا يتسم بالبراعة والعمق، خاصة أعمال ميشلين وبيير سينتليفر (Micheline et Pierre Centlivres). هذه التعددية اللغوية والعرقية ستؤثر بشكل أكبر على الإنتاج الأدبي. فقد لعبت اللغة دورا مهما فى انتشار الأدب، خاصة لدى المتحدثين بالفارسية. ويتميز الأدب الأفغانى على غرار باقى الآداب الفارسية بمساحة لغوية غنية جدًا تتأسس على الثنائية اللغوية. اذ غالبًا ما يميل الكتاب الأفغان الناطقون بالفرنسية أو الإنجليزية إلى خلق نصوص تتسم بثنائية اللغة مستمدة من هذا التنوع اللغوى من خلال إدراج اللغة الفارسية.
عتيق رحيمي
ويبرر الحضور الهائل للغة الفارسية فى الأعمال المكتوبة باللغات الأجنبية الأهمية المعطاة للغة الأم. بهذه الطريقة يعبر الأدباء الأفغان عن انتماءهم وتشبتهم بوطنتيهم.
كما ساهمت التعددية العرقية أيضا فى ظهور الأدب الشعبى والفلكلورى المكتوب بالفارسية الدارية والأوزبكية والباشتو. تشكل الثروة العرقية أساس التنوع الأدبى الأفغاني. لقد ابتكر الأفغان أدبًا شعبيًا كالأعمال الشعرية الملحمية أو ما يسمونه بكتب «الحرب الشعرية»، التى غالبًا ما يكون أبطالها مجهولى الهوية وذو أصل شعبي. تعكس هذه الاعمال التنوع العرقى والتجربة الجماعية للتاريخ الأفغانى الحديث. كما أنها تعكس القيم والأعراف العرقية الأفغانية، بما فى ذلك الصراع بين المذهب السنى والشيعى الذى ما يزال قائما إلى يومنا هذا. ووفقًا لميشيل وروبن بولتون (Michelle et Robin Poulton): « فإنه ينظر إلى الشيعة بازدراء من قبل الأفغان السنيين، الذين يخشون الشيعة لأسباب عرقية وتاريخية ترجع للغزوات القديمة. يشكل هذا الصراع وجها آخر للمشهد الثقافى الأفغانى المعاصر ونقطة تقاطع مجموعة من الأجيال التى تحاول إعادة طرح قضية الأقليات الأفغانية فى ظل السيطرة السنية لحركة طالبان. كما أنه يمثل عنصرًا مهمًا من عناصر الهوية الأفغانية والتركيب اللغوى والثقافى للمجتمع. ولمعالجة قضية العزلة الثقافية والكراهية والتعصب، ينسج الكتاب الأفغان وفى مقدمتهم خالد حسينى مؤلفاتهم فى فضاء هذا الصراع وهذا التعدد العرقى الذى دائما ما تنتج عنه صراعات وحروب عرقية داخلية والتى تؤدى فى غالب الأحيان إلى تدمير التراث الثقافى والتاريخى والحضارى وإغلاق جميع الأماكن الفنية وقمع كل الأنشطة الفكرية. يرفض الأدب الأفغانى المعاصر هذا الصراع وينتقده بشدة. فهو السبب الذى يدفع الكتاب الأفغان إلى حمل حقائبهم والرحيل عن أرض تعلموا الحياة من ثدييها إلى بقاع أخرى حتى يتمكنوا من إدانة هذا الواقع بلغة وطنية أو أجنبية. لذلك، يتم تقديم هذا الأدب على أنه نتاج لتراث مشترك ونتاج لمجتمع فى حالة من الاضطراب والفوضى العارمة. فالأدب الأفغانى معقل للهوية والتاريخ السياسى والثقافى ووسيلة للمقاومة ضد الحروب السياسية والحركات الظلامية، من خلال تسليط الضوء على الأبعاد الإقليمية والعرقية لهذه الأزمة. فالمثقف الأفغاني، كاتبا كان أو مفكر أو فنانا، هو فى الأصل ضحية لهذه الانقسامات العرقية والدينية.
السياق الثقافي
بعد انقلاب نيسان 1978 بقيادة الحزب الديمقراطى و بمساعدة الإخوة السوفييت، كان المثقفون أول ضحايا الرقابة والقمع. وفقا للطيف بيدرام، كان استيلاء الحزب الشيوعى على السلطة بداية القضاء على كل شيء لا يتناسق مع أفكار الحزب الحاكم. فقد تم حرق وتدمير عدد كبير من الوثائق و الكتب التى كانت تعتبر «برجوازية». من جانبه، شجع النظام الشيوعى أدبًا جديدًا يسمى « Le Procletcult». وقد كان هذا السبب الرئيسى وراء مغادرة الكتاب والفنانين والصحفيين لبلادهم. فقد أُفرغت أفغانستان من فنانيها منذ الستينيات، وهو شيء نما بشكل كبير بعد وصول طالبان إلى الحكم. لذلك، عمل المثقفون الأفغان وعلى رأسهم سيد بهاء الدين مجروح على إنشاء أماكن جديدة للمقاومة والتفكير والإنتاج الأدبى فى الدول المجاورة كباكستان وإيران وفى الغرب (فرنسا، سويسرا، بريطانيا وأمريكا). لقد حاول الأفغان محاربة الرقابة من خلال انتقاد هذه الأعمال التى تؤثر على حريتهم فى التعبير وتدمر التراث الثقافى الأفغاني. تم نشر العديد من الصحف والمجلات الثقافية والسياسية والاجتماعية لأول مرة، بما فى ذلك المجلات النسائية، والتى مثلت ثورة أدبية جديدة فى تاريخ أفغانستان. فى هذا السياق الثقافى المتناقض، سيعارض الكتاب الأفغان الثقافة التى فرضها السوفييت ونظام طالبان بأدب المقاومة، بالرغم من أن الإيديولوجية الشيوعية لا تعارض الفن والأدب، لكنها كانت تقبل فقط ما يمكن أن يكون فى خدمة «البروليتاريا». وهكذا كان يتم تعريف الفن بفائدته ويمكن أن يستقبله الجمهور بشرط احترام هذا الشرط. رفض الكتاب الأفغان هذه الشروط لأنها تحد من حريتهم وتجبرهم على الإنتاج فى إطار محدود، الشيء الذى دفعهم إلى خلق أدب خاص بهم يقاومون من خلاله كل هذه العقبات ويعبرون عن صوتهم الرافض لكل أشكال التبعية الثقافية والفنية. خلال هذه الفترة، تم تداول الأعمال الروائية والشعرية فى البلاد بطريقة سرية. وهكذا قرأ الأفغان أعمالاً مثل «الدموع والدماء» و«ليال المنفى» للشاعر والكاتب خليل الله خليلي. واصل الأدب الأفغانى المعاصر مقاومته خارج أفغانستان، خاصة فى إيران، مستفيدًا من وجود قراء يتقاسمون نفس اللغة ونفس التاريخ. فضح الأدباء والشعراء الأفغان كل أعمال طالبان البربرية وممارساتها الظلامية، خاصة التطهير العرقى والديني. فالأدب الأفغانى مستوحى أيضا من الآداب الأخرى فى العالم، وخاصة أدب المقاومة والمنفى.
شهد الأدب الأفغاني، وهو جزء مهم من الأدب الفارسي، لحظات مضطربة منذ نشأته. تأثر كثيرا بالأدب الإيراني، خاصة أعمال السعدي، حافظ، نظمي، عمر الخيام، صادق هدايت وغيرهم. لطالما قادت المواقف والمعتقدات الاجتماعية السياسية الشعبية الأدب الأفغانى نحو التطرق إلى المزيد من المواضيع الحساسة والمحرمة. بعيدًا عن الرؤية الكلاسيكية والمواضيع الغامضة والأساطير، فإن الأدب الأفغانى المعاصر أكثر اهتمامًا بالقضايا الحالية مثل الحرب والصراعات الدينية والانقسام العرقى و اللغوى والجسد ولغة الكتابة. يتعامل مع الأسئلة الوجودية التى تؤثر على الفرد الأفغانى بأكمله ويجعها محور اهتمامه. إن التغيرات التاريخية والسياسية المختلفة هى الأساس والمصدر الرئيسى لهذا الأدب. فالمواضيع مثل الوضع السياسي، مسألة المرأة، جحيم الحرب، التعصب الدينى والعرقي، وكذلك المنفى ورمزية «الأنا»، تشكل الوجه الحقيقى للكتابة الأفغانية. يروى الكتاب الأفغان من خلال تجاربهم الخاصة، من خلال جروحهم وذكرياتهم الموشومة، عمق المعاناة الوجودية. يعتبر سيد بهاء الدين مجروح ، خالد حسيني، عتيق رحيمي، زرياب وغيرهم، أبرز الوجوه الأدبية الأفغانية التى كرست كتاباتها لانتقاد الوضع فى أفغانستان.
