هدايا مصر للعالم كثيرة أو بالأحرى هدايا مصر للإنسانية كثيرة، وهنا لا نعنى قناة السويس أو اتفاق شرم الشيخ أو المتحف الكبير كأحداثٍ منفصلة، بل كنظام تفكير مصرى قديم متجدد. نظام يقوم على فكرة أن «البقاء ليس انغلاقًا»، وأن الحضارة لا تموت لأنها تعرف كيف تُعيد تعريف نفسها فى كل زمن، اليوم تقدم مصر للعالم نسخة محدثة من قوتها الناعمة: سلامٌ يأتى من التاريخ، ودبلوماسية تأتى من الوعى، ورسالة واحدة تتردد فى العواصم: إن كان فى الشرق عقل قادر على صناعة التوازن وسط الخراب، فهو هنا حيث النيل يكتب السياسة بلغة الحضارة. فى زمنٍ تُدار فيه السياسة كصفقاتٍ قصيرة الأجل، تقف مصر لتقدّم للعالم هدية لا تُقاس بالدولار ولا بالتصفيق فى أروقة المحافل الدولية: هدنة تنقذ حياة، وسردية تُعيد تعريف دور الدولة فى زمن الانهيار الأخلاقى الدولى. اتفاق وقف إطلاق النار فى شرم الشيخ ليس مجرد إنجاز دبلوماسى جديد؛ إنه بيان هوية من أمةٍ عمرها سبعة آلاف عام، تقول فيه للعالم إن الحضارة ليست بقايا تُعرض فى المتاحف، بل مشروع مستمرّ لترويض الفوضى وصون الإنسان. أولًا: من وقف الحرب إلى استعادة المعنى النجاح المصرى فى جمع المتخاصمين على طاولة واحدة بينما تتهاوى الوساطات الإقليمية والدولية، لا يُقاس بعدد الاجتماعات ولا بالتصريحات، بل بالمعنى الكامن وراءه: أن الدولة التى كانت فى قلب الزلازل السياسية منذ 2011 وعانت الإرهاب والضغوط الاقتصادية والانقسام الإقليمى خرجت اليوم لتثبت أنها مازالت مركز الثقل الحقيقى فى المنطقة لم يكن اتفاق شرم الشيخ «هدية سياسية»، بل امتداد لسياسةٍ أقدم من كل الحكومات: سياسة «الوزن النوعي»، حيث لا تُمارس القاهرة نفوذها بالصوت العالى، بل بثباتٍ هادئ يشبه مجرى النيل. تعود مصر إلى لعب هذا الدور، وهى لا تدافع عن حدودها فقط، بل تُرمّم فكرة «الدولة» ذاتها فى شرق تتساقط فيه الكيانات. ثانيًا: من قناة السويس إلى المتحف الكبير... سردية البقاء المصرى قناة السويس الجديدة لم تكن مشروع نقل فقط؛ كانت إعلانًا رمزيًا أن مصر لا تعرف الجمود. واليوم، يأتى اتفاق وقف النار فى شرم الشيخ كنسخة سياسية من المعنى نفسه: أن الأمة التى حفرت ممرًّا مائيًا بين القارات، تستطيع أن تفتح ممرًّا سياسيًا بين المتناحرين وفى الجهة الأخرى من العاصمة، يستعد المتحف المصرى الكبير لفتح أبوابه فى لحظةٍ تبدو مصادفة زمنيًا لكنها مقصودة حضاريًا: مصر تُطفئ حربًا وتفتح متحفًا، تُوقّع هدنة وتُقدّم للعالم مرآة تذكّره بما نسيه: أن التاريخ ليس ماضيًا، بل ضمير الحاضر، القوة هنا ليست فى حدثين منفصلين، بل فى السياق الذى يجمعهما: بلدٌ يُدير ملفات الحرب والسلام وهو فى الوقت نفسه يُعيد بناء وعيه الثقافى ليقول إن التنمية لا تنفصل عن المعنى، وأن الأمن ليس غياب الرصاص فقط، بل حضور الفكرة. ثالثًا: عقلية الدبلوماسية الهادئة فى محيط مشتعل ما يميّز الدبلوماسية المصرية فى هذه اللحظة ليس نشاطها، بل اتزانها فبينما غرق العالم فى شعارات «الردع» و«الانتقام»، اختارت القاهرة أن تتحدث عن «التهدئة»، وهى الكلمة التى صارت شبه منقرضة فى المعاجم السياسية فى شرم الشيخ، لم تكتفِ مصر بتقريب