أخشى أن يأتى يوم قريب نستيقظ فيه، لنكتشف أن جغرافيا المنطقة قد تغيرت، ولم يعد هناك ملامح لدولة فلسطينية، تسعى ليكون لها مكان، وشعب من اللاجئين، دون هوية، يتشكل من مجموعات متفرقة، يمثل أقلية محدودة على أرضه، لا يتمتع بأى حقوق، ولا يشعر بالمواطنة داخل دولة (إسرائيل الكاملة)، والتى تمثل مرحلة أولى فى مخطط كبير، بهدف الاستيلاء على كل أرض فلسطين التاريخية، باعتبارها خطوة مهمة فى مسار تحقيق الحلم النهائى، بإقامة (إسرائيل الكبرى)، وقد تحدث عنه نتيناهو، بضم أراضٍ من دول عربية عديدة، هل هو تشاؤم بزيادة؟ يجوز، هل هو شعور باليأس؟ ربما، ولكن تاريخ الصراع الذى بدأ منذ قرون، والوقائع على الأرض، قد تؤكد ذلك. حقيقة الأمر أن من حقنا جميعًا (أن نلعن إسرائيل كما نشاء)، أن نرفض وجودها كما نريد، نتمنى زوالها، ولكن علينا أن نعترف بنجاح أجيال من اليهود، حتى قبل قيام الدولة فى أربعينيات القرن الماضى، عبر خطوات مدروسة، فى تحقيق إنجازات على الأرض، لتحقيق - كابوس بالنسبة لنا - وحلم يخص اليهود، يلوح فى الأفق، عبر الإيمان بفكرة (الحق الإلهى) فى فلسطين، عبر الاستيطان وهى ليست وليدة اليوم أو الحقب الأخيرة، ولكنها بدأت بعد ظهور حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا على يد مارتن لوثر، حيث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتى الجديد، فى نهاية القرن ال 16، بترويج فكرة أن اليهود ليسوا جزءًا من النسيج الحضارى الغربى، بل هم شعب الله المختار، ويجب أن يعودوا إلى أرض الميعاد فى فلسطين، ومر الحلم أو الكابوس بمراحل عديدة، وعد بلفور فى نوفمبر 1917، الذى (أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق)، ومع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، يكشف موشيه سنيه رئيس القيادة القطرية للهاجانا عام 1934، الهدف الحقيقى مما يجرى، عندما قال (الاستيطان ليس هدفًا فى حد ذاته فحسب، بل أيضًا وسيلة الاستيلاء السياسى على فلسطين، ولذلك علينا أن نسعى فى آن واحد، لإقامة مستوطنات عبرية سواء وسط المراكز السياسية والاقتصادية لفلسطين، أو بالقرب منها أو حولها)، إذاً كلمة السر فى ذلك كله (الاستيطان)، والذى حقق إنجازات مع كل إخفاق عربى، هزيمة 1948، ونكسة 1967، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، مع وصوله إلى أرقام قياسية خلال العام الماضى، بعد تجاوز عدد المستوطنين فى الضفة نحو 770 ألف مستوطن، موزعين على 180 مستوطنة و256 بؤرة استعمارية رعوية زراعية وتغطى هذه البؤر أكثر من 480 ألف دونم - والذى يعادل حوالى أكثر من ربع فدان - هو ما يمثل ثلاثة أضعاف المساحات المبنية ضمن المستوطنات القائمة. وتاريخيًا، فإن الاستيطان فى الضفة، هو امتداد لمشروع صهيونى يقوم على أسس دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية، ذات أبعاد عنصرية متطرفة، من خلال سياسة فرض الأمر الواقع، عبر إيجاد تجمعات سكانية يهودية كثيرة العدد، مترامية الأطراف فى أنحاء جميع الضفة، تحاول تجسيد المقولة الكاذبة والمخالفة للواقع والسياق التاريخى، (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وقامت الحركة مبكرًا منذ بداية القرن الماضى، بتنظيم نفسها من خلال كيانات منها، تأسيس الوكالة اليهودية، والصندوق القومى اليهودى، وفى الأونة الأخيرة تعددت الأجهزة المشرفة على تنفيذ مخططات (إسرائيل الكاملة) تحت رعاية الحكومة عبر العديد من أجهزتها الرسمية، ومنها مؤسسات الجيش الإسرائيلى، والمجلس الأعلى للتخطيط (متاع)، وحدة التفتيش، حارس أملاك الدولة الواصى على الممتلكات المهجورة، بالإضافة إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، ومنظمات أخرى، وكلها تسعى لتنفيذ عملية سيطرة ممنهجة عبر مصادرة الأراضى، وإقامة المستوطنات والبؤر الاستيطانية، والطرق الالتفافية، والقواعد العسكرية وحواجز التفتيش، والمحميات، وجدار الفصل العنصرى، كما يوفر الجيش الإسرائيلى الحماية الكاملة للمستوطنين، ونادرًا ما تم رصد مواجهة بينه وبينهم، بل يمارسون كل جرائمهم، تحت عين وبصر تلك القوات خاصة وأنه لا يملك أصلًا صلاحية إيقافهم أو اعتقالهم، كما أن الحكومة هى من تمول عمليات البناء ومد البنية التحتية إليها، ماء وكهرباء، كما يتلقون دعمًا ومساندة من وزير الأمن القومى الإسرائيلى بن غفير، ووزير المالية سموتريش بطرق مختلفة، منها تسليح المستوطنين حيث تم توزيع أكثر من 80 ألف قطعة سلاح على هذه المجموعات، الذين ينفذون اعتداءات منظمة لبث الرعب فى صفوف الفلسطينيين، وتشمل مهاجمة السكان واقتحام منازلهم، وتخريب المحاصيل الزراعية، وتدمير الممتلكات والاستيلاء على مصادر المياه، ومنع الأهالى من استخدامها، ووفقًا لإحصاء إسرائيلى، فقد وصل عدد جرائم المستوطنين خلال شهر أكتوبر الماضى فى الضفة الغربية، إلى 97 مقارنة ب 60 خلال نفس الشهر من العام الماضى، كما تكشف الإحصاءات عن استشهاد 1069 وإصابة نحو 10 آلاف واعتقال 20 ألف فلسطينى بينهم 1600 طفل منذ عملية طوفان الأقصى. الوضع كارثى، فى ظل غياب التكافؤ، بين فلسطينيين عزل أمام إجرام مستوطنين، بقدرات كبيرة مع توفير حماية الجيش، وغطاء الحكومة، مع مجتمع دولى، اكتفى (بإبراء ذمته)، عبر بيانات إدانة، لا تغنى ولا تسمن من جوع، وقرارات لا تساوى الحبر الذى كتبت به، والأمل فى استمرار المقاومة، ثم المقاومة، واليقين بوعد الله، الذى جاء فى محكم كتابه الكريم فى سورة الإسراء، والحديث عن (العلو مرتين) واعتبار ما يحدث من نجاح مخططهم الحالى فى فلسطين، هو (العلو الثانى) قبل حكم الله عليهم، بالهزيمة والأسر والهوان والخذلان.