اليوم مصر لا تدير ظهرها لأحد، بل تتحمل مسئولياتها بحكمة، وتدير علاقاتها باتزان، وتوزع دوائر تحركها بتوازن.. وقد أثبتت القاهرة أنها رمانة ميزان الشرق الأوسط، والدولة القادرة على إدارة دفة المنطقة بعيدًا عن هاوية الحرب الإقليمية الشاملة والفوضى العارمة. لماذا أوروبا .. ولماذا الآن؟ الإجابة تكتبها سطور الجغرافيا وتصيغها صفحات التاريخ، فأوروبا هى أقرب القوى الاستراتيجية الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط، وكثيرًا ما ارتبط التاريخ الأوروبى بتاريخ المنطقة مدًا وجذرًا، على المستويات كافة: البشرية والحضارية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، العلمية والفكرية. لا ينسى الأوروبيون الدور الحيوى الذى لعبته القاهرة فى تأمين قسط وافر من احتياجات أوروبا من الطاقة فى شتاء 2022 البارد، والذى كادت القارة العجوز أن تواجه فيه مصيرًا قاسيًا فى أعقاب وقف إمدادات الغاز الروسى بعد اندلاع المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا. اقرأ أيضًا| أسامة السعيد: الرئيس السيسي أكد أهمية دور الإعلام في معركة الوعي عندما نشر عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» عام 1938، أحدث جدلًا فكريًا لا تزال أصداؤه حاضرة إلى اليوم رغم مرور ما يقارب تسعة عقود على نشر تلك الأفكار، فالحسم الذى تحدث به طه حسين عن أن الجذور التاريخية والثقافية لمصر تربطها بحضارات حوض البحر المتوسط، مثل الحضارتين اليونانية والرومانية، أكثر من ارتباطها بالثقافة الشرقية أو العربية، كان صعبًا على كثير من أنصار الثقافة التقليدية تقبله. والمؤسف أنه فى زحام الجدل حول جدوى ارتباط مصر بالثقافة الغربية، توارت أفكار مهمة طرحها عميد الأدب والفكر العربى حول أن التعليم يجب أن يكون الأداة التى تغير الثقافة المصرية وتوجهها نحو التحديث، وأن تكون الجامعة هى المصدر الرئيسى للثقافة، ودورها الحيوى بالمساهمة فى بناء الحضارة، وأن العلاقة بين مصر وأوروبا يمكن أن تكون قاطرة لبناء مشروع تعليمي شامل يخدم النهضة المصرية. واليوم وأنا أتابع مجريات وثمار القمة المصرية الأوروبية التى استضافتها العاصمة البلجيكية بروكسل مقر الاتحاد الأوروبي، بكل ما حفلت به من زخم وأهمية كبيرة ومخرجات يمكن أن تقود إلى مستقبل مختلف لشكل وطبيعة العلاقات المصرية الأوروبية، أستعيد تلك الفكرة الجوهرية التى تجادل حولها الساسة والمفكرون طويلًا وعلى مدى عقود، دون أن يستطيعوا تحويل تلك العلاقة إلى ثمرة حقيقية تقود لمستقبل يرتكز على قاعدة متينة من العلاقات التاريخية والتفاعل الإيجابى فى معظمه، والسلبى فى حقبة الاستعمار الأوروبى وأشعر أن روحًا جديدة للتعاون المصرى الأوروبى تنفخ فى جسد العلاقة التى يمكن أن تعود بالنفع على ضفتى المتوسط. ■■■ القيمة الحقيقية للقمة المصرية الأوروبية التى شرفها بالحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى، وحرص غالبية زعماء وقادة الاتحاد الأوروبى على المشاركة فيها، أنها تعيد رسم خريطة التعاون بين ضفتى المصرى - الأوروبى، وتطرح أفكارًا للتعاون ومسارات لبناء مستقبل