وهكذا يحتل المجتمع الأفغانى ومعاناته مكانًا أساسيًا فى الأدب. يكشف انفجار الواقع واندماجه بالخيال عن بُعد روحي، عن علاقة إشكالية بين الكاتب وأرضه. فالكاتب الأفغانى على دراية بالثقافات المجاورة ويعرف جيدا تاريخ بلاده، الشيء الذى يمكنه من خلق كتابات متعددة القراءات والتفسيرات. فالكتاب مثل شيكيبة هاشمي، محمد داود ميراكي، محمد زمان خان، حميرا قادري، سلطان زاده... مرتبطون بشدة بأفغانستان. يمكننا أن نرى ذلك بوضوح فى نصوصهم، التى تعيد التفكير فى الهوية الأفغانية، والتى تتميز بالأصالة والحداثة. تحمل الكتابات الأفغانية فى طياتها حوارا ثقافيا وحضاريا أصيلا، حيث تتقاطع مجموعة من الثقافات كالثقافة الهندية والصينية والإسلامية. فقد عاش مجموعة من الكتاب الأفغان فى باكستان والهند والصين، من أبرزهم عتيق رحيمى الذى عبر عن هذا الانتماء الثقافى المتعدد وكيف كان له الأثر الأكبر على مسيرته ككاتب، خاصة فى كتابه «نزهة القلم» الذى حاول من خلاله تعريف المنفى من خلال هذا التقاطع وكيف لعبت الثقافات المجاورة دورا هاما فى انفتاحه على مجموعة من الفنون كالرسم والموسيقى وفن الخط...الخ.
التشويه الأمريكي
لم يسلم الأدب الأفغانى من الأزمة التى عصفت بأفغانستان خلال الغزو الأمريكي، إذ كان لهذا التوغل الاستعمارى تأثير خطير على مسار أدب لم تتسنى له الفرصة لتجاوز الأزمات القديمة. خيم الاحتلال الأمريكى كالسحابة السوداء على الساحة الثقافية الأفغانية التى ستُحْجَب لسنوات من المشهد الثقافى العالمى بسبب الهجمة الشرسة التى شنتها وسائل الإعلام الغربية على أفغانستان، فى الوقت الذى بدأت فيه البلاد فى التعافى ولو نسبيا من مخلفات الحرب الباردة ووصول طالبان إلى الحكم. فقد عملت وسائل الإعلام على تشويه أفغانستان وربطه بالإرهاب والقاعدة مُغَيبة أدبا وثقافة عريقين. ما تزال الصورة السوداء التى سوقتها أمريكا حول أفغانستان حاضرة إلى يومنا هذا. الشيء الذى زاد من معاناة الكتاب الأفغان الذين حاولوا تجاوز وتغيير هذه الصورة النمطية التى تزيد من وطأة معاناتهم فى بلدان الغربة والمهجر. لم يكن التدخل الأمريكى فى صالح الثقافة والفكر، بل كانت نكسة أخرى تنضاف إلى الجروح التى راكمتها الحروب القديمة. هذه المعاناة الجديدة كانت الدافع الأكبر لإعادة التفكير فى الهوية الوطنية والتمرد على كل القناعات السائدة التى ارتبطت بأعمال الإرهاب والتفجيرات المتتالية فى جل المدن الأفغانية. ساهم الاحتلال الأمريكى فى تغييب الأدب الأفغانى أيضا عن جل الدراسات الأدبية، وخير دليل على ذلك وجود كتاب وحيد بتناول الفترة الكلاسكية المعروفة بفترة الشعر الإسلامى الذى ألفه الدكتور محمد أمان الصافى والموسوم ب «الأدب الأفغانى الإسلامي». والمثير للدهشة أن الأدباء والشعراء الأفغان لا يتحدثون كثيرا عما ألحقته أمريكا بالثقافة فى أفغانستان، بقدر ما يتحدثون عن معاناتهم الشخصية، ومعانة المرأة فى مجتمع يسوده قانون الدين المتعصب، ويرفض الانفتاح على الآخر فى بعده الثقافى والعلاقاتى والسياسى والاجتماعي. ونعنى بالآخر كل المجتمعات الحداثية المنتصرة للمرأة ولحرية التعبير والديمقراطية.
خالد حسيني
ثم إن التدخل الأمريكى فى أفغانستان، قد ترك آثارا سلبية على الحاضر الثقافى الأفغاني. فيكفى ذكر أفغانستان لنسمع عن الإرهاب والقاعدة. والغريب أن الغالبية لا تعرف إلا الإرهاب فى أفغانستان، وتجعل من الأدب، والرسم التشكيلي، والموسيقى، مجرد أنشطة ثانوية يتميز به هذا البلد المنسى فى غباره وصحراءه. فالثقافة الأفغانية غنية جدا، وتنفرد عن باقى الثقافات بطابعها التصوفى والمتناقض الذى يجعل من أفغانستان بلد الغرابة بامتياز، حيث الجمال والدم وجهان لعملة واحدة.
تطور الأدب الأفغانى
فى بلد يعانى فيه غالبية السكان من نقص فى التعليم، تأخذ التقاليد الشفهية أهمية كبرى. وهكذا، احتلت الحكايات وما زالت تحتل مكانة أساسية؛ لإنه فن يمزج بين التاريخ والموسيقى. تتناول الحكايات مواضيعا تمس الحياة الأفغانية اليومية فى تعددها وتنوعها، وغالبًا ما تنقل القيم التقليدية والمعتقدات الدينية والأسطورية. كانت هذه الحكايات نوعًا من الترفيه الذى ما يزال جزءًا من الحياة اليومية للأفغان. كان الأدب والشعر الأفغانى الكلاسيكى معروفين على نطاق واسع فى جميع أنحاء آسيا الوسطى، حيث استلهموا عددا من التقاليد العرقية واللغوية فى عهد الإمبراطوريات التى غزت أفغانستان، فكانت كابول وهرات مراكز مهمة للفن والأدب. استقر الهمدانى (Al-Hamadani) والفيلسوف الإيرانى فخر الدين الرازى (Fakhr Al-Din Al-Razi) والشاعر الإيرانى دجامى (Djami) فى هرات لبعض الوقت، لأن هذه المنطقة من أفغانستان كانت مرتع حقيقى للأدب والعلماء من الدول المجاورة أو البعيدة. يتكون الأدب الكلاسيكى فى الغالب من قصائد ملحمية وأغانى حب. فى القرن السابع عشر، أسس خوشال خان ختاك (Khushhal Khan Khatak) أدبًا بشتونيًا حقيقيًا. بعد إنشاء الدولة الأفغانية عام 1747، استمرت مكانة أفغانستان كمركز للأدب، ولا سيما فى التبادلات بين آسيا الوسطى والهند حتى القرن العشرين. فى هذه الفترة، ظل الأسلوب الهندى فى الشعر الفارسى سائدًا، خاصة لدى بعض المؤلفين مثل ميرزا عبد القادر بيدل (Mirza Abdel-Qader Bidel) (1644-1720)، الذى يعتبر مؤسس المدرسة الهندية للشعر. وفقًا لفيروزه ناهافاندى (Firouzeh Nahavandi)، تعرضت هذه المدرسة لانتقادات شديدة بسبب تعقيد أسلوبها فى الكتابة والمراجع الضمنية التى كانت تعتمدها، لكنها ظلت تحظى بشعبية كبيرة فى أفغانستان وطاجيكستان وباكستان والهند. ففى الكتابات الشعرية، استلهم العديد من الشعراء الأفغان أسلوبهم من تجربة الشاعر الإيرانى حافظ (Hafez)، الشيء الذى يفسر كيف ظلت العلاقة بين الشعراء الأفغان والإيرانيين وثيقة. وقد تميزت مرحلة تحول الأدب الأفغانى الكلاسيكى بإتاحة الأعمال المطبوعة فى الهند وجعلها فى متناول الأدباء الأفغان منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى إدخال الطباعة إلى أفغانستان.
