فوزى دهب - وفاء صلاح - على الشافعى - حمدى على - فايزة الجنبيهى - ضياء أبو كيلة - محمود مالك منذ أقدم العصور، عرفت الحضارة المصرية كيف تسحر العالم، وأصبح الهوس بها سمة عابرة للحدود والأزمان. ومع تقدم البشرية تم ابتكار المتاحف لتكون بمثابة خزائن لأسرار الماضى، وعرفت مصر نماذج مبكرة لها، تطورت مع الوقت لتنتشر فى مختلف أنحاء البلاد، وتتنوع بين متاحف قومية وإقليمية ونوعية، وشاركت مع المواقع الأثرية والسياحية فى تقديم صورة مشرقة تمزج بين الماضى والحاضر.. نعيش اليوم لحظة فارقة، نستعد خلالها لافتتاح المتحف المصرى الكبير، الذى يمثل أيقونة عالمية غير مسبوقة، وفى هذه المناسبة التاريخية تجد «الأخبار» أن الفرصة سانحة أكثر من أى وقت مضى، لتقديم صورة بانورامية، تستعرض كنوز حضارتنا التى قدمت إلى العالم تعريفا مختلفا ل«الإبهار».. وعلى مدار الأسابيع القادمة نلقى الضوء على نماذج منها، لأن الحصر الدقيق يظل مهمة مستحيلة. تبدو مدينة طنطا فى قلب الدلتا كأنها تحرس سرًّا عتيقًا، نقش على جدران متحفها العريق الذى ولد عام 1913، ليكون أول شاهد إقليمى على عبقرية المكان وأصالة الزمان. لم يكن متحف آثار طنطا مجرد مبنى يحتضن أحجارًا صامتة، بل كان وما زال مرآة تعكس تنوّع الحضارة المصرية، حيث تتجاور فيه الأزمنة وتتقاطع الحضارات فى خمسة طوابق تنبض بالحياة، ما بين «قبو» يحتضن الأسرار، وثلاثة أدوار للعرض، ومسرح متعدد الأنشطة، ومكاتب إدارية تشرف على قلب نابض بالتاريخ. نحن أمام كنز حقيقى، حيث يعرض المتحف 8579 قطعة أثرية من عصور متعاقبة تشمل: ما قبل التاريخ، والعصر الفرعونى، واليونانى الرومانى، والقبطى، والإسلامى، وحتى العصر الحديث، إنه ليس مجرد متحف إقليمى، بل نافذة حضارية تُمثِّل الدلتا كلها، ويضم قطعًا نادرة من محافظات مختلفة، تشهد على تلاحم الجغرافيا بالتاريخ». وفى أحد الأروقة، كان محمد حسن، الباحث فى قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة طنطا، يتأمل قطعة أثرية تمثل ملامح ملك من الأسرة التاسعة والعشرين، قال متأثرًا: «وجود متحف أثرى فى قلب الغربية يحمل فى طياته سردية وطن... إنه مفخرة حقيقية لكل مواطن فى الدلتا، فالمتحف لا يعرض تماثيل فقط، بل يعرض وجداننا وتاريخنا الممتد». فى القبو والدور الأرضى يتم تخزين وعرض توابيت خشبية من الدولة الوسطى، ومومياوات النبلاء، إلى جانب تمثال لكاهن من تل الفراعين - بوتو القديمة - العاصمة السابقة لمملكة الشمال، بالإضافة إلى مجموعة مذهلة من تماثيل الآلهة أوزوريس، وإيزيس، ووادجيت، إلى جانب أدوات صيد وسكاكين من عصور ما قبل التاريخ، وسهام وشفرات، وأوانٍ فخارية كانت جزءًا من حياة المصرى القديم اليومية». وفى الطابق الثانى، تعرض آثار العصر اليونانى الرومانى، ومشغولات تفيض بتأثيرات المتوسط، بينما يتزين الطابق الثالث بأناقة المشغولات الإسلامية؛ من كراسى مطعمة