د. محمد سليم شوشة تمثل رواية «بالحبر الطائر» للروائية المصرية عزة رشاد، الصادرة عن دار الكتب خان 2025، نموذجا متميزا لخطاب سردى يتسم بالثراء الجمالى والثراء بالرسائل وامتلاك طاقات استبصار كبيرة بالذات الإنسانية وتفاعلاتها مع السياقات المختلفة المحيطة بها وتقدم تجربة لنوع جاد من الأدب الروائى يؤكد على قيمة هذا الفن فى مقاربة الإنسان مقاربة عميقة ترتكز على حدس أدبى عميق بأبعاد اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية وتغيرات كثيرة محيطة بنا. تقارب الرواية عددا من الأسئلة القديمة كذلك وفق طرح جديد مثل علاقة الشرق بالغرب وتباين الثقافات وتداخلها وتقاطع الهويات فى مساحات من وهم الشراكة أو بعض مظاهر الأمل المندفع الحالات التى صورها كثيرون عن العرب المهاجرين إلى الغرب كما فى عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم وأديب لطه حسين وقنديل أم هاشم ليحيى حقى وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، هذا السؤال المتجدد والمربك الذى يعالجه كل كاتب وفق منظوره وطريقته وثبت أنه أكثر الأسئلة النسقية تجددا وقابلية للمقاربة من زوايا مختلفة ومتعددة ووفق أكثر من منظور أو حس أدبى خاص. صحيح أن الرواية تشكلت من أربعة أضلاع هى الشخصيات النسائية الرئيسة فى هذا العالم المسرود عنه هن نعيمة ونوجا ونادين ونسمة، وأن أحد هذه الأضلاع موجود فى مصر وغير مهاجر، وهو ما قد يوحى بأن الخيبة واحدة أو المصير لم يختلف كثيرا برغم تباين الأماكن والثقافات بين أربعتهن، لكنَّ واقع الخطاب السردى للرواية يركز على سؤال التباين الثقافى وأزمة تمزق الهوية وهذا الجدل القديم بين الشرق والغرب، أو يمكن القول بين حضارات تبدو متباينة فى منازعها وتوجهاتها بين المادى والروحى. ذلك لأن الخيبة التى وقعت فيها النماذج النسائية الثلاث ليست بدرجة واحدة من القسوة والتراجيديا وقوة الألم وهناك تفاوت ولو بسيط بينهن لكنه يوحى باختلافات عميقة وجوهرية عن أسباب هذه الخيبة ومصادرها وسر هذا التحطّم العنيف لأسر تحولت من الحلم والأمل إلى الانهيار والسقوط التدريجى والغامض ويبدو أن هذا الغموض وراءه قسوة مضاعفة أو أن الغموض هو نفسه جزء أساسى من الألم والقسوة، ذلك لأن هذه النماذج سلكت مسارات كانت تعتقد أنها تتحوط عبرها لحياتها وأنها تسعى فيها نحو تأكيد إنجاز الحلم وتحقيق الذات، ثم تنكشف المأساة وتتأكد تماما فى هذه المسارات نفسها التى ظنوها آمنة بين تخطيط يجتمع فيه الرجل مع المرأة فى إرادة حرة كما فى حالتى نوجا وزوجها المهاجر الفلسطينى عبد الرحمن، أو نادين وزوجها شهاب وهجرتهما من مصر إلى فرنسا بعد رحلة عمل فى الكويت. يشكل الغموض إذن مصدرا مضاعفا لتأزم هذه المصائر وتعقّدها وبالتالى مضاعفة الألم والشعور بالغربة والغرابة. وهكذا يمكن القول فى مستوى الشكل الروائى أو البنية الفنية أن هذا الخطاب السردى يرتكز على قوة المقاربة النفسية لشخصيات هذه العوالم المتوازية وتدور فى ثلاث قارات فى التيار الزمنى نفسه وكأنها رحلات للسقوط والانهيار المأساوى غير المحسوس أو الذى يخلو من أى مؤشرات. تشكّل المقاربة النفسية القائمة على مبدأى التمثيل والمحاكاة مصدرا مهما من مصادر الجمال الأدبى والمتعة والتشويق والقدرة على إيهام القارئ بأنه أمام نماذج حقيقية تتسم بالحيوية وقادرة على استدرار تعاطفه وتفاعله الشعورى والنفسى معهم وساعد المنظور القائم على الفضفضة الداخلية فى رواية الأصوات على هذا التعمق فى مقاربة الشخصيات من الداخل ويمكن القول بأن خطاب الرواية اهتدى إلى زاوية الرصد الأمثل لسقوط الحلم وعمق الشعور بالخيبة والإحساس بالغرابة والضياع دون مبررات واضحة. فكل شخصية تبوح بما بداخلها فى حركة عكسية مقاومة لرغبة الشخصيات الأخرى فى جروب الواتساب فى معرفة تفاصيل حياة كل واحدة من هاته الصديقات الأربعة فاذا كانت نعيمة التى تعيش فى مصر والأكثر تماسكا والراغبة فى التوجه لعمل خيرى عبر جمع التبرعات قد أنشأت