غير محكوم بعقد الماضي، ولا تحركه أفكار الاستعلاء أو هيمنة طرف على حساب طرف آخر، بل كان الهدف بناء شراكة المكاسب المشتركة. توقيت انعقاد القمة لا يخلو من دلالات عميقة، فهى تأتى فى لحظة فارقة يُعاد فيها ترتيب أوراق الشرق الأوسط، وقد لعبت مصر الدور المحورى ليس فقط فى التوصل لإنهاء الحرب الدامية فى المنطقة وبؤرتها الأكثر مأساوية فى قطاع غزة، بل مهدت مصر الطريق أمام رؤية لما بعد انتهاء العاصفة، ووضعت مسارات واضحة لترتيب الشرق الأوسط وفق أسس تعتمد على إمكانية تحقيق التفاهم بديلًا عن الحرب، والتفاوض بديلًا عن المواجهة بالصواريخ والمسيرات. كما أن الفترة المقبلة لا تقل حسمًا فى عمر المنطقة، ومن الصعب أن تكون أوروبا بعيدة عن ترتيبات الأمن الإقليمى المستقبلية، خاصة أنها الطرف الأقرب إلى المنطقة، وشواطئ أوروبا أول من يستشعر تداعيات انعدام الاستقرار فى الشرق الأوسط، فزلازل المنطقة سرعان ما تصل توابعها إلى قلب أوروبا، واضطرابات «القارة العجوز» سرعان ما يُسمع دويها فى كل بلدان الشرق الأوسط، ومصر ستكون - بحكم التاريخ والواقع والقدرة - صاحبة الدور الأهم فى المرحلة المقبلة فى الأخذ بلجام المنطقة بعيدًا عن منزلقات الخطر، وإعادة توجيه الدفة نحو بر السلام، وهو ما يمثل مصلحة استراتيجية بالنسبة لأوروبا كقارة وكقطب سياسى عالمي. ■■■ السؤال الذى قد يتبادر إلى عقل من يتابع مجريات وتحركات مصرية أوروبية عديدة فى الشهور والسنوات الأخيرة هو: لماذا أوروبا .. ولماذا الآن؟ والإجابة تكتبها سطور الجغرافيا وتصيغها صفحات التاريخ، فأوروبا هى أقرب القوى الاستراتيجية الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط، وكثيرًا ما ارتبط التاريخ الأوروبى بتاريخ المنطقة مدًا وجذرًا، على المستويات كافة: البشرية والحضارية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، العلمية والفكرية. وبالتالى فإن اتجاه مصر لتعزيز الشراكة مع أوروبا، والإقبال الأوروبى على مصر هو توجه لتعزيز شراكة المصالح لكلا الجانبين. أما فيما يتعلق بالتوقيت، فلأن إقليم الشرق الأوسط لم يعرف الهدوء على مدى العقود الأربعة الأخيرة، وكان الانخراط الأوروبى بقضايا المنطقة واضحًا منذ حرب الخليج الثانية «الغزو العراقى للكويت» مرورًا بكل أزمات المنطقة فى الغزو الأمريكى للعراق الذى اتخذت معظم الدول الأوروبية موقفًا رافضًا له، مرورًا بأحداث ما يسمى ب«الربيع العربى» وما أفرزته من تداعيات عميقة الأثر على جميع دول المنطقة تقريبًا وخاصة المقابلة للشواطئ الأوروبية (مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب فى الشمال الأفريقي)، و(سوريا ولبنان إضافة إلى تركيا فى شرق المتوسط)، وطالت تداعياتها العديد من دول شمال المتوسط الأوروبية خاصة قبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا، وصولًا إلى تنامى خطر الهجرة غير الشرعية وزحف اللاجئين الذى لم تسلم منه دول شرق ووسط وحتى غرب أوروبا. اقرأ أيضًا| فرصة جديدة للحياة قراءة في مكاسب يوم استثنائي وكان لتداعيات حرب العامين الأخيرين تأثير مباشر على مصالح الدول