وجهات النظر بين حماس وإسرائيل، بل أعادت صياغة لغة التفاوض نفسها: لغة لا تبدأ من «المطالب»، بل من «الإنسان» وعندما صرّح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من شرم الشيخ بأنه «قد يزور غزة قريبًا»، ووجّه تهديدًا مباشرًا لنتنياهو بوقف الدعم العسكرى والاقتصادى فى حال ضمّ الضفة الغربية، بدا واضحًا أن الورقة الأمريكية نفسها تحرّكت من داخل الإطار المصرى، تلك ليست مصادفة. مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تستطيع أن تجعل رئيسًا أمريكيًا يعيد التفكير فى خطابه تجاه إسرائيل، لا عبر الضغط، بل عبر المنطق والوزن الأخلاقى فى لحظة الفوضى. رابعًا: بين الحضارة والسياسة... مصر تعيد تعريف «القوة الناعمة» ما تقدّمه مصر الآن ليس وساطة بين حربين، بل بعث جديد لمعنى الحضارة فالحضارة ليست الأهرامات فقط، بل القدرة على أن تحمى الذاكرة من العدم، وأن تظلّ فى قلب التناقضات دون أن تذوب فيها. ومن هنا تصبح اتفاقية وقف إطلاق النار فى شرم الشيخ امتدادًا طبيعيًا لرسالة المتحف الكبير: حفظ ما هو إنسانى فى زمنٍ يتآكل فيه الإنسان، القوة الناعمة المصرية لم تعد أغانى أم كلثوم وعبد الحليم ولا أفلام الستينيات وحدها، بل قدرتها على تقديم «نموذج دولة متماسكة» فى إقليمٍ يتهاوى، فى عالمٍ تتراجع فيه لغة الحضارة أمام لغة القوة، مصر تقول للعالم: مازال بإمكانكم أن تتحدثوا عن الجمال دون أن تخجلوا من السياسة. خامسًا: مصر وموقعها الجديد فى النظام الدولي هناك قاعدة لا يستطيع أحد أن يغفلها أو يتجاهلها الآن: أن مصر شريك فاعل وصانع للهدوء، الولاياتالمتحدة تتفاوض عبرها، وأوروبا تعتمد على وزنها الجيوسياسى، والدول العربية تبحث فيها عن نقطة توازن، هذه المكانة لم تُمنح، بل استُعيدت بالعمل والقدرة على الجمع بين الواقعية السياسية والإلهام الحضارى. إن العالم، الذى يعيش موجة ألم من الحروب، يبحث عن نموذج دولة لا تبالغ فى الشعارات ولا تلهث وراء الصفقات، بل تقدّم المعقول وسط الجنون، وهذا بالضبط ما فعلته القاهرة: لم تقدّم وعدًا بالسلام، بل أثبتت أن إدارة السلام ممكنة. سادسًا: ما بعد شرم الشيخ... كيف توظّف مصر هذا الزخم؟ المرحلة القادمة ليست اختبارًا سياسيًا فقط، بل امتحان لقدرة مصر على تحويل الدبلوماسية إلى تنمية، فالقاهرة التى أوقفت الحرب، تمتلك الآن فرصة لقيادة تحالف إقليمى جديد عنوانه «السلام المنتج» أى السلام الذى يُترجم إلى مشروعات، موانئ، ومناطق تعاون اقتصادى فى شرق المتوسط، فى ظل الاضطراب العالمى وتراجع الثقة فى المؤسسات الدولية، تمتلك مصر نافذة تاريخية لتكون الضامن السياسى والاقتصادى الأهم بين أوروبا وإفريقيا والعالم العربى. سابعًا: البعث الجديد للعقل المصرى الرهان الآن يقع على عاتق العقل المصرى نفسه ذلك الذى يربط بين الفن والسياسة، بين الحلم والإدارة، بين الوعى والتاريخ، مصر اليوم تُعيد تقديم نفسها للعالم ليس كصوتٍ من الماضى، بل كضميرٍ للحاضر تُوقّع اتفاقات السلام وهى تُشيّد متاحفها، وتُعيد فتح قنواتها، وتستقبل قادة العالم فى مدنها الساحلية، لتقول: نحن لا نُذكّركم فقط بمن نحن، بل نُذكّركم بما يجب أن تكونوا عليه.