بالعاج والصدف، إلى مقتنيات الأسرة العلوية ومسارج إنارة عثمانية تروى قصصًا من العتمة والنور. وفى الطابق الرابع، يعود الزائر إلى قلب الحضارة المصرية القديمة، حيث تتموضع التماثيل، والنقوش، والرموز فى صمت فخم يوحى بالعظمة.. ولم يكتفِ المتحف بعرض مقتنياته، بل انفتح على التفاعل الثقافى والعلمى، حيث نظم احتفالية بمناسبة مرور 200 عام على نشأة علم الآثار، تضمنت ملتقى علميًا بعنوان «علم الآثار والحضارة الإنسانية»، شارك فيه نخبة من المتخصصين، ترافق ذلك مع عروض وثائقية قصيرة سحرت العيون، وسردت تاريخ المتحف وأهم مقتنياته. «ملوى» :الأحجار تخرج عن صمتها ليست كل الحكايات تُروى بالكلمات، فبعضها منقوش على حجر، أو مطمور فى بردية، أو ساكن فى تمثال تحدق عيناه عبر العصور، وفى مدينة ملوى، حيث يتقاطع نبض الجنوب بعمق التاريخ، يقف متحف ملوى كقصيدة من زمن بعيد، عاد ليتلوها الزمن من جديد.. هنا، حيث وقفت الجدران ذات يوم فى صمتٍ موجع بعد أن عبثت بها أيادى الخراب عقب ثورة 2013، عاد المتحف لينفض عن نفسه الغبار، ويُفتح كصفحة من ذهب بعد ترميمٍ دؤوب، بتكلفة بلغت سبعة ملايين جنيه، لكنه لم يعد كما كان، بل عاد أكثر إشراقًا، أكثر تصميمًا على أن يروى ذاكرة مدينة، ووجه حضارة، وصوت أرض لم تفقد بريقها رغم العتمة، ومن بين أنقاض الألم، بُعث المتحف كأنفاس فرعونية تستيقظ، تهمس فى أذن الزائر: «هنا كان المجد، وهنا ما زال.» يقول ثروت الأزهرى، مدير السياحة بالمنيا، وقد ارتسمت على وجهه علامات الفخر والانتماء: «المتحف يضم الآن نحو 950 قطعة أثرية، موزعة على ثلاث قاعات كبرى، زُوّدت بأحدث تقنيات العرض البصرى، ليعيش الزائر تجربة تمزج بين جمال الحاضر وسحر الماضى، ففى إحدى القاعات، يخطف الأنظار تمثال مزدوج نادر ل«بيبى عنخ إيب»، يعود إلى عصر الأسرة السادسة فى الدولة القديمة، نحته فنان مصرى قديم من الحجر الجيرى الملون، ليخلد ملامح رجل وامرأة جمعت بينهما الأبدية، وفى زاوية أخرى، تطل ابنة إخناتون، بهدوء ملكى، من تمثال اكتُشف فى تل العمارنة، كأنها عادت لتشهد من جديد على ملامح المجد الذى صنعته عائلتها. يشرح الأزهرى: ملوى ليست مجرد مدينة، إنها سجل حى لتاريخ الحضارات المصرية القديمة، والإغريقية، والرومانية، الأشمونين، وتونا الجبل، كلها مواقع أثرية تحتفظ بعبق الماضى، ولأجلها أُنشئ هذا المتحف ليكون شاهدًا على أمجاد الزمن، فكل قاعة من قاعات المتحف الثلاث تنقلك لعصر مختلف، فالأولى تستعرض الآثار المصرية القديمة بما تحمله من أسرار وأيقونات، والثانية تروى الحقبة اليونانية والرومانية، حيث يذوب الشرق والغرب فى جمالية فنية واحدة، أما الثالثة فتستعرض التراث القبطى والإسلامى الذى يتجلى فى مقتنيات نادرة تنبض بالتعايش والتنوع، كما تعرض القاعات كنوزًا مكتشفة من مواقع مثل تونا الجبل، الأشمونين، وتل العمارنة، لتُكوّن معًا مشهدًا بانوراميًا غنيًا