لعل نكران الجميل في مختلف أشكاله الإنسانية ؛ عائليةً كانت ، أو أسرية ، أو اجتماعية ، أو وظيفية ، هي أكثر ماتعانيه مجتمعاتنا ، وأشد ما تألم له القلوب ، وتُنْكأ به الجراح ، وتشقى منه النفوس ، وهو الشغل الشاغل والحديث السائر في الملتقيات الشخصية بالأقارب والأصدقاء والزملاء والجيران. وتكاد تكون شخصية ناكر الجميل هي الأكثر طغيانا حضوريا في المجتمعات العربية والإسلامية . فهي الأكثر استحوازا على الاهتمام بحثا وتنقيبا حول محاولة فهم تلك الشخصية وأبعادها وكشف خباياها ومكنوناتها وخلفياتها . ودائما يكون التساؤل الوجودي حاضرا بشأن ناكر الجميل وحقيقة نكرانه الجميل : هل سببه يعود إلى أن ناكر الفضل والمعروف : 1. مريضٌ نفسي كارهٌ للجميع ، ساخطٌ على الكل ، رافضٌ للواقع والحقائق ، وأولها حقيقة التفضل عليه ؟ 2. خبيثٌ لئيم الطبع ، عديم المروءة : فإذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فيأتي تمرده على فاعل المعروف وصاحب الجميل في صور متعددة من الانتهازية ، والأنانية والفهلوة ؟ 3. أحمق لأنه يحرق قلبه ويقتله بالحقد ، ويمرضه بالغلّ على صاحب الجميل ، فيحرم نفسه راحة البال بينما ينعم صاحب الجميل بها ؛ لأنه اعتاد على صنع الجميل ولو في غير موضعه . إذ إن صناعة الجميل قد أصبحت عادة لدى مَنْ يرجون من الله ما لا يرجو ناكرو الجميل ؟ 4. استحوز عليه الشر فأصبح طبيعة متأصلة داخله ، فلا يُرجَى خيره ولا يُؤمَن شرُّه ؟ 5. فاقدٌ للنشأة الاجتماعية الصالحة والصحيحة التي رسَّختْ فيه النكران والجحود بدلا من الشكر والامتنان ؛ لأنها كانت تظن أن ذلك نوع من الفهلوة والشطارة والمكاسب السهلة ؟ 6.حسودٌ غيور من صاحب الفضل والجميل ؛ لأن يده البيضاء هي العليا ذات المنة والعطاء بينما ناكر الجميل هو الأسفل قدرا ومكانة ويداً. فما كان منه إلا أن يحاول دائما تعويض ذلك التفاوت بالكذب ، والاحتيال ، والتزوير ، والتلفيق ،وذلك بدلا من الشكر والامتنان الذي سوف يكرّس ذلك التفاوت في نظره الضيق ؟ 7. معدوم اليقين والرضا بقضاء الله وقدره المقسوم الذي يحتم قبول التفاضل والتفاوت بين درجات الناس ومكانتهم ومقدرتهم حيث فاوت سبحانه بين الناس فكان التفاضل في المعيشة والمواهب والمكانة والعطاء منه سبحانه وليس من الإنسان صاحب النعمة والجميل المتفضل على ناكره : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ؟ 8. منقوص الإيمان بجحده وصايا ربه الجازمة بعدم نسيان فضل بعضنا على بعض :( وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ؟ 9. مكذِّبٌ لآلاء الله التي خصصت الإحسان وحده وليس الجحود والنكران جزاءً للإحسان : ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) ؟ 10. يُشبه حيوان الضبع الشهير الملقب بأُمّ عامرٍ ، والذي أصبح مضرب المثل في نكران الجميل ، وبات التحذير من المصير الذي يمكن أن يلقاه صاحب الجميل بسبب معروفه كالمصير الذي لقيه الأعرابي الذي فعل المعروف بالضبع : ومَنْ يصنع المعروفَ في غير أهله يُلاقي الذي لاقى مُجيرُ أُمّ عامرٍ ؟ أم أن ناكر الجميل هو جميع ذلك كله لأنه يجعل الناس تكره المعروف ، أو تحذر منه ، فيذهب الخير ، وتغيب المروءة من المجتمع وذلك هو الشر كله ؟ كاتب المقال : عميد كلية دار العلوم الأسبق بجامعة القاهرة