الأوروبية، سواء تلك التى تميل مواقفها لدعم إسرائيل، أو التى اتخذت موقفًا ناقدًا لسياسات تل أبيب، أو الضرر المباشر الذى لحق بحركة التجارة جراء التوتر فى البحر الأحمر على خلفية الحرب فى غزة، والغالبية العظمى من تلك التجارة كانت من وإلى الموانئ الأوروبية. لذلك أعادت القوى الأوروبية نشر وجودها البحرى فى المنطقة عبر عمليتى حارس الازدهار التى تقودها الولاياتالمتحدة، أو عملية أسبيدس (EUNAVFOR Aspides) وهى عملية عسكرية دفاعية أطلقها الاتحاد الأوروبى فى فبراير 2024 ردًا على هجمات الحوثيين المتزايدة على السفن التجارية فى منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، علاوة على عملية أطلانطا (EUNAVFOR Atalanta)، وهى أقدم عملية بحرية للاتحاد الأوروبى فى المنطقة، حيث انطلقت فى عام 2008 لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال. والفترة المقبلة ستكون بكل المقاييس حاسمة فى تحديد مصير الشرق الأوسط، وتحديد المسار الذى ستتخده العديد من بؤره الساخنة، فبعد تبريد الجبهة الأخطر والأكثر اشتعالًا فى غزة، قد تقود موجة التهدئات الجارية إلى حلحلة أزمات أخرى لا تقل خطرًا فى ليبيا والسودان واليمن، فضلًا عن استعادة عمليات الإنعاش الاقتصادى والسياسى للبنان، وترقب مآلات الأمور فى سوريا، وترقب حذر لمجريات الوضع فى القرن الأفريقى الذى يريد له البعض أن يكون بؤرة التصعيد المقبلة، سواء عبر العبث فى ملف الأمن المائى لدول مصب حوض النيل، أو من خلال الإخلال بالأمن الإقليمى بتغيير الواقع الجغرافى للمنطقة بالاستيلاء على مناطق ساحلية دون وجه حق بحثًا عن منفذ بحرى على مياه البحر الأحمر، والطرف المشعل للحرائق فى كلا الحالتين واحد ومعروف!! وربما كانت المساهمة الواسعة لقادة أوروبا فى قمة شرم الشيخ للسلام، وتشديد البيان المشترك الصادر عن القمة المصرية الأوروبية على التزام الطرفين «مصر وأوروبا» بالسلام القائم على حل الدولتين، ورفض أى محاولات لضم الأراضى أو التهجير القسرى للفلسطينيين، من بين المكاسب السياسية المهمة التى حققتها القمة، فضلًا عن تأكيد القمة على أهمية دور مصر فى تعزيز الاستقرار الإقليمي، كما أن الانخراط الأوروبى فى ترتيبات الأمن وإعادة إعمار قطاع غزة، يعد مكسبًا مهمًا للرؤية المصرية الضاغطة من أجل اعتماد حلول سياسية لا تؤدى إلى خروج الفلسطينيين من أراضيهم، بل تقود إلى فتح أفق لسلام دائم وشامل عبر حل الدولتين الذى تزايدت المساندة الأوروبية له عبر موجة اعترافات تاريخية من دول أوروبية فاعلة مثل فرنسا وبريطانيا. يُضاف إلى المكاسب السياسية اعتراف أوروبى واضح بأهمة حماية الأمن المائى لمصر، إذ نص البيان الختامى للقمة على أن «الاتحاد الأوروبى يُدرك اعتماد مصر الشديد على نهر النيل فى ظل ندرة المياه، ويُؤكد دعمه لأمن مصر المائى والامتثال للقانون الدولي، بما فى ذلك ما يتعلق بالسد الإثيوبي. ويُشجع الاتحاد الأوروبى بشدة التعاون عبر الحدود بين دول حوض نهر النيل على أساس مبادئ الإخطار المسبق والتعاون و«عدم الضرر».. هذا الموقف مكسب كبير أيضًا للدبلوماسية المصرية العاقلة والحكيمة