عن مصر الوسطى وتاريخها العريق. لم يتوقف المتحف عند دوره التقليدى كمكان للعرض، بل امتد إلى المشاركة فى الفعاليات الثقافية الكبرى، وكان من بينها مشاركته المميزة فى «يوم المخطوط العربى» الذى نظمه معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وعرض متحف ملوى مجموعة نادرة من التمائم والتماثيل التى تجسد براعة الفنان المصرى القديم، وتُبرز تاريخه الفنى والدينى العميق. وكان من أبرز المعروضات تمثال المعبودة «سخمت»، آلهة الحرب فى مصر القديمة، وقد تم اختياره بتصويت شعبى عبر الموقع الإلكترونى للمتحف، ليكون رمزًا للحدث، والتمثال مصنوع من الخزف، ويصور امرأة برأس أنثى الأسد، ذات نظرة مهيبة، وتحمل ألقابًا مثل: «السيدة العظيمة»، «محبوبة بتاح»، «عين رع»، و«سيدة الحرب».. لقد عاد متحف ملوى ليكون أكثر من مجرد مبنى، إنه قصيدة محفورة فى الحجر، سردية مصرية خالصة، تحاور الزائر فى صمت، وتغنى له عن أمجاد مرّت من هنا... عن حضارة لا تزال تقول: «أنا باقية... ما دام فى هذه الأرض من يحفظ الذاكرة». اقرأ أيضًَا | إقبال كبير على الجناح المصري بالمعرض السياحي الدولي في البرازيل شرم الشيخ :رحلة من زُرقة البحر إلى ذهب الفراعنة بشرم الشيخ، لا تتوقف المتعة عند حدود البحر والرمال، فهناك، فى المتحف الإقليمي، تروى الآثار قصصًا لا تنتهي، وتجتذب زوارًا يبحثون عن المعنى والجمال بين صفحات التاريخ، بمدينة السلام، تتلاقى زرقة البحر بسحر التاريخ، كان صباح شرم الشيخ مختلفًا هذه الأيام داخل جدران متحفها الإقليمي، تنبض الحياة من جديد بوهج الحضارات القديمة، وسط إقبال غير مسبوق من السائحين، خاصة من الروس والبيلاروس والأوكران والكازاخ، الذين اختاروا أن يضيفوا إلى رحلاتهم الشاطئية رحلة إلى أعماق التاريخ المصري. بابتسامة لا تُخفى فخرا.. يقول د. محمد حسنين، مدير المتحف: الإقبال تضاعف مقارنة بالسنوات السابقة، والفضل يعود لتحديث برامج شركات السياحة التى وضعت زيارة المتحف على رأس أولوياتها فى جولات شرم الشيخ. كما أن المتحف لا يكتفى بعرض آثار صامتة، بل يسرد حكايات متجددة، عند دخول الزائر، يستقبله «الممر الملكي»، وكأنه يعبر الزمن إلى عصور المصريين القدماء، حيث تقف تماثيل الملكة «حتشبسوت» ووالدها «تحتمس الأول» والملك «رمسيس الثاني» شامخة، تشهد على أمجاد مضت، إلى جوار تمثال المعبودة «حتحور»، ربة الخير والجمال والموسيقى. فى أركان المتحف المختلفة، يكشف العرض المتحفى الشامل تطور الحضارة المصرية منذ نشأتها، وسلوك المصرى القديم تجاه البيئة والكائنات التى أحاطت به، من خلال 5200 قطعة أثرية منتقاة بعناية، ومن بين هذه الكنوز، قطعة نادرة من الموزاييك السكندرى تعود للقرن الرابع قبل الميلاد، وتمثال فريد ل«إيروس» يصطاد الغزلان عند مدخل المتحف، وتمثال آخر نادر ل»بس» مصنوع من الطين غير المكتمل الحرق يُعرض داخل القاعة الكبرى. لكن المفاجأة