شهد الأدب الأفغانى فى القرن العشرين ظهور مجموعة من الأدباء الذين حاولوا إحداث تغيير فى الشكل والمحتوى الأدبي. وفقًا لفيروزه نهافاندي، كان محمود ترزى (Mahmoud Tarzi) (1865-1933) من رواد الأدب الأفغانى الحديث، حيث قضى شبابه فى دمشق واسطنبول، الشيء الذى ساعده على الاتجاه نحو أسلوب شرقى أوسطى بدلاً من الأسلوب الهندي. ترجم العديد من الأعمال الغربية، بما فى ذلك أعمال جيل فيرن (Jules Verne). واشتهر بتأسيس جريدة «سراج الأخبار» التى كانت تنشرأفكار حداثية معادية للإمبريالية. حاول ترزى إقناع الكتاب بتبنى أسلوب حديث ومعالجة الموضوعات الاجتماعية والسياسية. الشيء الذى قام به عبد الغنى مستغنى (Abdel-Ghani Mostaghni) (1875-1933) و عبد الله قارى (Abdullah Qari) (1871-1943)، وكذلك عبد الحق بيتاب (Abdel-Haqq Bitab) (1883-1968). وبحسب فريد الدين العطار ارتبطت الحداثة الأدبية فى أفغانستان بانفتاحها على الآداب الآخرى وظل الأسلوب الهندى حاضرا بالرغم من كل محاولات التجديد. وقد اعتبر محمود ترزى رائدالحداثة الأدبية الأفغانية. فقد عمل على مواكب الحركات الأدبية فى العالم فى محاولة منه إلى ادخال أسلوب أدبى جديد لتجاوز الأساليب القديمة. علاوة على ذلك، كان يؤمن بضرورة إحداث تغيير جوهرى من أجل تحديث الشعر الأفغاني. وكان يعتبر أن للكتاب تأثير على بعضهم البعض، خاصة تأثير الأدباء الفرنسيين و العرب والأتراك والإيرانيين والهنود على الكتابة الأفغانية. إن الأدب الأفغانى الحديث باعتباره جزءًا رئيسيًا من الآداب الفارسية، يتميز بتاريخه الحافل وأساليبه المتنوعة بالرغم من أنه عرف مسارًا مضطربًا للغاية. فقد قدمت كل فترة، تحت تأثير العناصر الثقافية أو التاريخية أو الاجتماعية والسياسية، أعمالًا فرضت وجودها على الصعيد العالمى بفضل الخصائص الأدبية المشتركة. فى الواقع، إذا نظرنا إلى غالبية الأعمال التى ظهرت فى وقت واحد، فسنرى أن المواقف الاجتماعية والتأثيرات الخراجية هى التى شكلت موضوعات ومحتوى هذه الكتابات. فى هذا الصدد، لا ينبغى للباحثين فى الأدب إهمال خصائص الحياة اليومية والجغرافيا التى كانت لها تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على أساليب الكتابة الشعرية الأفغانية لعدة قرون. ولهذا السبب فإن كل الأعمال التى نشرت فى الفترة الحديثة تعكس مجموعة من الحقائق وتشكل صورة واقعية لمجموعة من الأحداث التى بصمت التاريخ الأفغاني.
كان الشعب الأفغانى ولا يزال متمسكًا بالثقافة المسرحية، إذ أصبح المسرح ممارسة فنية مرتبطة بالحياة اليومية، يتم تقديمها فى المهرجانات والشوارع والمدارس. وقد ساهم حضور العديد من المعلمين والطلاب الذين التحقوا بمدارس الدراما بشكل غير مهني، بشكل كبير فى نمو هذا الفن فى أفغانستان. كانت مدارس غازى الثانوية، مالالاي، عائشة دوراني، سورية، وزرقونة، وبيبى مهرو، الاستقلال، ربيعة بلخي، الأميرة مريم، ومدرسة حبيبى الثانوية من بين المدارس الأولى التى تولت زمام المبادرة، وشجعت الفن المسرحي. كانت سميه ميرزاد، الأخت الكبرى لصالحة فاروق اعتمادي، واحدة من الطلبة الذين كتبوا المسرح بشكل مبكر، فقد كتبت مسرحيتها الأولى عندما كانت فى الصف السابع فى مدرسة مالالاى الثانوية. تم تمثيل مسرحيتها الموسومة ب «الملكة» فى ثلاثة مشاهد، واستقبلها الجمهور بشكل جيد للغاية. يعود السياق المسرحى فى أفغانستان إلى فترة حكم الملك أمان الله خان (1919- 1929) عندما انتشر هذا الفن لأول مرة ودخل مرحلة جديدة مع إنشاء «جامعة نانداري» فى عهد محمد ظاهر شاه (1933- 1973) تأسس المسرح الأفغانى المعاصر خلال فترة أمان الله خان، وبفضل محمود ترزي، سيتم تعميمه فى جميع أنحاء البلاد. كان من بين أهداف حكومة أمان الله تعزيز التقدم والحداثة من خلال نشر ثقافة المسرح، الذى كان يعدُّ أفضل وسيلة لتشجيع الناس على التحديث وتجنب الإيمان بالخرافات. ولتحقيق ذلك، استعان أمان الله بالعديد من وزراء حكومته وشخصيات ثقافية، الذين شاركوا فى الأنشطة المسرحية كعلى محمد (وزير المحكمة)، محمود ترزى (وزير الخارجية)، محمد كبير لودين (وزير الأشغال العامة)، سيد عبد الله (وزير العدل)، فايز محمد زكريا (وزير التربية والتعليم)، محمد سروار جويا، محمد حسين ضياء سروار سابا، عبد الرؤوف رشيدي، عبد الجبار رسام، محمد حسن سليمي، عزيز خان شرخي، غلام ساخى سامان، قارى دوست محمد، وشخصيات سياسية وثقافية أخرى. ساهمت هذه الأسماء فى بناء وتشكيل أسس المسرح الأفغانى عن طريق الترجمة، أو الكتابة أو اللعب على الخشبة.
ومن بين الفنانين والكتّاب المسرحيين، الذين ساهموا أيضا فى تأسيس وازدهار المسرح الأفغانى نذكر: عبد الرشيد جاليا، عبد الرحمن بينا، غلام عمر شاكر، أكرم نغاش، عبد القيوم بازيد، ضياء قرى زاده، مقدس نجاه، غلام على أوميد، محمد يوسف كوزاد، على نعيمي، عبد الرؤوف بنوا، أكبر نماد، أكبر نديم، عبد اللطيف نشأت، على محمد زاره، مالك خليل، رحيم سربان، براق شافعي، سيد مهدى شفا، أسد الله مهربان، عظيم فايز، نجيب عرام، موسى أريزو، هارون يامس تنفير، قادر فاروق، كريم جاويد، محمد يعقوب مسعود وغيرهم. فقد كان بعضهم من الكتاب المسرحيين أو المخرجين، والبعض الآخر كانوا ممثلين. تميز المسرح الأفغانى بشكل رئيسى خلال هذه الفترة، بهيمنة الشخصيات الذكورية والغياب التام للنساء فى المسرحيات التمثيلية. وتعكس هذه الهيمنة، صورة مجتمع تقليدى يتميز بعمق بالرغبة فى تعزيز دور الرجال، والقضاء على الفردية الأنثوية، من خلال طمس هويتها المتقلبة وهشاشتها وتناقضاتها. وبالتالي، لم يكن للمرأة الحق فى لعب دورها على خشبة المسرح، بسبب وضعها فى نظام القيم الاجتماعية الأفغانية. وكانت مسرحية «الوطن الأم» التى كتبها غلام حضرت كاشان من مسرحيات «Paghman»، التى لأول مرة، سيلعب فيها شاب دور امرأة على خشبة المسرح الأفغاني. استمر هذا التقليد واستمر معه غياب النساء عن المشهد المسرحي، حتى بدأت النساء فى أخذ أدوارهن على الخشبة. كان عبد الغياس ومحمود فاروق أفندي، من بين الممثلين الأفغان البارزين، الذين لعبوا دور النساء فى المسرحيات. تعد مسرحية «أبناء أريانة» واحدة من المسرحيات المكتوبة فى ذروة المسرح الأفغاني، التى كتبها عبد الرحمن باجهوك. كانت واحدة من المسرحيات الأولى، التى تم إصدارها بشكل مستقل، حيث لم يكن فيها أى دور للمرأة. بحسب باجهوك، كان الغرض من كتابة المسرحية ونشرها تعزيز الوحدة الوطنية. سيستمر غياب المرأة عن الخشبة المسرحية إلى تأليف خوشان لمسرحية «ولاء المرأة» وستكون واحدة من الأعمال المسرحية الأولى التى وجدت فيها الشخصية الأنثوية مكانها وصوتها.
أهم التجارب الإبداعية الأفغانية
لا يمكننا الإحاطة بكل التجارب الإبداعية الأفغانية فى بضع صفحات. سنحاول التركيز على أهم الوجوه التى ساهمت فى التعريف بالأدب الأفغانى داخل وخارج أفغانستان. فى هذا السياق، لابد من الإشارة إلى تجربة الكاتب الروائى والصحفى راهنافارد زرياب الذى عرف بمواقفه فى الوسط الأفغانى وخارجه، جعلت منه رمزا وطنيا. عاش زرياب حياته بين أفغانستان وفرنسا وكان من أهم الذين وهبوا كتاباتهم لمعالجة القضايا الأفغانية. تجربته الفريدة جعلته يترأس اتحاد الكتاب فى أواخر التمانينات. كما ترجمت أعماله للغة الفرنسية إلى جانب عتيق رحيمى الذى يعد الكاتب الأبرز فى المشهد الثقافى الأفغانى خصوصا بعد حصوله على جائزة الغونكور سنة 2008 عن روايته «حجر الصبر». وقد نشر مجموعة من الأعمال أهما : «ألف منزل للحلم والرعب»، «أرض ورماد»، «ملعون دوستيوفسكي»، «نزهة القلم»، «العودة الخيالية»، «السقّاؤون». تعتبر رواية «حجر الصبر» من الروايات الأكثر شهرة فى المشهد الأدبى الأفغاني، كشف عتيق رحيمى من خلال هذه الرواية الستار عن الوجه المنسى لأفغانستان بلغة يختلط فيها لون الدم بغبار الحروب وروائح الحشيش. يسلط الكاتب الضوء على سيكولوجية الفرد الأفغانى المعقدة والذى يعانى من تفسخ الهوية بسبب المعاناة الناتجة عن الحروب والانقلابات الداخلية.