والمستندة إلى قواعد الحق والقانون الدولى فى إدارة أزمة السد الإثيوبي. ■■■ الاحتفاء الأوروبى بالقمة، والترحاب الذى حظى به زعيم مصر فى بروكسل لم يأت من فراغ، فالعلاقات الدولية تعتمد فى المقام الأول على المصالح، وقد كشفت السنوات الأخيرة أهمية التعاون مع مصر فى تحقيق مصالح كبيرة للطرفين، فالعقل السياسى الأوروبى يعى جيدًا أن التعاون المصرى مع كل من اليونان وقبرص ساهم بقوة فى منع انزلاق منطقة شرق المتوسط إلى حافة المواجهات الساخنة، وأن الفكر والرؤية المصرية نجحت فى تحويل الصراع على موارد الطاقة والغاز المكتشفة حديثًا من مبرر للنزاع إلى جسر للتعاون عبر منتدى غاز شرق المتوسط. اقرأ أيضًا| د. أسامة السعيد يكتب: الخروج من العاصفة كما لا ينسى الأوروبيون الدور الحيوى الذى لعبته القاهرة فى تأمين قسط وافر من احتياجات أوروبا من الطاقة فى شتاء 2022 البارد، والذى كادت القارة العجوز أن تواجه فيه مصيرًا قاسيًا فى أعقاب وقف إمدادات الغاز الروسى بعد اندلاع المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يجعل الاستثمارات الأوروبية فى قطاع الطاقة بمصر، سواء الطاقة التقليدية أو الطاقة الجديدة والمتجددة، مسألة تتجاوز فكرة الربح إلى اعتبارها ركيزة استراتيجية لأمن الطاقة فى أوروبا. الدور المصرى أيضًا فى وقف موجات الهجرة غير الشرعية إلى الشواطئ الأوروبية، موقف يدرك الأوروبيون أهميته وقيمته فى وقت واجهت فيه شواطئ شمال المتوسط ضغطًا غير مسبوق جراء اندفاع آلاف المهاجرين غير الشرعيين، فضلًا عما قامت به دول إقليمية من استغلال لملف اللاجئين كورقة ضغط على القرار والخزينة الأوروبية، بينما اتخذت القاهرة موقفاً إنسانيًا تاريخيًا باستضافة ما يقارب 10 ملايين وافد إلى أراضيها هربوا من أزمات المنطقة المشتعلة، ووفرت لهم الملاذ الآمن والمأوى وسط شعبها دون تفرقة أو دفعهم إلى البقاء فى مخيمات لاجئين، والأهم دون متاجرة بقضيتهم أو استخدامها كورقة ضغط سياسية. ولعل المشروع الوطنى للبناء والعمران الذى تتبناه القيادة السياسية على مدى العقد الماضى يمثل أيضًا ركيزة مهمة ترى أوروبا أن الاستثمار فيه يمثل ضمانة لمستقبل آمن، فنموذج التنمية المصرية يمكن أن يكون حلًا مستدامًا ومثالًا ملهمًا لدول أخرى بالمنطقة يقود إلى وقف موجات المهاجرين إلى الشواطئ الأوروبية، عبر توفير فرص العمل والحياة الكريمة لراغبى الهجرة غير الشرعية، وهو توجه أيقن الأوروبيون أنه المسار الأكثر نجاعة من مجرد اعتبار الهجرة غير الشرعية مشكلة أمنية. كما أن البنية الاستثمارية المصرية، وما وفرته الدولة من فرص واعدة للاستثمار فى الاقتصاد المصرى يمكن أن يحقق مكاسب مضاعفة للشركات والمؤسسات الأوروبية، فمن ناحية يوفر تنوع روافد الاقتصاد المصرى والسوق البشرى الكبير، وقدرة الصادرات المصرية على الوصول إلى أسواق يتجاوز تعداد سكانها عدة مليارات، فرصًا استثمارية مربحة للشركات الأوروبية الباحثة عن آفاق للنمو بعيدًا عن تداعيات الركود الاقتصادى العالمى والتداعيات المؤلمة للحرب الروسية الأوكرانية. وعلى المدى البعيد يساهم هذا الاستثمار فى تعزيز