مجموعة على الواتساب لمعاودة التواصل بينهن ومعرفة كل واحدة بتفاصيل حياة الأخرى، فإن هذا شكّل حالا من المقاومة والرفض والرغبة فى التكتم وجهت الشخصية فى اتجاه معاكس وهو البوح الداخلى أو السرد السرى والشخصى إن جاز التعبير، وهو نفسه ما يعادل أو يكافئ طريقة نعيمة نفسها التى قررت كتابة حياتها بالحبر الطائر، فى إشارة عميقة فى تلاشى أصواتهن جميعا وانمحاء قصصهن أو تبددها، ذلك لأن بقاء هذه القصص ربما يكون مصدرا للألم المتجدد، فهى ليست قصص بطولة جديرة بالبقاء، بل قصص خيبات وسقوط لا يليق بها إلا التلاشى والمحو. وعبر هذه المقاربة النفسية المتعمقة وزاوية الرصد الداخلية القائمة على البوح والفضفضة المكتومة أو المهددة بالتلاشى لأنها مكتوبة بالحبر الطائر، يبدو خطاب الرواية فى غاية التراكب والكثافة ومشحونا بالإشارات والدلالات، بما يجعله أقرب لغابة مكدسة بالتفاصيل ولهذا نجد أن هناك توظيفا عميقا لمحددات الثقافة المحلية من الملابس والأغانى والأمثال والموروث الشعبى الذى تحمله كل شخصية بداخلها من فترة الستينيات وما بعدها وتستمر فى داخلهن طوال فترة المهجر أو الغربة، فيما يشكل نسقين ثقافيين متصارعين فى أعماق هذا العالم أو فى نوع من الصدام الخفى. وهذا النسق البنائى كذلك هو ما أسهم فى أن تكون جدائل هذا الخطاب السردى منسوجة بتبادل بين الماضى والحاضر، بين الذاكرة ومحتوياتها الضاغطة على النفس، ومحتويات اللحظة الراهنة ومفرداتها المشكلة للوعى وأزمة السؤال أو دهشة الصدمة. والحقيقة أن هذا النسق التبادلى بين مكونين ثقافيين متباينين فى المصدر والجوهر أنتج عددا كبيرا من الصدمات، سواء صدمة المصير أو حتى صدمة المتعة أو مفاجأة الاختلاف فى مستوى العيش ومستوى الحرية التى منحت لهذه الشخصيات دون عناء، وبدا فى النهاية أنهم ليسوا أحرارا وأنهم مقيدون بقيود خفية أشد قسوة من تلك القيود التى تركوها وراءهم فى موطنهم الأصلى. يوحى خطاب الرواية ويلمح أو ربما يحاول التعمق فى قراءة ما وراء هذه الخيبة، فيمنح مبررات خفية أو من وراء حجاب، مثل أن هذه الشخصيات الوافدة من الشرق اندفعت نحو الحرية غير المحسوبة التى منحت لهم فى موطنهم الجديد، دون وعى بمتطلبات هذه الحرية أو التزاماتها الحقيقية العميقة أو الخفية التى كانت الشخصيات أغبى من أن تدركها، بخلاف المواطنين الأصليين الذين يعيشون فى حال من التوافق التام مع هذا المستوى من الحرية لأنهم هم من صنعوها أو شكلوها باختيارهم. فى المجمل سنجد أن هذه النماذج الإنسانية المهاجرة عاشت مصيرا مأساويا وخاضت تجارب فى غاية القسوة وعانت من التمزق النفسى والشعورى والذهنى وحالات من الشتات أو الضياع العميق وآلت إلى مصير سوداوى يبدو مبررا جدا فى سياق عرض خطاب رواية عزة رشاد الذى ابتعد عن القفزات فى الزمن إلى نوع من التتبع النفسى الهادئ لكل حكاية بمنعطفاتها وتحولاتها المنطقية وبصورة إجمالية فإن مجموعة الفور إن (four N) مجموعة إنسانية ترتكز على المرأة نعم لكنها فى النهاية كانت معنية بالإنسان بصورة عامة بصرف النظر عن النوع أو التحيزات النسوية التى لم يكن خطاب الرواية منشغلا بها بشكل كامل، فى نوع تام من المساواة فى المصير المأساوى، وإن كانت هناك بالطبع إشارات لحالات من التهميش والإقصاء للمرأة بصورة خاصة وربما كانت أجمل لمحات هذا الجانب ما جاء فى توظيف الأغانى التى عبرت كلها فى كلماتها عن حالات من التبعية والتضحية والتنازل من المرأة بصورة خاصة، لتشكل الأغنية ما يبدو قريبا من الخلفية الشفيفة التى تعبر عن مأساة المرأة بشكل خاص. أما عن لغة الرواية وتقنياتها الفنية فهى قائمة على البوح الذى يشكل حالا كثيفة من التعاطف الشعورى، ويصور كذلك حياة حافلة بالمشاهد سواء فى مصر قبل الهجرة أو فى بلاد ما وراء البحار، فى نوع من السرد الذى يعتنى على التفاصيل ويمزج ما هو داخلى بما هو خارجى، وبأشكال كثيرة من التجسيد والوصف الحسى المتناوب مع البوح والمنولوج واللغة الساخرة أو الحوار والمراسلات.