أمان الله خان.
فحجر الصبر ليست مجرد رواية تخيلية، بل صرخة تعبر المرأة من خلالها عن حريتها المسلوبة، فهى تفتقد إلى أبسط حقوقها، كالكلام والتعبير عن رغباتها. فهذه الرواية الدموية هى نتاج لمجتمع ملطخ بالدم، مرآة لما يقع فى هذا المجتمع المنغلق على ذاته والمحافظ على تقاليده وطقوسه الاجتماعية والدينية. كما أن عتيق رحيمى يعتبر من الكتاب القلائل الذين يهتمون كثيرا باللغة ويجعلها محور كتاباته الروائية والشعرية. ثم كيف لكاتب أفغانى أن يكتب عن مجتمع لا ينتمى إليه لا تاريخيا ولا لغويا ولا روحيا؟ إن فرنسا ليست سوى بلد اختاره الكاتب كمنفى بعدما قيدت حريته فى أفغانستان، واختياره للغة الفرنسية فى الكتابة، ليس سوى بحث عن حرية أكثر، فاللغة الأم «الفارسية» تقيد إبداعه وتجعل من التابوهات حاجزا أمام خياله وكتاباته، لذا فالفرنسية تمكنه من التمرد على كافة القواعد اللغوية والموضوعية. غير أن الكاتب وفى لوطنه الأصلى «أفغانستان» المتجدر فى روحه وكيانه. ويظهر ذلك بكل وضوح فى أعماله الأدبية التى تعكس الواقع الأفغانى الدموي. وفى هذا الصدد، فإن «حجر الصبر» رواية موشومة بالموت والحرب والحزن والصمت. والجمل القصيرة التى استعملها الكاتب فى هذا النص، تجعل القارئ يجد لذته. إذ إن عتيق رحيمى يصور مأساة بلاده فى غرفة ضيّقة، وعن طريق مونولوغ امرأة شابة، تتحول إلى راوية متحررة يتدفق من فمها المطبق سيل من الألم والكلمات الجريئة العميقة، والمشحونة برغباتٍ دفينة، وكأنها تنتقم من صمتها طوال المدة التى عاشتها مع زوجها. مما يدخلها فى مصارحة جريئة ومناجاة هذيانيّة، تبوح من خلالها بأسرارها القديمة، متحدّية الخوف والخضوع. ولا شك أن عتيق رحيمى من الكتاب الذين يهتمون كثيرا بلغة الجسد ويجعلون منها أساس بعض الكتابات، كما هى الحال فى جميع نصوصه. فالجسد لغة تعبيرية لا تقل نظيرا عن اللغة اللسانية أو الكلامية، ويأتى هذا التركيز على الجسد فى محاولة منه للتحرر وتحرير شخصياته من قيود المجتمع الأفغانى المتشدد، الذى يجعل من الجسد تابوها وجريمة. ولا يمكن تحرير المرأة دون تحرير جسدها المثقل بالمعاناة والألم والجروح. ولعل هذا السبب وراء اختيار اللغة الفرنسية، بحيث إنها تمكن الكاتب من تجاوز العقبات الأخلاقية والتقليدية التى تفرضها اللغة الأم «الفارسية.» إن سطوة التقاليد وقانون القبيلة فى بعض المجتمعات الشرقية، خصوصا فى بلد مثل «أفغانستان»، يجعل من هذه الرواية لوحة فنية وأدبية دراماتيكية تكشف المستور عن البنى المسعورة والمتكالبة ضد الذات فى محاولاتها اليائسة للهرب والنجاة، إذ يحاول عتيق رحيمى من خلال تقنياته السردية (كما يفعل مع الزمن فى عدّ الأنفاس وحبات المسبحة وقطرات العينين) الإنصات بحرارة وصدق إلى وقر تلك الحمولة البغيضة، التى تعيشها وتشهد صدماتها المرأة فى هذا المجتمع المخنوق والظلامى بفعل الجهل والتخلف والتناحر القبلى والطائفيّ، والحروب العبثية، والانسحاقات النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
على غرار عتيق رحيمي، يعتبر محمد حسين محمدى من الكتاب الأفغان المميزين الذين يبحثون عن أنفسهم من خلال فعل الكتابة. ففى كتابه «Les Figues rouges de Mazâr « وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة، يحكى الكاتب واقع أفغانستان الحديث، راسمة بذلك صورا دموية لها علاقة مباشرة باللون الأحمر المشار إليه فى العنوان. فاللون الأحمر يرمز إلى الدم والعنف والمعاناة والقتل غير المبرر الذى تنهجه حركة طالبان ضد الأفغان العزل. تتطرق هذه المجموعة القصصية إلى إشكالية الحرب والموت والحب فى زمان الأزمات. ويحاول الكاتب كشف القناع عن الواقع من خلال هندسة نصية تُدخل المتلقى فى متاهة من المعانى والرموز التى تستمد معانيها من الثقافة الشعبية الأفغانية، لتسافر به نحو العالم الداخلى للشخصيات. فالكتابة ليست فقط، سردا للأحداث والوقائع، وإنما تتجاوز هذا التعريف لتشمل المعاناة اليومية والإحساس بالهوية الممزقة. يُدخل الكاتب المتلقى فى سلسلة من الأسئلة المتعلقة أساسا بما يقع فى أفغانستان نظرا للوضعية الحرجة التى تستدعى تعرية الواقع كما هو بدون التعمق فى الوصف.
وقد اعتبرت الناقدة تيردانكر شاندا أن الحنين إلى أفغانستان من أسباب ودوافع كتابة هذا النص. فالعنوان يميل إلى الهزل لأن ال14 قصة تكون جزءا يرسم فيه الكاتب جمال الماضى من خلال موضوع الغياب والطفولة البعيدة؛ كاشفا الستار عن الحرب والرعب والدمار المخلف. إن ثيمة الدم حاضرة بقوة فى هذا الديوان القصصي. من هنا فإن الرواية الأفغانية والقصة القصيرة نصوص تنسج من وحى الفراغ، وصدى الصرخات والمعاناة، والدم الذى يلطخ الأرض والجدران. والأشكال الحمراء هى رموز للدم المهدور كدليل واقعى ومعاش عن التراجيديا الأفغانية.
تتحول الكتابة من المنطق الأدبى الفنى الهادف إلى خلق عوالم خيالية لأغراض أدبية جمالية، إلى الالتزام والدفاع عن القضية كتعبير عن الوعى الفردى الباحث عن خلق وعى جماعي. يخلق محمد حسين محمدى إذن عالما خاصا، حيث تخاط التفاصيل بدقة تامة بما فى ذلك الشوارع الفارغة والمدن المدمرة والرجل والنساء الباحثين عن النجاة عن طريق التعاون والتضامن فى ما بينهم، لمواجهة الغزو الظلامى لحرب عمياء تحرق اليابس والأخضر. ربما هو تعبير مجازي، لكن الوضع فى أفغانستان وضع مأساوى جدا. إن الأدب الأفغانى أدب الدم، حيث يختلط العنف بالمعاناة والهوية الممزقة والمشتتة بالفراغ والغياب بالمنفى والأنا المجروح والتائه بالفضاء المتناقض.
فإذا كان عتيق رحيمى قد قدم من خلال روايته «ملعون دوستوفسكي» صورة مأساوية عنيفة عن أفغانستان، من خلال جريمة قتل تتماهى مع قتل راسكولنيكوف المربية العجوز فى رواية دوستويفسكى «الجريمة والعقاب». من خلال الأسطر الأولى للرواية تتماهى مع بطل رواية دوستوفسكى «راسكولنيكوف»؛ ثم ما يلبث أن يدخلنا فى متاهة محاكمة كافكا، لينتقل بعدها إلى عبثية «مورسو» فى رواية «الغريب» لكامو، وينهى مع بعض المفارقات لبطل ديدرو فى «جاك المؤمن بقدره».. وإقدام رسول (شخصية الرواية) على قتل عجوز لينقذ خطيبته وأخته وأمه من البؤس. يكشف محمد حسين محمدى عن نفس البؤس بطريقة درامية فى مجموعته القصصية. فمهما اختلفت التجارب والوقائع، يظل الفضاء والمصير واحدا. فأفغانستان أرض غير مستقرة ولن تستقر أبدا على ما يبدو إلا بعد زمن طويل من المعاناة. إن نصوص محمد حسين محمدى تتخذ من الواقع منطلقا نحو عوالم أخرى ذات بعد نفسى تعكس أزمة الشخصيات، خاصة أزمة الهوية المتفسخة والمبحوث عنها. وهكذا فإن الكتابة الأفغانية شبيهة برحلة البحث عن الأصل المفقود، لأن الحرب أفقدت الفرد هويته وحولته من حالة الاستقرار إلى حالة البحث المستمر الشبيهة بالمتاهة التى لا تنتهي، إلا بعودة الذات إلى جذورها. فالشخصيات فى حالة تحول مستمرة ترتبط بعالمين، أحدهما واقعى معاش وآخر متخيل يصعب تحقيقه. فالخيال يتشكل من خلال الحلم والذكريات ويتسم بحالتين ملموسة وأخرى مجردة.