الاستقرار الاقتصادى لدولة محورية مثل مصر تلعب أدوارًا جوهرية فى التصدى لجرائم الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتمثل شريكًا موثوقًا به فى دعم الاستقرار والأمن الإقليمى للشرق الأوسط، بما ينعكس إيجابًا على المصالح الاستراتيجية الأوروبية. ■■■ الشراكة الناجحة مع مصر لا تقتصر مكاسبها فقط على المدى المنظور، فالتركيز الأوروبى على الاستثمار فى قطاعات التعليم والمعرفة والاقتصاد الذكى والتكنولوجيا المتقدمة بمصر، يوفر أيضًا فرصًا واعدة لمستقبل «القارة العجوز» التى تواجه تحديات الديموغرافيا فى ظل تراجع توقعات النمو السكانى خلال العقود المقبلة، ما يخلق حالة من القلق على مستقبل نموذج الرفاهية الأوروبي، وبالتالى فإن مصر بما تمثله من مورد بشرى متجدد، يمكن أن تكون رافدًا مهمًا للعقول والكوادر المؤهلة لعقود عديدة قادمة، وهذا يتطلب المساهمة فى تأهيل ورفع جودة التعليم المصرى وربط المؤسسات التعليمية والجامعات المصرية بنظيراتها الأوروبية، وهو ما يمكن اعتباره استثمارًا حقيقيًا فى المستقبل لكلا الجانبين: مصر وأوروبا. ومن يتأمل أبرز ملامح مخرجات القمة، وبخاصة البيان المشترك الصادر عن أعمال الشق رفيع المستوى من القمة المصرية الأوروبية الأولى، لا بد أن يتوقف أمام عدد من البنود التى تركز على الشراكة بعيدة المدى فى نموذج تنموى يتجاوز المكاسب الآنية، فالبيان تضمن العديد من النقاط الجوهرية أتوقف أمام أبرزها، ومنها: ■ دعم اقتصادى شامل: فقد أكد الجانبان على تفعيل اتفاقية مساعدة مالية كلية بقيمة 4 مليارات يورو لدعم الاستقرار الاقتصادى فى مصر، وذلك كجزء من حزمة الدعم الأوسع التى تم الإعلان عنها فى مارس 2024 بقيمة 7.4 مليار يورو. ■ تعزيز الاستثمار: اتفق الطرفان على تسريع الاستثمار الاستراتيجى فى مصر، خاصة فى مجالات التصنيع والابتكار، بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية فى البلاد. ■ التعاون الأمنى: تضمن البيان تفعيل اتفاقيات أمنية مع وكالات أوروبية مثل «يوروبول» لتعزيز التعاون فى مكافحة الجريمة المنظمة والأمن السيبرانى. ■ التحول الأخضر: أكد الجانبان على تسريع التحول الأخضر، والتعاون فى مجالات مثل الطاقة المتجددة، والاقتصاد الدائري، ومواجهة تغير المناخ. كما سيتم التعاون فى مجال الاقتصاد الأزرق لتعزيز الاستخدام المستدام للموارد البحرية.. وناقشت القمة سبل التعاون فى مجال الطاقة، مع التركيز على الغاز الطبيعى والربط الكهربائي، وتعزيز إنتاج الهيدروجين الأخضر. ■ التعليم والتدريب: أعلن البيان عن انضمام مصر إلى التحالف الأوروبى للتدريب المهني، وتعزيز التعاون فى التعليم المهنى والفني، بما فى ذلك برنامج إيراسموس. وسيكون هناك تعاون أكبر مع الجامعات الأوروبية، مع إمكانية إطلاق جامعة أوروبية - مصرية. كما وُقِّع اتفاق لانضمام مصر إلى برنامج آفاق أوروبا (Horizon Europe) للبحث والابتكار، مما يسمح للباحثين المصريين بالاستفادة من البرنامج. ■■■ هذه البنود وغيرها كثير، تضعنا بوضوح أمام بوصلة التعاون المستقبلى بين مصر وأوروبا، ورؤية الطرفين لمستقبل التعاون المثمر