الكبرى تكمن فى عرض قطع من كنوز الملك توت عنخ آمون، لأول مرة أمام زوار شرم الشيخ، مما منح المتحف جاذبية مضاعفة، وقد جُهزت القاعات لتكون متنوعة: القاعة الكبرى، الممر الحتحوري، منطقة المقبرة، ومناطق العرض الخارجية، لتتيح للزائر تجربة غنية وشاملة. يضيف الدكتور حسنين بحماس: نستعد قريبًا لإقامة معرض خاص بآثار جنوبسيناء، إلى جانب المعرض الحالى الذى يستمر حتى مايو، ويجمع مقتنيات أثرية من العصرين القبطى والإسلامى «القديم والحديث» فى رسالة رمزية عن التواصل بين الأديان السماوية. وبحسب سياسة وزارة السياحة والآثار التى تهدف إلى دمج السياحة الشاطئية بالثقافية، أكد مدير المتحف أنه يُفتح على فترتين يوميًا: «الفترة الصباحية من 10 صباحًا حتى 1 ظهرًا، الفترة المسائية من 5 مساءً حتى 11 ليلًا»، وهو ما يتيح للسائحين الاستمتاع بشواطئ شرم الشيخ نهارًا، ثم الانغماس فى سحر الحضارة المصرية ليلًا. «بنى سويف» :حكايات مُعلّقة فى الفراغ وسط مدينة تحرسها المآذن والقباب، وترتفع فيها المآثر كأطياف من زمن بعيد، يقف متحف بنى سويف وكأنه يعتذر عن وجوده، خافت الحضور، مثقلًا بما تبقى له من أثر وروح، افتُتح هذا المتحف عام 1997، على مساحة تمتد لخمسة أفدنة، وضمّ بين جدرانه حكايات منقوشة على الحجر، وكنوزًا تشهد على سطوة الماضي، لكنه اليوم يئنّ بصمت، بعد أن فرغ من أكثر من ثلاثة آلاف قطعة أثرية تم نقلها إلى مخازن البهنسا بمحافظة المنيا، بينما توزّع العاملون على مناطق التفتيش، فى مشهد ينذر بإغلاق بات أقرب من أى وقت مضى. فى حديث يشوبه الأسى، تقول سعاد فايز، مدير عام المتحف: «حين افتُتح المتحف، كان حلمًا ثقافيًا لمحافظة بنى سويف، يضم آثارًا حقيقية مستخرجة من قلب أرضها... الطابق الأول كان يحكى قصة مصر القديمة بلوحات جنائزية، وتماثيل أوشابتي، وجعارين، وتوابيت، وأوانٍ كانوبية من الألباستر، وقطع فخارية وبرونزية وأحجار منحوتة بدقة الفرعونى العارف بسر الخلود، أما الطابق الثاني، فكان حديقة زمنية للآثار القبطية والإسلامية، حيث المخطوطات والتمائم والعملات والمباخر التى توثق لحياة روحية غنية». تلك الفسيفساء الحضارية كانت فى طريقها لتتزين بتجهيزات حديثة، ففى عام 2008 صدر قرار بالترميم، ونجحت المرحلة الأولى التى انتهت فى 2010، لكن حين جاء وقت المرحلة الثانية عام 2012، تعثرت الخُطا، رغم أن الخطط كانت واعدة: كاميرات مراقبة، أجهزة إنذار، تكييفات دقيقة، ونظام مكافحة حرائق. غير أن كل شيء توقّف، وأُغلقت القاعات على آثارها التى أصبحت رهائن بدروم المتحف، محجوبة عن العيون. وتواصل فايز: «منذ أسابيع صدر قرار من اللجنة الدائمة بالمجلس الأعلى للآثار بنقل جميع القطع الأثرية إلى مخازن البهنسا بالمنيا، وشُكلت لجنة من متحف إخناتون والمتحف الأتونى بالتعاون مع فريق متحف بنى سويف لتسليم العهد.. وكان المشهد مؤلمًا، ليس فقط لنا كأمناء ومهتمين