كما يعتبر الكاتب والفيلسوف والشاعر الأفغانى سيد بهاء الدين مجروح رائد القصيدة والأدب الأفغانى المعاصر والحديث. فالتجربة الأدبية التى راكمها، جعلت منه أحد مؤسسى الأدب الأفغانى المعاصر، باعتباره أدبا شابا يتطور بسرعة، منفتحا على الحوار الثقافى وتعدد اللغات والحضارات. عاش مجروح لاجئا فترة الاستعمار السوفييتى لأفغانستان، قبل أن يقتل بوحشية على يد جماعة من حركة طالبان فى بيشاور عام 1988. عمل على ترجمة الشعر الأفغانى النسوي، أو بما يعرف بشعر اللانداى والبشتون إلى لغات أخرى كالفرنسية، وهى محاولة لإسماع صوت النساء المحرومات من حرية التعبير عن أحاسيسهن فى مجتمع يرى فى المرأة عورة. ولعل من أشهر أعماله كتاب «الذات الوحش»، وهو كتاب يرصد أحداثا مهمة من تاريخ أفغانستان المعاصر، خاصة فترة ما بعد الانقلاب على الأمير داود. ومع دخول السوفييت إلى افغانستان، مدّ مجروح أواصر العلاقة مع المقاومة الوطنية التى تصدت للاحتلال، ثم انتقل عام 1980 إلى بيشاور فى باكستان. ففى فترة المنفى، عمل على تأسيس وإدارة «مركز المعلومات الأفغاني»، كما قام بإصدار نشرة دورية للمقاومة، وكان الناطق باسمها، وصلة الوصل بينها وبين مثقفى العالم، إلى أن تم اغتياله من طرف الحركات الظلامية المعادية للمقاومة الأفغانية. ويعتبر كتاب «أغانى التيه» من أشهر المؤلفات التى تركها الشاعر، إذ يصور لنا بكل جرأة وصدق معاناة الشاعر وإحساسه بالظلم الذى يمارس على بلاده. لا يمكن الحديث عن الأدب الأفغانى المعاصر، بدون التطرق إلى تجربة الكاتبة والقاصة سبوجماى زرياب، التى تعد من الأسماء التى فرضت وجودها بقوة فى الساحة الأدبية الأفغانية خاصة فى فرنسا. فجل مؤلفات الكاتبة مترجمة إلى الفرنسية بحكم تواجدها فى هذا البلد، واعتمادها اللغة الفرنسية لغة ثانية فى الكتابة.
تختار زرياب دائما النساء شخصيات رئيسية ورواة فى مؤلفاتها المكتوبة باللغة الفارسية، أو الأخيرة التى نشرت بالفرنسية. فاعتماد المرأة كشخصية يسهل عملية التوغل فى جلد الرجال، باعتبار أن المجتمع الأفغانى مجتمع ذكوري. لكن يبقى الهدف الرئيسى من هذه العملية هو تحرير المرأة ومنحها قوة الكلمات، أى أنها تمنح صوتا لأولئك الذين لا يملكون شيئا. فمعظم أدباء أفغانستان هم من الرجال، على الرغم من أن شعر البشتون النسائى مشهور جدا. من هنا فإن زرياب من الكاتبات المتمردات التى تكيفت بسرعة مع الواقع، وأصبحت تنافس الرجال فى خلق عوالم أدبية مستوحاة من عمق المعاناة اليومية التى عاشتها، والتى تركت صورة سوداء لا تغادر ذاكرتها. لا تكف زرياب عن وصف العنف والقمع الذى تعانى منه المرأة الأفغانية، فالكاتبة تحمل على عاتقها معاناة كل النساء الأفغانيات، وتتمنى أن يتغير الوضع فى أفغانستان. من ثمة فإن زرياب تمزج بين الشعر والحكى والأسطورة والرمز، وبين الواقع المعاش والسيريالية المتخيلة. فالكاتبة تجعل من عبثية الحرب والقتل والرعب أساس نصوصها التى تدفع بالمتلقى إلى التساؤل حول وضعية المرأة الأفغانية المزرية. وهكذا تبدو الكتابة ليست فقط فعلا جماليا، وإنما أداة للنضال والتمرد وصرخة ضد الظلم والعنف الذى ينهش جسد المرأة الضعيف. تبقى سبوجماى زرياب خبيرة الحكايات، فمن خلال نظرتها الثاقبة يتوغل القارئ إلى جلد المرأة ليلمس بكل صدق معاناتها. إنها بالمجمل كاتبة تبحث عن الأمل والحب من خلال الكلمات.
لا يقتصر الأدب الأفغانى على التجارب الإبداعية التى تطرقنا لها، إذ يعتبر بارتاو نادرى من الشعراء الأفغان الوحيدين الذين تُرجمت أعمالهم على نطاق واسع إلى لغات مختلفة. يكتب فى كثير من الأحيان عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة حقوق الأقليات ومعنى المواطنة. مثله مثل العديد من الفنانين والمفكرين الآخرين فى ذلك الوقت، سُجن نادرى فى سجن بول شاكرى الشهير فى كابل، بسبب أنشطته «المعادية للنظام» بين عامى 1984 و1987، خلال فترة النظام المدعوم من الاتحاد السوفييتي. عاش فى المنفى فى باكستان لمدة خمس سنوات، عمل مراسلاً لبرنامج «داري» Dari فى خدمة «بى بى سي» العالمية، وعاد إلى أفغانستان عام 2002. ومن خلال شعره وتفاعله مع مختلف مؤسسات المجتمع المدني، أصبح نادرى ناشطًا قويًا للتنمية الديمقراطية والشعبية فى أفغانستان، ويعتبر من الشعراء الأفغان الوحيدين الذين تُرجمت أعمالهم على نطاق واسع.
تمتع نادري، بصفته ناشطًا وشاعرًا اجتماعيًا سياسيًا، برؤية إعلامية عامة أكثر من أى من معاصريه فى البلاد أو فى الخارج، فشعره إلى حد كبير، انعكاس لآرائه الاجتماعية والسياسية. غالبًا ما يُنظر إليه فى وسائل الإعلام والساحة العامة، على أنه سلطة أدبية ومتحدث باسم الجيل الثانى من الشعراء الأفغان المعاصرين، ربما أكثر من أى شاعر من جيله، فقد استخدم آية فارغة، مع لهجة ساخرة قوية، للتعبير عن آرائه الاجتماعية السياسية. وقد استخدم أيضًا أشكالًا شعرية ثابتة، مثل الرباعيات، الأزواج والقصائد ذات الطابع الحر، للتعبير عن مشاعره الداخلية، ولكن تظل الآية الفارغة الحديثة وسيلة رئيسية للتعبير عن آرائه وتصوراته الشعرية.
