ليس من قبيل الصدفة أن يعود العالم إلى شرم الشيخ فى لحظة كهذه، لحظة ترسم فيها شرم الشيخ السلام وتعيد فيها مصر تعريف دورها وترسيخ مكانتها وتأثيرها إقليميا ودوليا. فالمدينة التى احتضنت مؤتمرات المناخ والسلام، تستقبل اليوم أكبر قمة دولية منذ اندلاع حرب غزة، فى مشهدٍ يعيد خريطة موازين القوى إلى إحداثياتها الطبيعية والمنطقية والبوصلة إلى عاصمة القرار ويؤكد أن الطريق إلى التهدئة يمر من القاهرة. من خلف الكواليس، تدير مصر تفاصيل دقيقة، تمسك بخيوط السياسة والأمن والإنسانية معًا، بينما يتوافد القادة تباعًا على القاعة الزجاجية المطلة على البحر الأحمر، فى مشهدٍ يشبه «لحظة مراجعة» للعالم بأسره بعد عامين من الدم والدمار. دبلوماسية ما بعد العاصفة القاهرة لا تتحدث كثيرًا، لكنها تتحرك بثقة، منذ اللحظة الأولى وضعت محددات موقفها بثلاثة خطوط واضحة: رفض التهجير، دعم الحل السياسى، وضمان استمرار الدولة الفلسطينية. وعندما تراجعت المبادرات الأخرى فى الضوضاء، احتفظت مصر بهدوئها، وأعادت تجميع الأوراق. اليوم، بينما يجلس المفاوضون فى شرم الشيخ، تدير مصر الملف بأدواتها القديمة الجديدة: اتصالات مفتوحة مع الجميع، ومصداقية لا يملكها سواها، لقد فشلت عواصم كثيرة فى جمع الأطراف، لكن مصر نجحت لأنها لم تُقدّم وساطتها بوصفها «خدمة»، بل باعتبارها مسئولية تاريخية تجاه المنطقة التى تعرفها أكثر من القائمين فيها والوافدين أو بمعنى أكثر دقة الهابطين عليها. المرحلة الأولى من الاتفاق: ولادة على الرمال المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار التى أُعلنت من القاهرة ليست مجرد اتفاق فنى، بل نقطة تحول سياسية خلال الأيام الأخيرة، بدأت بالفعل عمليات تبادل الأسرى، وتحديد مناطق إعادة الانتشار، وفتح الممرات الإنسانية. وتحت إشراف مصرى مباشر، تعمل فرق دولية على تهيئة الميدان لتنفيذ الاتفاق بندًا بندًا، لكن الأهم هو أن العواصم الكبرى باتت تتعامل مع مصر كمرجعية تنفيذية، لا مجرد وسيط محايد، فكل بند فى الاتفاق مرتبط بمركز تنسيق مصرى فى شرم الشيخ، حيث تجتمع الوفود الأمنية والسياسية يوميًا لمتابعة التطبيق. القمة العالمية: من الحرب إلى الإدارة القمة التى شهدتها شرم الشيخ ليست نهاية حربٍ فقط، بل بداية مرحلة جديدة من «إدارة السلام». بحضور إحدى وثلاثين دولة، من بينها الولاياتالمتحدة وقطر وتركيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا تتحول القاعة إلى غرفة عقلٍ إقليمى ودولى تبحث كيف يُدار اليوم التالى للحرب، القاهرة لا تريد هدنة هشة، بل «تهدئة قابلة للحياة»؛ ولهذا فإن أوراقها توازن بين الأمن والإنسانية والسياسة: أمنٌ يضمن استقرار الحدود ويمنع التصعيد. إنسانية تفتح المعابر وتعيد الخدمات. وسياسة تحافظ على معنى الدولة الفلسطينية. هذه هى المعادلة التى جعلت من مصر محور الثقة، لا مجرد وسيط بين الأطراف. الرئيس السيسى ورسائل مصر فى كلمته الأخيرة، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسى بنبرة متزنة، مؤكداً أن مصر لن تتراجع عن مسئوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، وأن التهدئة ليست غاية فى حد ذاتها، بل بداية طريق لاستعادة الحقوق وإنقاذ الأرواح. لم يكن الخطاب خطابًا احتفاليًا، بل أقرب إلى بيان موقف دولة تعرف أين تقف، وتدرك أن كل خطوة تُحسب عليها، فهى تتعامل مع الجميع بميزان واحد: احترام سيادة الدول، ورفض استخدام المعاناة الإنسانية فى المساومة السياسية. بهذه اللغة أعادت القاهرة بناء ثقةٍ تآكلت بين أطراف عديدة فى السنوات الماضية. ما وراء المؤتمر وراء الكواليس، تتحرك فرق دبلوماسية مصرية على مدار الساعة، تتابع تنفيذ البنود، وتنسّق مع الأممالمتحدة لتأمين الممرات، وتدير تواصلاً حساسًا مع واشنطن لضمان ألا يتحول الاتفاق إلى ورقة انتخابية بيد أحد كما تتابع القاهرة عن كثب الملف الإنسانى فى غزة، وتعمل على إطلاق صندوقٍ دولى لإعادة الإعمار بإدارة مصرية أممية مشتركة، وهو ما يمنحها موقع «الضامن التنفيذى» للسلام. الاختبار القادم المرحلة الأصعب لم تأت بعد، فالهدنة تحتاج إلى ضبطٍ ميدانى دقيق حتى لا تتحول إلى «فراغ سياسى»،والسلطة الفلسطينية بحاجة إلى دعمٍ عربى حقيقى يعيدها إلى الواجهة، القاهرة تعلم أن طريق السلام أطول من هدنة، لكنها تراهن على استراتيجية الصبر التى أثبتت نجاحها فى أكثر الملفات تعقيدًا: لا عجلة فى الخطاب، ولا تنازلات فى المبدأ. المَعاد هيكون فى مصر حين كتب أحمد فؤاد نجم قبل عقود أغنيته «يا عرب احفظوا لمصر المكان»، كان يختصر وجدانًا جمعيًا عربيًا يرى فى مصر «بيت العائلة الكبير». وفى نهاية الأغنية يقول: يا عرب احفظوا لمصر المكان... والمَعاد هيكون فى مصر. اليوم، يبدو أن العالم كله عاد إلى هذا المَعاد، فمن شرم الشيخ تُكتب صفحة جديدة فى سجل الصراع العربى- الإسرائيلى، لا ببيانات غضب، بل بهدوءٍ مصرى يحوّل الحروب إلى تفاهمات، منذ نصف قرن كانت مصر أول من حرّر الأرض بالسلام، واليوم تعود لتُحرر المعنى نفسه من الفوضى. ما يحدث فى شرم الشيخ ليس قمة سياسية فقط، بل إعادة تعريف لدور مصر فى الإقليم والعالم. مصر لا تبحث عن مجدٍ شخصى، بل عن استقرارٍ جماعى؛ لا تحتكر القضية، لكنها تمنع أن تُختطف ولهذا، عندما تهدأ الميكروفونات وتُطفأ الكاميرات، سيبقى صوت واحد يتردد فى القاعة: «المَعاد... هيكون فى مصر.»