بالتراث، بل لأبناء بنى سويف الذين رأوا آثارهم تُرحّل بعيدًا عنهم». على الجانب الآخر، يوضح د. محمد إبراهيم، مدير عام آثار بنى سويف، أن الهدف من النقل هو الحفاظ على القطع الأثرية من التلف لحين انتهاء التطوير، ويقول: «بمجرد الانتهاء من تطوير المتحف، ستعود الآثار إلى موقعها الطبيعى فى بنى سويف، نأمل أن تُستأنف أعمال التطوير قريبًا، وأن يتحوّل هذا الغياب المؤقت إلى عودة مشرفة». فى هذه اللحظة، لا يزال المتحف يحتفظ بجدرانه، وبقايا ذاكرته، وأملٍ فى عيون أبناء المحافظة الذين يرفضون أن يتحوّل المتحف إلى مجرد هيكل فارغ من الحكايات، فهم يعرفون أن كل قطعة كانت هنا، تحمل أثر زمن، وعبق سرد لا يكتمل فى صناديق المخازن. «رشيد» :كنوز الذاكرة على موعد مع العودة تتجسد ملامح التاريخ داخل جدران أحد أقدم البيوت الأثرية بمدينة رشيد، حيث أقيم المتحف القومى للمدينة عام 1959 فى حضور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة، ليصبح شاهدًا على محطات نضالية بارزة، وسيرة مقاومة أهل رشيد للاحتلالين الفرنسى والإنجليزى، ومعبرًا حيًا عن حقب متتالية من الهوية المصرية. يحتل المتحف موقعه داخل «منزل عرب كلى حسين بك» أحد أهم الشخصيات فى العصر العثماني، وهو نموذج فريد للعمارة الإسلامية، يضم ثلاثة طوابق كانت تروى حكايات رشيد عبر العصور، من خلال وثائق نادرة وقطع أثرية تمثل الحياة اليومية، والمعارك، والاحتفالات، والصناعات، والمعتقدات التى عبرت بها المدينة التاريخ. من أبرز المعروضات: نموذج لحجر رشيد بالأبعاد الحقيقية، أهداه المتحف البريطانى لمصر، ونسخة من وثيقة جلاء الحملة الإنجليزية عام 1807، موقعة من محمد على باشا وقائد الأسطول البريطانى نيلسون، ووثيقة زواج الجنرال الفرنسى مينو من زبيدة المصرية، فضلًا عن مئات القطع من العملات، والأواني، والمخطوطات، والمشربيات، والصلبان القبطية، التى تبرز التنوع الدينى والثقافى للمدينة. عام 2021، صدر قرار بإغلاق المتحف عقب تقرير لجنة المنشآت الآيلة للسقوط، الذى حذّر من خطورة الوضع الداخلى، خاصة بعد تآكل السلم الخشبى وزيادة أعداد الزوار على مدار عقود، ونُقلت 766 قطعة أثرية إلى المخازن، لحمايتها تمهيدًا لبدء مشروع ترميم شامل. بدأت أعمال التطوير فى أكتوبر 2023، بعد صدور قرار من أمين عام المجلس الأعلى للآثار بإعادة إحياء المتحف، على أن يتم الانتهاء من المشروع بالكامل بحلول أكتوبر 2025. الخبير الأثرى السيد حمام، أحد أبناء رشيد، أكد أن المتحف يمثل قلب المدينة الثقافي، وكان دومًا مقصدًا للزوار من الداخل والخارج، لكنه عانى إهمالًا طويلًا من القائمين عليه، وهو ما جعله يصل إلى حافة الخطر، مطالبًا بسرعة الانتهاء من أعمال الترميم. وأشار إلى أن متحف رشيد ليس مجرد مبنى أثري، بل رمز لهوية المدينة، وسردية لحقبة لا يمكن تجاهلها، خاصة أن رشيد تحتضن العشرات من الآثار الإسلامية