قريه أفغانية
مثل العديد من الفنانين والمفكرين الأفغان الآخرين، تم إلقاء القبض عليه من قبل النظام الشيوعى فى كابل بتهمة القيام بأنشطة معادية للنظام. هرب فى سبتمبر/أيلول 1997 إلى باكستان، حيث عمل فى برنامج دارى التابع للخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية BBC حتى عام 2002. وقد حظيت تقاريره الثقافية بشعبية بين الأفغان المتعلمين فى أفغانستان وباكستان وإيران والولايات المتحدة. فمنذ إنشاء الحكومة الانتقالية فى أفغانستان، عمل مديراً للتربية المدنية لمنتدى المجتمع المدنى الأفغانى فى كابل. نادرى هو أيضًا عضو قيادى فى رابطة القلم الأفغانية. بالإضافة إلى الشعر، نشر عددًا كبيرًا من المقالات حول القضايا الأدبية والسياسية والاجتماعية. تشمل مجموعاته المنشورة ما يلي: لحظات الإعدام الرئيسية، قفل على بوابة الرماد، صور من الفقر، السجن والجفاف والطغيان على غرار طالبان الظلامية والدمار والموت فى قصائده. مثل العديد من معاصريه، يطارده عهد طالبان الإرهابى الذى تتكرر صوره فى معظم قصائده. فى شعره، يرى حركة طالبان قوة شيطانية مصممة على تدمير أو تشويه أفضل ما فى الفنون والثقافة الأفغانية. غالبًا ما يربط الحركة فى أعماله بما كان أكثر انحطاطًا وبربرية فى تاريخ أفغانستان والإسلام. أدت هذه الهجرة إلى خلق أدب جديد برز بشكل كبير فى ميدان الشعر والقصة والرواية، وتم تصنيفه تحت اسم «أدب الهجرة الأفغانية .حسب الباحث الأفغانى محمد كاظم كاظمي، يمكن تقسيم حركات الشعر المعاصر إلى أربع فترات زمنية. الفترة الأولى وهى الفترة التى تسبق تأثير شعر الثورة وتخص بالأساس الشعراء الذين انتقلوا إلى إيران. لقد كان لهؤلاء وعى كبير بالتطور، ولم يكن لشعر الثورة تأثير كبير عليهم. على سبيل المثال الراحل فدائى هيروى هو واحد من رواد الشعر الأفغاني، الذين عاشوا فى إيران لسنوات عديدة. أما الفترة الثانية، فهى تضم الشعراء الذين بدأوا أعمالهم فى أجواء شعرية مضطربة، حيث تابعوا الشعر الثورى لأفغانستان بتأثير شعر الثورة فى إيران. قدسى فضل الله أحد أولئك الذين قدمتهم الثورة فى إيران، وكان شعره متأثرًا جدًا بقصيدة الثورة الإسلامية من حيث الشكل والمضمون. الفترة الثالثة كانت تخص الشعراء الشباب الذين عكسوا مزاج أفغانستان وقضاياها فى قصائدهم، وتأثروا بشعراء الجيل الأول، مثل القدسي، مظفري، كاظمي، سيد قاسمي، ومحمد تقى أكبري، الذين خلقوا موجة قوية فى الشعر الأفغانى فى سبعينيات القرن الماضي، وتم تحديد مجموعة واسعة منهم فى وقت لاحق، حيث تم تعريفهم فى الوسط الأدبى الإيرانى والأفغاني. أما الفترة الرابعة، فتتعلق أساسا بشعر الثمانينيات، حيث أن أغلب الشعراء وُلدوا فى إيران ولم يختبروا الكثير من أزمات أفغانستان، فكانت القضايا الأفغانية مصورة بشكل باهت فى شعرهم.
تميز الشعر الأفغانى فى الآونة الأخيرة، بنوع من الانتفاضة والروح الثورية والسعى المتواصل نحو خلق شعر حديث يتماشى مع تطور الشعر فى الغرب. فقد أصبحت اهتمامات الشعراء أكثر خصوصية، وتحولت الالتزامات التقليدية للمعتقدات الثورية لمجرد أفكار باهتة، فأحد الأسباب التى جعلت الشعر الأفغانى يخترق المجتمع الإيراني، اعتباره جزءًا من المجموعة الاجتماعية المهمة، حيث يُعتبر الشعراء أفرادا مستقلين يعبرون عن مخاوفهم، وأكثر التزامًا بمشاعرهم، ويميلون إلى أن يُكَوِّنُوا شِعرًا جديدًا بدلاً من الاعتماد على الجسم الثورى للدين، وإشراك الأولوية الجهادية. تتأسس القصيدة الأفغانية المعاصرة على رؤية جديدة تدمج الأنا الكاتبة فى صلب محيطها الاجتماعي، بحيث يعبر الشاعر عن أزمات المجتمع من خلال قلقه ورؤيته الذاتية. ودائما ما يستحضر الشعراء الأفغان بعدا رمزيا فى هذه الرؤية. نذكر على سبيل المثال، الشاعر واصف باختري، الذى يعتبر من الشعراء المعاصرين الحداثيين، نظرا لتأثره بالقصيدة الحديثة، خاصة شعر نيما والشعر الغربي. يميل باخترى إلى اختيار هذا النوع من التعبير فى أعماله الشعرية كنتيجة للقمع والوزن الثقيل لظل السيادة. فقصائده ذات صورة مزدوجة، أى أن المساحة بأكملها هى مساحة رمزية افتراضية. يعد واصف باخترى واحدا من أبرز الشعراء المعاصرين وسيد الشعر الفارسى المعاصر فى أفغانستان. نشر العديد من الأعمال الأدبية والشعرية، من أبرزها «سلم السماء»،«لن تموت الشمس»،«مدينة الحرية فى البنتاغون»، و»التراتيل والخطب». سخر معرفته الواسعة فى الأدب الفارسى الكلاسيكى ومدرسة نيما والفلسفة والتصوف والأدب العالمي، لكتابة شعرٍ أصيل من حيث اللغة والمحتوى. أصبحت اللغة الرائعة لقصائده يتردد صداها فى الوسط الأدبى الأفغانى خاصة، والفارسى عامة، من خلال استخدام المفردات والتراكيب النحوية الفارسية القديمة التى جعلت شعره مميزًا عن باقى الشعراء. إن شعر واصف باخترى فريد من نوعه، ليس فقط اشتغاله على المفردات القديمة، وخلق صور شعرية جديدة، ولكن أيضًا من خلال موسيقى الكلمة. كان جمهور قصيدته، بغض النظر عن الصور والشحنة العاطفية للقصيدة، يستمتع بموسيقى كلماته.
عند الحديث عن الأدب الأفغاني، لابد من الإشارة إلى أعمال آصف سلطان زاده. ينتقل بنا الكاتب من مشهد خيالى إلى مشهد حقيقى يصور لنا وجوها شاحبة وأعين ملطخة بالدماء لأولئك الذين عاشوا فى هذه الأوقات المخيفة والمرعبة. إنها فعلا صور يكسوها السواد حتى أصبحت مزعجة. لا وجود للعاطفة ولا يوجد توزيع مناسب بين الأشرار والطيبين، ولا وجود لأبطال لطفاء بعيون الكحل المظللة. فأبطال آصف سلطان زاده هم فى الأصل أشخاص عاديون، بعيدون عن عظمة الكائن البشري. شخصيات مجنونة فى عالم مجنون. ينتقل بنا الكاتب من الكوابيس إلى الأوهام، من الرؤى إلى الانحرافات، نرافق شخصياته وكأننا نعرفها من الداخل. لعل هذا هو الجمال المتفرد فى كتبه، لأننا ننسى كل الغرابة للمشاركة فى هذا المنطق غير المعقول الذى لا توجد فيه حرية أخرى، غير الالتزام بالجنون. آصف سلطان زاده، المولود فى كابول عام 1964، غادر بلاده عام 1985 متوجهاً إلى باكستان، ثم إلى إيران. تدور قصصه فى الغالب حول الحرب مع «الروس والحكومة»، وهى حرب تُرى فى أغلب الأحيان من بعيد، لأنها موجودة فى كل مكان، ولا يوجد تفسير لها. حرب تزرع الصواريخ والبؤس، وتصدع العقول المضبوطة بالدوار قبل الانفجار. يتجنب سلطان زادة العواطف لاختراق الألم، هذا الإحساس بالذات الذى لا يطيقه أحد، ويخترع عزاءه بالتأكيد على أن هناك طرقًا أخرى للوجود. لقد شكلت الكتابة بالنسبة اليه فرصة لمقاومة الهمجية التى تعرضت لها أفغانستان، والتى كان يتابعها عن كثب فى الصحافة الدولية نظرا لأنه كان منفيا. لم يكن سلطان زاده قادرًا على نشر كتاباته فى بلده، لذا نشر فى عام 2000 أول مجموعة من القصص القصيرة فى إيران. عالجت هذه القصص صورة أفغانستان الغارقة فى عالم مجزأ وفوضوى : عالم دمرته الحرب.
أطفال قرية أفغانية للفنان عمر نورزاى
تعد تجربة خالد حسينى أيضا من أهم التجارب الإبداعية التى انتشرت بشكل لافت للنظر. نشر مجموعة من الأعمال الروائية العالمية التى ترجمت للعديد من اللغات، من أبرزها «عداء الطائرة الورقية»، «ألف شمس ساطعة»، «ورددت الجبال الصدى» و«صلاة البحر». يعالج الكاتب فى نصوصه أهم المواضيع التى تشغل الرأى العام الأفغانى من قبيل الحرب، الصراع العرقي، مشكل الحداثة والطفولة الضائعة وغيرها. تدور رواياته حول ما خلَّفه الصراع على أرض أفغانستان وحولها من تأثير سلبى على العلاقات الإنسانية والعائلية. عادة ما يصور لنا الكاتب نهايات موجعة كقرائن لمخلفات الحرب المفجعة. تعد رواية «عداء الطائرة الورقية» تعبيرا عن الولاء والصداقة والخلاص، بينما نجد فى رواية « ألف شمس ساطعة» تعبيراً عن القيم الديمقراطية والاجتماعية المرتبطة بالتعليم والأسرة وحقوق المرأة. يؤكد إيلاى ريدينغ أن أفغانستان عانت من الظلم والتحيز، لذلك فقراءة رواية مثل «عداء الطائرة الورقية» تعد أمرا مهما للغاية، لأن معظم وسائل الإعلام جعلت من الأفغان أشرارا. فالإطلاع على الأعمال الأدبية الأفغانية يساهم فى تغيير هذه الصورة النمطية من خلال تسليط الضوء على مشاكل الشعوب فى الشرق الأوسط. تساعد روايات خالد حسينى القارئ على فهم الأحداث اليومية وكذلك الأحداث التاريخية التى هزت أفغانستان منذ السبعينيات. فهى سرد لأحداث عرفها العالم بعيون أطفال - ثم رجالا شاهدوا انهيار أفغانستان تحت وطأة العدوان السوفييتى وظلم طالبان وتوغل الأمريكيين.