بينهما، وهو تعاون من الواضح أنه يرتكز على رؤية مستقبلية تتجاوز فكرة العمل الجزئى أو المؤقت أو المرتبط بسياسة حكومة أو رغبة دولة فقط، بل يمثل تجسيدًا لمعنى «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» وهو المستوى الذى تحظى به حاليًا العلاقات المصرية مع الاتحاد الأوروبى. قد يرى كثير من المحللين أن أوروبا اليوم تعانى على المستوى السياسى والاستراتيجى جراء المخاوف من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والترتيبات المرتبكة التى يخشى الأوروبيون من أن تتم لإنهاء الحرب على حساب أمن «القارة العجوز» ومستقبل رفاهية شعوبها، لكن المؤكد أن أوروبا لا تزال تمتلك الكثير من قدرات الفعل والعمل والاستثمار المشترك الذى يجعلها دائمًا وجهة مهمة للتعاون وبناء جسور من العمل المشترك يقود إلى مصالح متبادلة. وفى تقديرى أن الارتقاء بمستوى التعاون الراهن بين مصر وأوروبا يحل تلك المعضلة التى أعاقت مسارات التعاون المثمر بين مصر والشركاء الأوروبيين، وهى مخاوف ضياع الهوية كما كان يخشاها المنتقدون لطرح طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، والخوف من أن تدير مصر ظهرها لعمقها العربى والشرقى والأفريقى أيضًا، وأن تولى وجهها فقط قبَل الشمال الغربي. اليوم مصر لا تدير ظهرها لأحد، بل تتحمل مسئولياتها بحكمة، وتدير علاقاتها باتزان، وتوزع دوائر تحركها بتوازن. القاهرة أثبتت أنها رمانة ميزان الشرق الأوسط، والدولة القادرة على إدارة دفة المنطقة بعيدًا عن هاوية الحرب الإقليمية الشاملة والفوضى العارمة. وهى أيضًا الدولة التى لم تتخل عن ثوابتها القومية، ولم تساوم أو تناور فى دعم القضية الفلسطينية وحماية الحق المشروع لشعبها فى امتلاك دولته وتقرير مصيره، والبقاء على أرضه فى مواجهة مشاريع شيطانية للاقتلاع وتصفية الوجود. والدولة المصرية هى التى أعادت تفعيل دورها فى القارة الأفريقية، وبات يُنظر إليها باعتبارها قائدة للمواقف الأفريقية، والمدافع القوى عن حقوق القارة السمراء، والصوت القادر على التعبير عن هموم وتطلعات أبناء القارة. ومصر أيضًا هى الدولة التى استطاعت أن تعيد بناء علاقاتها الاستراتيجية مع مختلف القوى الكبرى، وأن تحتفظ بعلاقات مثمرة مع قوى قد تكون متصارعة، فلديها علاقات استراتيجية مع الولاياتالمتحدة استطاعت استثمارها وتوظيفها لخدمة قضايا المنطقة، ولديها أيضًا علاقات استراتيجية مع الصينوروسيا والاتحاد الأوروبي، وترسم مستقبلًا واعدًا فى إطار عضويتها مع دول «بريكس». استطاعت مصر أن تحل المعضلة القديمة فى العلاقة مع جيران الشمال، وأن تبنى نموذجًا للشراكة يتجاوز عقد التاريخ، ويعلو على رواسب الحقبة الاستعمارية ومخاوف التبعية وتشويه الهوية، فهى اليوم تبنى علاقاتها على أساس من الندية، وقواعد من التوازن، وأعمدة من الاحترام المتبادل، ولديها رؤيتها الخاصة ومشروعها الوطنى الذى لا هو شرقى ولا غربي، بل مصرى خالص ينطلق من أساس راسخ وقاعدة صلبة، وإدراك واقعى لحقائق العصر وتحدياته، ونظرة طموحة تنطلق من تمسك عقلانى بجذور الهوية المصرية، وتتطلع بهمة نحو بناء مستقبل له تاريخ.