والبيوت التاريخية التى تمثل وجهًا حضاريًا لمصر يستحق الرعاية والاهتمام. «كفر الشيخ» :الأرض «بتتكلم» مصرى وسط حديقة صنعاء بمدينة كفر الشيخ، كان الحلم نبتة صغيرة زرعت عام 1992، حين خُصصت قطعة أرض على مساحة 6800 متر مربع لتكون شاهدة على حضارة، ومرآة لهوية، وصوتًا يروى حكايات آلاف السنين، تأخر الحلم قليلاً، توقف مرارًا، لكنه لم يمت. مرت سنوات وسكتت أدوات البناء، ثم عادت الحياة تنبض بين الجدران، حين وُقِّع بروتوكول التعاون بين وزارة السياحة والآثار ومحافظة كفر الشيخ عام 2018، لتُستكمل الأعمال التى بدأت عام 2002 وتوقفت فى 2011، وبعد مسيرة امتدت قرابة ثلاثة عقود، افتُتح متحف كفر الشيخ رسميًا فى أكتوبر 2020، على يد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتكلفة تجاوزت 62 مليون جنيه.. المتحف يضم ثلاث قاعات رئيسية للعرض، تنبض بأثر من الماضى العريق، يأتى على رأسها كنوز منطقة تل الفراعين - بوتو، إحدى أهم المواقع الأثرية فى دلتا مصر، والتى تقع بنطاق مركز دسوق، ومن بين 735 قطعة أثرية تزين المتحف، تقف تماثيل ولوحات، كأنها تتنفس من قلب الحجر، وتحكى زوايا التاريخ بلغة العيون والرموز.. يأسر الزائر تمثال رخامى يونانى رومانى لطفل يجلس على حافة بحيرة، ولوحة للملك تحتمس الثالث، ورأس لأحد ملوك الأسرة 30، وتمثال لكاهن من الأسرة 26، غير أن التاج الحقيقى للمعروضات يتمثل فى تمثال مزدوج ضخم للملك رمسيس الثانى بجوار المعبودة سخمت، تتوج رأسها بقرص الشمس، وقد عُثر عليه بمنطقة بوتو، ويقف بجانبه تمثال آخر لرمسيس الثاني، شامخًا، مرتديًا النقبة والشعر المستعار، منحوتًا من الجرانيت الرمادي، كأن الزمن لم ينل من هيبته شيئًا.. ولأن الأرض تعرف القِدْر الذى طُهى فيه الإيمان، كانت مدينة سخا من المحطات المباركة التى استقرت فيها العائلة المقدسة خلال رحلتها فى مصر، لسبعة أيام خالدة، وثقتها قطع نادرة يعرضها المتحف، كما تمتد روح كفر الشيخ إلى مدينة فوه التى تنافس القاهرة ورشيد بثروتها الإسلامية، فالمتحف لا يكتفى بالفرعونى والروماني، بل يحتضن بين جدرانه تراثًا إسلاميًا فريدًا، يضيء زوايا التاريخ برائحة المسك والمخطوطات. يفتح المتحف أبوابه للزوار يوميًا من التاسعة صباحًا حتى الرابعة مساء. بأسعار رمزية للزائرين، ومجانًا للأطفال دون السادسة، وكبار السن، وذوى الهمم، الذين خُصصت لهم مسارات داخلية تُراعى احتياجاتهم، ليتجولوا فى قلب التاريخ بأريحية واستقلالية. «أسيوط» صندوق سرى يخفى عبق الحضارات لا أحد يمر بمدينة أسيوط دون أن تلامسه رائحة التاريخ، تلك المدينة التى حملت على كتفيها إرث العصور، لا تزال تخبئ فى قلبها متحفًا منسيًا، لا يعرفه أغلب من يمرون أمامه، مبنى صغير داخل مدرسة، لكنه يحتضن مئات القطع الأثرية النادرة، وكأنه صندوق سرى يضم فصولًا من الحكاية المصرية، من عصر الفراعنة وحتى العثمانيين.. ذات يوم من