منذ اللحظة الأولى التي اقتربت فيها من المتحف المصري الكبير شعرت أنني لا أتجه نحو مكان بقدر ما أقترب من حكاية كبرى. المبنى نفسه يفرض هيبته من بعيد، ككتلة هائلة من الحجر والزجاج، تقف على مشارف الأهرامات كأنها تتبادل معها التحية. ◄ «مستقبل وطن» يحكم السيطرة .. و«المعارضة» تثبت حضورها كانت الشمس تميل نحو الغروب حين وصلت، وأشعتها الذهبية تنعكس على الواجهة المائلة لتمنحها لونًا فرعونيًا خالصًا، وكأن الأجداد رسموها بأيديهم. لم يكن الأمر مجرد زيارة صحفية عادية، بل بدا لى منذ الخطوة الأولى كأننى أستعد لرحلة داخل الذاكرة المصرية ذاتها. وقبل أن أخطو إلى الداخل، استوقفتنى المسلة المعلقة التي تتصدر ساحة المتحف. هى أول ما يواجه الزائر، وأول ما يعلن أن المكان لا يكتفى بعرض التاريخ، بل يعيد تعريفه. إنها المسلة الوردية الضخمة لرمسيس الثاني، التى استُخرجت من مدينة صان الحجر بعد أن ظلت قرونًا مدفونة فى الرمال. ثم أُعيد تجميعها قطعة قطعة لتقف اليوم معلقة فى الهواء. يمكن للزائر أن يسير تحتها ويرى للمرة الأولى نقوش الملك وكارته الملكى المحفور أسفلها، وهو المنظر الذى لم يكن ممكنًا فى أى عصر سابق. وقفت تحتها مبهورًا. الإضاءة تبرز خطوطها الفرعونية، والفراغ من تحتها يمنحها خفة غامضة رغم ثقلها الحجرى. كان المشهد أشبه بتحية رمزية من الملك رمسيس نفسه؛ أن تعبر من تحت المسلة يعنى أنك تدخل إلى عالم الملوك. ومن هناك يبدأ الطريق إلى الداخل، إلى بهو المتحف حيث يقف رمسيس الثانى مجددًا، لكن هذه المرة ليس تمثالًا معلقًا فى الهواء، بل ملك واقف بكل فخامته. ◄ اقرأ أيضًا | افتتاح المتحف المصري الكبير| هكذا شيّدت مصر متحفها الكبير ◄ لقاء الملك دخلت من البوابة الواسعة، فإذا بى أمام تمثال رمسيس الثانى، شامخًا، يطل على من ارتفاع عظيم. توقفت لحظة، رفعت رأسى لأقابل نظرته الحجرية الصلبة، لكننى شعرت فيها بدفء غريب، كما لو أنه يقول لى: «مرحبًا بك فى مملكتى الجديدة». كان التمثال فى بهو فسيح تتناثر فيه الظلال والضوء بطريقة مدروسة، تمنح المكان طاقة من الوقار والسكينة فى آنٍ واحد. تأملت النقوش على جسده، والخطوط التي رسمها النحات منذ آلاف السنين، وشعرت أن الزمن توقف قليلًا، ليمنحنى فرصة أن أستمع إلى صوته الصامت. حول رمسيس كانت حركة الزوار تتباطأ، كأن الجميع يحاول التقاط أنفاسه أمام هذا الاستقبال المهيب. هناك شىء فى وجود التمثال عند المدخل يجعلك تتخفف من صخب الحاضر قبل أن تدخل إلى صمت الماضي. ◄ الدرج العظيم تقدمت نحو ما يُعرف باسم «الدرج العظيم». هو ليس مجرد درج ضخم، بل ممر زمنى تصطف على جانبيه مئات التماثيل والتوابيت لملوك مصر القديمة. مع كل خطوة كنت أشعر أننى أصعد داخل تاريخ يرويه الحجر. التماثيل متراصة فى صمت فخم، كأنها فى موكب جنائزى مقدس، أو كأنها تحرس طريق الصاعدين نحو مجد مصر الأبدى. تأملت وجوه الملوك والآلهة، فوجدت بينها اختلافًا فى الملامح لكنه تشابه فى النظرة؛ نظرة الثقة والسيطرة والخلود. الإضاءة هنا ليست مصادفة، بل جزء من السيناريو البصرى الذى صممه المعماريون بعناية. أشعة الضوء تسقط على وجوه التماثيل بزوايا محددة لتعيد إليها الحياة لحظة بعد لحظة. شعرت أننى أتحرك فى فيلم صامت يصنعه الضوء والظل. قال لى أحد العاملين بابتسامة فخورة: «كل تمثال هنا يحكى فصلًا من قصة الملكية فى مصر القديمة، كيف بدأت بشرية، ثم أصبحت إلهية، ثم خُلّدت فى الأبدية». تأملت قوله وأنا أتابع الصعود. خمسة وخمسون تمثالًا يتحدثون دون صوت، ومع كل تمثال كنت أكتشف معنى جديدًا لفكرة الخلود التى آمن بها المصرى القديم. ◄ بجوار الأهرام حين وصلت إلى قمة السلم، توقفت فجأة. فمن خلف الواجهة الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف، ظهرت أمامى أهرامات الجيزة بكل عظمتها. كانت المسافة بيننا قريبة جدًا حتى إننى شعرت أننى أستطيع لمسها بعينى. كانت تلك اللحظة ذروة الدهشة، مشهدًا مقصودًا ومدروسًا، كأن المصممين أرادوا أن يقولوا للزائر: «كل ما تراه هنا هو امتداد لما تراه هناك». شعرت أن الزمن قد التحم أخيرًا؛ الأهرامات هناك، والمتحف هنا، وبينهما يقف الإنسان المصرى القديم والمعاصر يواصل الحكاية نفسها بلغة مختلفة. ◄ قصة الزمن بعد تلك الإطلالة المذهلة، دخلت إلى القاعات الكبرى. فى البداية يخطفك اتساع المكان، ثم تباغتك الطريقة التى رُتبت بها العصور والموضوعات. شرح لى أحد المشرفين أن القاعات صُممت بحيث إذا سرت أفقيًا تتنقل بين الموضوعات: الدين، الحياة، الفن، الحرب، الموت، أما إذا تأملت رأسيًا فستراها بالترتيب الزمنى للعصور. إنه نظام فريد يجعل الزائر يسير فى التاريخ لا على الأرض فقط، بل فى الفكرة أيضًا. فى القاعة الأولى، لم تكن القطع الأثرية مجرد معروضات صامتة، بل كانت محاطة بمؤثرات صوتية ومرئية تجعلها تنطق. صوت خافت لآلة فرعونية، إضاءة تُسلّط على النقوش فى توقيتٍ دقيق، وشاشات تفاعلية تسمح لك بأن تُقرّب الصورة وتقرأ القصة الكاملة لكل قطعة. أدركت حينها أن المتحف الجديد لا يكتفى بعرض التاريخ، بل يرويه بأسلوب معاصر. إنه متحف لا يهمس للماضى، بل يحاوره. وهنا تنتهى الرحلة فى القاعات التى فُتحت للجمهور، ويتبقى الانتقال إلى رحلة أخرى نحو مركب خوفو وقاعة الملك الصغير توت عنخ آمون، التى تُعد قلب المتحف.