الشعر النسائي
لا تقتصر كتابة الشعر فى أفغانستان على الرجال فقط، إذ تعد الكتابة الشعرية النسائية أبرز وجه للأدب الأفغاني. تعد الشاعرة نادية أنجمان من أبرز الوجه التى شغلت الرأى العام الثقافى الوطنى والدولى بعد مقتلها على يد زوجها. عاشت الشاعرة طفولة صعبة، بالرغم من ذلك تابعت دراستها، قبل أن تنقطع عنها بسبب طالبان. تخرجت من جامعة هرات، وأصبحت واحدة من ممثلى الأدب الأفغانى المعاصر فى الأوساط الأدبية فى أفغانستان وإيران، خاصة بعد نشر مجموعتها الشعرية «أزهار حمراء داكنة» سنة 2005. قُتلت على يد زوجها وضُربت حتى الموت عندما كانت فى الخامسة والعشرين من عمرها بسبب كتابتها للشعر. على الرغم من صغر سنها، إلا أنها كانت ملتزمة بالدفاع عن قضية المرأة من خلال نشر نصوص شعرية متمردة. كما تعد ربيعة بلخى أشهر شاعرة فى أفغانستان، فقد عاشت فى القرن العاشر، وكتبت قصائد فارسية قوية عن الحب. تم سجنها وقتلها من قبل شقيقها بسبب الوقوع فى حب عبد. يُعتقد بشكل عام أنها كتبت قصيدتها الأخيرة على جدار الغرفة التى سُجنت فيها، باستخدام دمها. إن تاريخ نضال المرأة الأفغانية من أجل الاعتراف الاجتماعى والمساواة، بدأ مباشرة بعد الدمار الثقافى لأفغانستان، كان وصول النساء إلى التعليم والأمن والوظائف ضئيلاً. واليوم فى عصر ما بعد طالبان، يفرض كل من «التحرير» الغربي، والأصولية الإسلامية قيمهما الخاصة على المجتمع الأفغانى كنماذج سياسية. لا يراعى التغريب، فى ما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، المفهوم التقليدى للأسرة فى الثقافة الإسلامية،
خليل الله خليلي
أو الأفغانية، ويميل إلى التفاوض بشأن حقوق المرأة الأفغانية، خارج مجتمعها وأسرتها. من ناحية أخرى، فإن القراءات المتعصبة للقرآن والشريعة، تحرم النساء من أبسط حقوقهن، ولا تعتبر الأيديولوجية أساسية فى الحياة اليومية، وتطلعات المرأة الأفغانية؛ يروى نضالهن اليومى آمالهن فى أفغانستان ديمقراطية وعادلة، والرؤية الاجتماعية، والمشاركة فى إعادة بناء وطنهن. كان الشعر من بين الطرق التى طالبت من خلالها النساء الأفغانيات بتغيير وضعيتهن. كتابة الشعر من أكثر مكونات الفن والثقافة شهرة فى أفغانستان المعاصرة، على الرغم من أن المرأة مهمشة فى الساحة الأدبية، إلا أنها ليست معفاة من هذا التقليد القديم، النساء الأفغانيات، اللواتى لديهن الوسائل المالية والمادية للكتابة، أو «غرفة خاصة بهن» على حد تعبير فيرجينيا وولف، أو من عائلات تقدمية وغنية، يكشفن عن مشاعرهن من خلال الشعر، ويحصلن على الاعتراف الاجتماعي، خاصة فى ريف أفغانستان. فنادية أنجومان كانت شاعرة شابة من هرات، نشرت مجموعتها الأولى فى سن الخامسة والعشرين، كانت معروفة فى كل من أفغانستان وإيران، لكنها قُتلت. يعتقد العديد من الأفغان أن زوجها قتلها بسبب ظهورها الاجتماعى وشهرتها، فعلى الرغم من القيود، فإن عددًا لا يحصى من النساء يكتبن ويتبادلن شعرهن فى الاجتماعات العامة والخاصة. ومع ذلك، يتم إنتاج معظم الأدب الأفغانى فى المنفى، حيث يوجد الأمن والحرية والاستقرار الاقتصادي، وكل موارد الكتابة متاحة.
يعبّر شعر النساء الأفغانيات عن آمال الشاعرة ومخاوفها وتطلعاتها، الأهم من ذلك كله، أنها تضيف فى قصائدها ألوانًا جديدة منعشة إلى اللون الأزرق أحادى البعد لتشدارى (البرقع)، الذى أصبح مرادفا للمرأة الأفغانية و «الوجه» الوحيد للنساء الأفغانيات فى العالم. إن شعر النساء الأفغانيات، يساعد المرأة الأفغانية على التحرر من كل القيود ولو رمزيا، ويوسع عقلها، ويميزها، ويجعلها إنسانة قبل كل شيء. يشفى الشعر وطنها المنكوب بالحرب، ويعبّر عن الوطنية العميقة، ويكشف عن الاستياء من العقيدة، والنفاق الديني، وكراهية النساء، ويضفى الطابع الرومانسى على أفغانستان ومناظرها الطبيعية المذهلة. تُحيى المرأة من خلال الشعر ذكرى الأصوات التى فقدتها فى شبابها وآمالها وحياتها لعدة عقود، بسبب الحرب والتطرف الديني، سواء أكانت الكتابة بالفارسية (الداري) أو الباشتو أو الإنكليزية، فإن كلمات المرأة الأفغانية تعكس توقها إلى السلام، وأن تحمل صورها وهويتها فى جميع أنحاء العالم كسفيرة للحياة. ولعل لينا روزبه حيدرى واحدة من أبرز سفيرات الشعر الأفغانى المعاصر فى الولايات المتحدة الأمريكية، اشتغلت حيدرى محررة فى التلفزيون والراديو فى صوت أمريكا، بدأت حياتها المهنية مذيعة راديو فى عام 2003 قبل أن تنتقل للعمل فى التلفزيون فى عام 2006. كما كانت عضوا فى اللجنة حول قضايا أفغانستان، وقد أجريت معها العديد من المقابلات التلفزيونية من قبل وسائل الإعلام الأفغانية والدولية، بما فى ذلك «بى بى سي»، «صوت أمريكا»، راديو «أوروبا الحرة»، «واشنطن بريزم» وغيرها. حصلت على درجة البكالوريوس فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة كونكورديا، ودرجة ثانية فى الاتصالات والإعلام والسينما من كلية فانير فى مونتريال كندا. نشرت حيدرى مجموعتها الشعرية «وعد الجنة» سنة 2015. تتضمن أزيد من 140 قصيدة، تروى المؤلفة من خلالها عقودا من المعاناة التى خلفتها الصراعات المفروضة على شعب أفغانستان. تتطرق المجموعة الشعرية إلى كل المصاعب الحياتية التى عانتها المؤلفة، لاجئة أفغانية فى إيران وباكستان، تكشف عن الحياة المأساوية التى عاشها الشعب الأفغاني، خاصة النساء والفتيات الأفغانيات. تتفاعل كل قصيدة فى هذه المجموعة، وتستجيب لحدث مؤسف فى أفغانستان، تصور مشاهد معاناة غير مسبوقة للأفغان ضحايا الإرهاب، والفقر المدقع، وثقافة الإفلات من العقاب. تسرد التاريخ الحديث لأفغانستان، الذى تخلله العديد من المآسى الإنسانية بسبب الحرب المستمرة وسياساتها اللاإنسانية. يظل الشعر أهم ما يميز ثقافة هذا البلد، خاصة شعر النساء المُحرم. إن كانت الشاعرات فى مختلف دول العالم يكتبن فى ظروف مواتية، ويعرضن أشعارهن على القارئ بشكل علني، بدون أى مشاكل، فإن الشعر لا تكتبه النساء فى أفغانستان إلا سرا أو خارج حدود البلد. بمجرد أن تكتب المرأة الأفغانية الشعر فهى تلطخ سمعة عائلتها، وقد يكون الموت عقابا لها، لذلك فشعر النساء الأفغانيات بقدر ما هو محرم، متحرر بشكل لا يمكن وصفه:
«أعطنى يدك
يا حبيبي
ولنرحل إلى الحقول
لكى نتبادل الحب
أو نتهاوى معا
تحت الطعنات» (شعر اللاندي)
فالحرمان الذى عانت منه المرأة بسبب قسوة العيش، والتأويل المتعصب للشريعة، وعنف الأسرة، ونظرة المجتمع الدونية لها، أحد العوامل الرئيسية التى دفعت بمجموعة من النساء الأفغانيات إلى الإفصاح عن مشاعرهن والتطرق لكل المواضيع المحرمة كالجنس والشهوة والحب، سواء عبر قصائد اللاندي، أو عبر الشعر الحديث المكتوب باللغات الفارسية (الأردية، البشتونية) أو اللغات الأجنبية. تنتصر المرأة الشاعرة لروحها ولحريتها، وتختار الكتابة كوسيلة للتحرر من قيود الماضي، وقساوة الحاضر المرّ، كاشفة عن أسرارها وأسرار باقى النساء الأفغانيات. ليست كتابة الشعر إذن مجرد ممارسة أدبية، بل هى ردة فعل واعية لذات ممزقة تحاول جمع شتاتها وإعادة بناء هويتها. لذلك، فهذه الموضوعات التى ذكرناها ممنوعة تمامًا. تتجنب الشاعرات الأفغانيات كتابة الشعر الرومانسى لأن المجتمع لا يشجع النساء على التعبير عن الحب، حتى فى شكل شعر. تم تعذيب بعض الشاعرات بسبب كتابة الشعر الرومانسي. عندما تكتب النساء الأفغانيات عن الحب، غالبًا ما يتم اتهامهن بالزنا، والمساس بشرف العائلة بأكملها. فى عام 2005، قُتلت الشاعرة الأفغانية نادية أنجومان على يد زوجها، بعد نشر كتاب شعرها الرومانسي. ذكرى وفاتها لا تزال تثير الخوف بين النساء، لكنها لم تمنعهن من وضع حبر أحاسيسهن على الورق :
« يا حبيبي
إسرع واقتحم الغارة
لقد تراهنتُ عليك
مع بنات القرية» (شعر اللاندي)
نجيبة باكتيانى شاعرة من مدينة جلال آباد الشرقية، تصف الشعر بأنه ترياق لصعوبات الحياة، تقول: «كانت حياتى فى حالة اضطراب، مليئة بالحزن. حاولت التعبير عن حزنى من خلال الشعر، هكذا بدأت». لطالما كان الشعر جزءًا مهمًا من ثقافة البشتون، وغالبًا ما كان يتم تمريره من قبل النساء من خلال الأغانى التى تغنى للأطفال، وفى حفلات الزفاف. لكن منذ عهد طالبان، تم منع كتابة الشعر عن النساء، ما أحبط العديد من الشاعرات. فحتى عندما يتمكن من الكتابة، يتم الحكم عليهن بقسوة، بينما يحظى الشعراء الذكور باحترام كبير.
