على مدار عامين، عشتُ تفاصيل رحلةٍ استثنائية بدأت من قمة القاهرة للسلام فى أكتوبر 2023، وانتهت بتوقيع اتفاق شرم الشيخ التاريخى فى أكتوبر 2025. رحلة رسمت فيها مصر مسارًا متفردًا من القيادة الواعية، بين ثبات المبدأ، وحنكة السياسة، وضمير الإنسانية، لتعيد للعالم صوت العقل فى لحظةٍ غلبت عليها لغة السلاح. القاهرة 2023.. صوت الضمير فى زمن الحرب فى 21 أكتوبر 2023، اجتمع العالم فى القاهرة بدعوة مصرية خالصة. كنتُ وقتها أحد الشهود داخل قاعة المؤتمر، حين صعد الرئيس عبد الفتاح السيسى، إلى المنصة ليلقى كلمته التى لخصت الموقف المصرى فى جملة حاسمة: «نلتقى اليوم بالقاهرة، فى أوقاتٍ صعبة، تمتحن إنسانيتنا قبل مصالحنا، وتختبر عمق إيماننا بقيمة الإنسان وحقه فى الحياة». منذ تلك اللحظة، اتضحت رؤية الدولة المصرية: لا تهجير، لا تصفية للقضية، ولا حلول تنتقص من الحق الفلسطينى. كانت القاهرة تقول للعالم إن الكرامة الإنسانية لا تُجزأ، وإن الأمن لا يُبنى على معاناة الأبرياء. ثبات الموقف.. مصر فى مواجهة الضغوط لم يكن هذا الموقف السامى بلا كُلفة، تعرضت مصر خلال العامين الماضيين لضغوطٍ كثيفة من قوى دولية وإقليمية حاولت إقناعها بقبول «ترتيبات مؤقتة» تمسّ أمنها القومى وتعيد رسم خريطة المنطقة. اقرأ أيضًَا | تقرير | قمة شرم الشيخ تفتح أبواب السلام والاستقرار رافعة راية مصر عالياً لكن الرد المصرى كان حاسمًا، عَبَّر عنه الرئيس السيسى بقوله: «لن نسمح بتهجير الفلسطينيين إلى أراضينا، هذا ليس نزوحًا إنسانيًا، بل إنهاءٌ فعليٌ للقضية الفلسطينية، ولن نقبل بذلك تحت أى ظرف». هذا الثبات أكسب الموقف المصرى احترامًا واسعًا، لأنه لم يكن دفاعًا عن حدودٍ جغرافية فحسب، بل عن ثوابت وطنية وقومية لا تخضع للمساومة. وبينما كانت العواصم الكبرى تتبدل مواقفها، ظل موقف القاهرة راسخًا كالصخر: نرفض الظلم.. ونبحث عن سلامٍ عادلٍ يحفظ الحقوق. الدبلوماسية المصرية.. وعى فى خدمة السلام من قمة القاهرة وحتى خريف 2025، تحركت الدبلوماسية المصرية على كل المستويات. اتصالات مكثفة، لقاءات فى واشنطن وبروكسل والرياض، واستمرار التنسيق مع الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية. كانت الرسالة المصرية واضحة: «القضية الفلسطينية ليست أزمة عابرة، بل قضية حق وعدالة، ولن يتحقق الاستقرار إلا عبر حلٍّ شاملٍ يضمن للفلسطينيين دولتهم المستقلة». بهدوء وثقة، أعادت القاهرة تعريف دور الوسيط فى الأزمات - وسيط لا يُساوم على المبادئ، ولا يتحدث باسم طرفٍ على حساب آخر، بل يعمل من أجل مستقبلٍ للجميع. شرم الشيخ 2025.. تتويج المسار وبداية مرحلة جديدة فى 13 أكتوبر 2025، كنتُ ضمن الوفد الإعلامى المصرى بشرم الشيخ، حين اجتمع القادة والرؤساء ليشهدوا توقيع اتفاق إنهاء الحرب فى غزة. كان اليوم أشبه بخاتمة فصلٍ طويلٍ من الألم وبداية صفحة من الأمل. وفى كلمته، قال الرئيس السيسى: «نلتقى اليوم فى لحظةٍ تاريخية فارقة، شهدنا فيها التوصل لاتفاق شرم الشيخ لإنهاء الحرب فى غزة، ويفتح الباب لعهدٍ جديد من الأمل والاستقرار فى الشرق الأوسط» ثم أضاف جملةً ستبقى خالدة فى ذاكرة السياسة: «القيادة الحقيقية ليست فى شنّ الحروب، وإنما فى القدرة على إنهائها». كانت تلك الكلمات تعبيرًا عن فلسفة مصر فى القيادة: أن القوة الحقيقية تكمن فى السلام، لا فى السلاح. الإعمار.. الهدف القادم فى مسار السلام ومع توقف صوت البنادق، تتجه الأنظار اليوم إلى الخطوة التالية فى المسار المصرى: دعم عملية إعادة إعمار غزة. فالسلام الحقيقى لا يُقاس فقط بتوقيع اتفاق، بل بقدرة الشعوب على استعادة حياتها. ومصر، التى كانت دائمًا جسر العبور إلى الهدنة، تستعد لتكون جسر البناء والإعمار، من خلال خطة عربية ودولية قيد الإعداد، تضع الإنسان الفلسطينى فى قلب الأولويات. كما قال الرئيس السيسى خلال القمة الختامية: «مصر ستظل إلى جانب الشعب الفلسطينى فى كل مراحل السلام والبناء، لأننا لا نبحث عن دورٍ عابر، بل عن مستقبلٍ يستحقه الجميع». مصر تصنع التاريخ بالعقل والضمير من قاعات القاهرة إلى شواطئ شرم الشيخ، ومن ضغوط الحرب إلى أفق الإعمار، أثبتت مصر، أن السياسة حين تقترن بالوعى تصبح رسالة، وحين تتصل بالضمير تصبح قدرًا. كنتُ شاهدًا على مسارٍ كامل، رأيت فيه كيف واجهت مصر العُزلة بالثبات، والضغوط بالحكمة، والصراع بالإنسانية. واليوم، مع بداية مرحلة الإعمار المرتقبة، تدرك مصر أن مهمتها لم تنتهِ، بل بدأت فصلًا جديدًا من قيادة السلام وبناء المستقبل.