تبقى الرسالة السياسية الحقيقية والاهم في هذا العالم هي " رسالة الوعي " بوصفها الركيزة التي ينبغي أن تقوم عليها أي حركة حزبية أو نشاط سياسي في أي بقعة من بقاع الأرض ، رسالة جوهرها الارتقاء بالإنسان ووعيه، لا استغلاله وتسطيحه ، لكن، هل ما زالت هذه الرسالة قائمة ؟ أم أنها انحرفت عن مسارها، وتحولت إلى أداة انتهازية تُنتج وعي زائف يخدم المصالح الضيقة لقِلة من المنتفعين على حساب الغالبية ؟ الواقع يُشير إلى أن كثيرًا من الأحزاب، على اختلاف مسمياتها وأنظمتها، باتت تمارس احتكار فعلي للمشهد السياسي في دول العالم كافة ، حتى تلك التي تتغنّى بالديمقراطية ، وغالبًا ما يقتصر تداول السلطة فيها على أسماء محدودة، لتتحول الحياة السياسية إلى ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية تتغير المقاعد، لكن الوجوه تظل كما هي. فهل نحن أمام ديمقراطية حقيقية ؟ أم أمام لعبة تُسوّق وتُفصّل بحسب ما تقتضيه مصالح كل دولة ونظام ؟ الأخطر من ذلك، هو تصدير مفاهيم مشوّهة للديمقراطية إلى الدول النامية، التي تُعامل وكأنها "بقرٌ حلوب"، تُستنزف خيراتها لصالح منظومات عالمية تُجيد امتصاص الثروات وتُتقن تغليف الاستغلال بورق الهدايا الديمقراطي ، وكلما حاولت بعض هذه الدول أن تفيق، تُعاد هندستها من جديد، تحت مسمى "الديمقراطية" المصممة وفق مقاسات المصالح الدولية، وليس وفق تطلعات شعوبها. في نهاية المطاف، تبقى المعركة الأساسية التي يجب أن نخوضها هي " معركة الوعي " ، الوعي الزائف الذي يُراد لنا أن نحيا في ظلاله، والوعي الحقيقي الذي نحتاج أن نعيد بناؤه من جذوره. وأسوق هنا حكاية العمدة الذي يراقب القرية ، وهي حكاية للتأمل إذ يُحكى أن رجلًا طمح أن يُحكم قريةً كاملة ، لم يسعَ لفرض قوته أو تسلّط نفوذه المباشر، بل فكّر بدهاء : أن يراقب الجميع ، و أن يعرف أسرارهم، خصوصياتهم، أموالهم، علاقاتهم، وحتى طعامهم وشرابهم . فهبط إليهم بفكرة تبدو بريئة : أن يزوّد كل بيت بكاميرا تُسجل اللحظات الجميلة، لتُغنيهم عن الذهاب إلى المصور ودفع المال ، بل وعدهم بجوائز ومسابقات لأفضل الصور . انبهر الناس، وبدأوا في تركيب الكاميرات، أولًا في منزل، ثم في آخر، حتى أصبحت في كل بيت، وكل غرفة، وكل زاوية من القرية , وسرعان ما تحوّلت المنافسة إلى هوس؛ المرأة تُصوّر أبناءها، الرجل يُصوّر زوجته، والأطفال يُسجّلون ما يدور في الخفاء ، دون أن يدركوا أن كل هذه البيانات والصور، رغم اعتقادهم أنها تحت سيطرتهم، كانت في يد الرجل، هو من يملك النظام، وهو من يدير اللعبة. تدريجيًا، أصبح الرجل عمدة القرية لا لأن الناس اختاروه، بل لأنه امتلك أسرارهم ، وتحوّلت نساء القرية إلى أدوات للعرض، ورجالها إلى طبّالين، وأطفالها إلى سلع ، وتلاشت الأخلاق، وتدهورت القيم، وانهارت التقاليد، وصارت الفضائح مادة الإعلام ومصدر الفخر، بينما يستمر الرجل في توسيع نفوذه، وهم يظنون أنفسهم أحراراً . وحين أفاقوا، وجدوا أنفسهم عبيدًا لأسرهم المكشوفة، مقيدين بالخزي، فاقدين لحريتهم، كرامتهم، ووعيهم. وهنا الرسالة واضحة : حين يُسرق وعي الشعوب، لا حاجة للديكتاتورية الصريحة. يكفي أن تعتقد الجماهير أنها تختار بحرية، بينما هي تُدار من خلف الستار . نحن اليوم أمام تحدٍ لا يخص حزب أو دولة أو نظام بعينه، بل يخص مصير المجتمعات كافة ، إما أن نسترد وعينا، أو نواصل الدوران في لعبة أعدها غيرنا، وسيناريوهات كُتبت بمقاييس لا تخصّنا . هي ليست معركة سياسية فحسب .. إنها معركة وعي . كاتب المقال : كاتب ومفكر سياسي ونائب برلماني سابق