إلى جانب الشعر، تعتبر خطيئة كبيرة أن ترغب النساء فى التعليم، أو يرغبن فى اتخاذ قرارات لأنفسهن. هناك العديد من الكاتبات والشاعرات المتحمسات فى أفغانستان، لكن يكتبن سرا خوفا من أسرهن، فانعدام الأمن، والعنف القائم على نوع الجنس، وقتل النساء – تلك هى المواضيع الرئيسية التى تستكشفها الشاعرات الأفغانيات.
عودة طالبان ومستقبل الأدب الأفغاني
لا شك فى أن عودة طالبان وسيطرتها على الحكم فى أفغانستان سيكون لها وقع وخيم على الحياة الثقافية وعلى مستقبل الأدب الأفغاني. فالبرغم من الوعد التى صرحت بها هذه الحركة، إلا أن غالبية الكتاب والمثقفين متخوفين من العودة إلى نفس الوضع الذى عايشوه فى التسعينيات. فقد عبر مجموعة من الكتاب القاطنين بالخارج كخالد حسيني، عتيق رحيمي، محمد زمان خان وغيرهم عن قلقهم تجاه الوضع الحالى بأفغانستان، خصوصا بعد الانفجارات الدموية الأخيرة التى تبنتها داعش. فعودة طالبان معناه العودة إلى نفس نمط الحياة القديم حيث لا مكان لحرية التعبير ولا الديمقراطية ولا الفن. كما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية ستعرف نوعا من الفوضى والاضطراب التى ستفرغ البلاد مرة أخرى من مثقفيها. لذلك دق هؤلاء الكتاب ناقوس الخطر الذى يهدد مستقبل البلاد، وبالأخص مستقبل الثقافة والمثقفين الذى سيشكلون الهدف الأول لحركة طالبان التى ستسعى للانتقام من كل الذين انتقدوها وتجاوزا الحدود الأخلاقية من خلال كتاباتهم التحررية التى تخالف مبادئ الشريعة الإسلامية التى ستعمل طالبان على تطبيقها بحذافرها. لن يكون بالإمكان اليوم للعديد من الكتاب العودة للبلاد بسبب هذه الكتابات التى كانت تصف حركة طالبان
صادق هدايت
على أنها حركة ارهابية وظلامية. كما أنه لن يكون للنساء القدرة على مواصلة نشر أعمالهن فى أفغانستان، نظرا لأن الكتابة والعمل محرم على النساء وفق للشريعة التى تعمل على تطبيقها طالبان. وخير دليل على ذلك، منع مجموعة النساء من مزاولة عملهن فى التعليم والصحافة مباشرة بعد السيطرة على كابول وفرار الرئيس الأفغانى أشرف غني.
وقد عبر عتيق رحيمى عن استياءه قائلا» أن عودة طالبان تعنى العودة إلى هوية غريبة عن الأفغان» ما يعنى أننا سنشهد تغييرا جذريا فى العادات والتقاليد والأعراف الوطنية والثقافية. الشيء الذى سيزيد من أزمة المثقف الأفغانى الذى يبحث عن حرية أكبر للتعبير عن مواقفه وأفكاره. وقد طالب عتيق رحيمى من مجموعة من الشخصيات الديمقراطيات الليبرالية بمنح اللجوء للصحفيين والفنانين الأفغان المهددين بالقتل من قبل طالبان. مشيرا إلى أن حركة طالبان ستفرض قانونها وستزرع الإرهاب بقسوة ليس فقط على أولئك الذين انضموا إلى القوات الأمريكية، ولكن أيضًا على الفنانين والصحفيين الذين استنكروا أعمالها بشجاعة خلال السنوات العشرين الماضية.
ويضيف عتيق رحيمى أن التحالف الدولى فى أفغانستان جعل من أولوياته إنقاذ أرواح المترجمين المحليين وعائلاتهم، لكن لا أحد يهتم لأمر الصحفيين والفنانين وصانعى الأفلام المستقلين، وهم أهداف ذات أولوية لطالبان.وقد كان الهجوم على مدينة هرات، غربى البلاد، المعروفة باسم مدينة الشعراء والحكماء، والمحاطة بآثار تاريخية مهيبة، دليل على ذلك. من جهة أخرى، علق خالد حسينى على هذه ا لأحداث بقوله أن الأفغان يعرفون طالبان ويتذكرون جيدا ما حدث عند وصولهم للسلطة فى التسعينيات. وأضاف أنه من الخطأ القول أنه يمكن دفن الماضي، لأنه معلق جيدًا لدرجة أنه دائمًا ما يظهر على السطح. تذكر حركة طالبان خالد حسينى بالأيادى المقطوعة، والإعدامات الوحشية داخل الملاعب، والدمار الهمجى والمجنون للآثار التاريخية. كما تذكره بالصورة الذهنية الدائمة لطالبان فى التسعينيات،
محمد ظاهر شاه
صورة العصا التى يستعملها أفراد الجماعة لضرب المرأة. فقد قامت طالبان بشكل منهجى بإرهاب النساء. لقد سلبوا منهن حريتهن فى الحركة والعمل، وحقهن فى التعليم و فى ارتداء المجوهرات والضحك فى الأماكن العامة و إظهار وجوههن. فى نفس الوقت عبر محمد زمان خان عن تخوفه من أن تتحول أفغانستان مجددا إلى بحر من الدماء. وقد كتب معلقا عن عودة طالبان بأن الكل يستمتع بالحياة رفقة أسرهم وفى بلادهم، بينما يقاتل الشعب الأفغانى فى أنهار من الدماء. لقد أنهت الدول القوية فى العالم حربها، لكن ستبدأ حرب أخرى ستكون أكثر خطورة على الشعب الأفغانى الذى لا يعرف ما الذى ينتظرنه فى هذه الحرب المفروضة. لا شك فى أن أفغانستان ستعانى من همجية هذه الحركة التى لا تعترف بالفكر أو الثقافة أو الأدب. ولا شك فى أن الكتاب والمثقفين الذين لن يتمكنوا من النجاة بأنفسهم، سيتعرضون لكل أنواع العنف والترهيب والاعتقالات. فمشروع طالبان يتأسس على رغبة جامحة فى تقييد حرية الشعب وإفراغه من ثقافته، لتأسيس ثقافة أجنبية وظلامية وقبلية تحت راية الإسلام. لقد عانت أفغانستان وما تزال تعانى من مأساة لا يمكن تجاوزها بسهولة بسبب تدمير تراثها الثقافى ومحفوظاتها ومواقعها التاريخية، وإغلاق مراكز الفنون والأدب، فضلاً عن قمع أى فكر حر وحداثى يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية الطالبانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.