عام 1914، كان سيد بك خشبة يتجول بين أطلال أسيوط، محمولًا بشغف التنقيب عن الآثار، يرافقه مهندس إنجليزى، حينما كشفا عن كنوز نادرة، سمح له القانون حينها أن يحتفظ بنصفها، لم يحتفظ بها لنفسه، بل قرر أن يهديها لمدرسة السلام، حيث أسس متحفًا داخل قصره بأسيوط، حضر افتتاحه المندوب السامى البريطاني، لتبدأ قصة المتحف المنسى.. المتحف لا يُفتح سوى للزيارات الخاصة، ومع ذلك فإنه يحتوى على ما يكفى لتأليف كتب لا تُعد عن حضارات متلاحقة. محمود المهدي، مدير عام منطقة آثار أسيوط الفرعونية سابقًا والمشرف على المتحف، قال إن بين جدرانه تقيم مومياء كاملة لأميرة من أخميم تُدعى «هاتور مت حتب»، تعود للقرن الثامن قبل الميلاد، إلى جانب مومياء لرجل من مقابر «مير»، كان من حكام الإقليم الرابع عشر للدولة الوسطى.. وأضاف المهدي: «لدينا أيضًا تماثيل «الأوشابتي»، وهى 365 تمثالًا صغيرًا تمثل عبيدًا يُرافقون الملك فى العالم الآخر، وأدوات تكفين كاملة، من شبكة جسم مغطاة بجعران أزرق يمثل حورس، إلى قناع الموت ومساند الرأس والقدم، وحتى أوعية لحفظ أحشاء الموتى وأختام ملكية باللغة الهيروغليفية، إلى جانب تمثال لحورس منحوت من البازلت».. ولم تكن هذه الكنوز وحدها فى المتحف، بل توجد أيضًا آثار قبطية، من نسيج نادر يعود للقرن الرابع الميلادي، ونسخة من الكتاب المقدس من القرن السابع عشر، وكتاب صلوات منسوخ بخط اليد، إلى جانب مزامير داوود باللغة العبرانية، وخاتم قربان خشبي، وشواهد قبور مكتوبة باللغة القبطية. وفى أركان أخرى، ترقد عملات رومانية ويونانية، وصورة غامضة لامرأة رومانية مجهولة الهوية، أما الإسلام، فقد حضر بنسخة قديمة من المصحف الشريف، وشواهد قبور تعود للقرن الثالث الهجري، وقطعة من كسوة الكعبة، فضلًا عن قطع سيراميك عباسية، وآلات وترية، وأجزاء من الشيشة، كلها تنتمى للعصر العثماني. ويتابع المهدى قائلاً: «من أكثر ما يميز المتحف مجموعته السودانية، والتى أُهديت لسيد بك من تجار سودانيين تربطه بهم علاقات وثيقة، وتضم حرابًا وسهامًا ودروعًا مصنوعة من جلد التمساح والخرتيت والسلحفاة، وسيوفًا قديمة، وكراسى صغيرة على هيئة حيوانات». لكن كل هذا الزخم الأثرى محبوس داخل مساحة ضيقة، لذا، قرر اللواء هشام أبو النصر، محافظ أسيوط، إعادة إحياء مشروع تحويل قصر ألكسان التابع لهيئة الآثار إلى متحف قومى يضم هذه الكنوز ويعرضها للعامة، ومن جانبه شدد د. محمد أبو رحاب، أستاذ العمارة والآثار الإسلامية بكلية الآداب، على ضرورة ترميم وتوسعة المتحف الحالي، وإنشاء قاعات عرض مناسبة، ومخازن مؤهلة لحماية الآثار من الرطوبة، مع كتالوج توثيقى شامل. واختتم أبو رحاب حديثه قائلًا: «هذا المتحف المجهول يستحق أن يُصبح منارة بحثية وسياحية، لا بد أن نفتح أبوابه للعامة، ونكتب له حياة جديدة تحت سقف متحف قومى يحفظ الذاكرة، ويعيد لأسيوط بريقها كمهد لحضارات لا تموت».