شيخ العمود «إلكتروني».. شرح 60 كتاباً على يد كبار العلماء أسبوعياً بالأزهر    افتتاح الملتقى التوظيفي الأول لطلاب جامعة الفيوم    آخر تحديث.. تراجع جديد للدينار الكويتي مقابل الجنيه في البنوك    «صديقة الخباز» فى الصعيد.. رُبع مليار دولار استثمارات صينية    كتائب القسام في لبنان تعلن إطلاق عشرات الصواريخ تجاه أهداف عسكرية إسرائيلية    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    طلب مفاجئ من محمد صلاح يقلب الموازين داخل ليفربول.. هل تحدث المعجزة؟    إمام عاشور يمازح جماهير الأهلي قبل نهائي أفريقيا.. ماذا فعل؟    رسميا.. المقاولون يطلب إعادة مباراة سموحة ويستشهد بالقانون وركلة جزاء معلول أمام الزمالك    آخر تطورات الحالة الجوية بالإمارات.. توقعات بسقوط أمطار غزيرة على عدة محافظات    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    تعرف على موعد عزاء المؤلف عصام الشماع    باسم خندقجي.. الأسير الفلسطيني الذى هنأه أبو الغيط بحصوله على «البوكر»    الأربعاء.. قصور الثقافة تحتفل بعيد العمال على مسرح 23 يوليو بالمحلة    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    خالد الجندي: «اللي بيصلي ويقرأ قرآن بيبان في وجهه» (فيديو)    «الرعاية الصحية»: نتطلع لتحفيز الشراكة مع القطاع الخاص بالمرحلة الثانية ل«التأمين الشامل»    رئيس جامعة كفر الشيخ يطمئن على المرضى الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي    لجنة الصلاة الأسقفية تُنظم يومًا للصلاة بمنوف    برلماني: زيارة أمير الكويت للقاهرة يعزز التعاون بين البلدين    صندوق تحيا مصر يطلق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم الفلسطينيين في غزة    محمد حفظي: تركيزي في الإنتاج أخذني من الكتابة    استعدادًا لامتحانات نهاية العام.. إدارة الصف التعليمية تجتمع مع مديري المرحلة الابتدائية    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    السفير محمد العرابي يتحدث عن عبقرية الدبلوماسية المصرية في تحرير سيناء بجامعة المنوفية    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    طريقة عمل الكيك اليابانى، من الشيف نيفين عباس    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعمال صنع الله ابراهيم .. تحيا الرواية

شيَّد صنع الله إبراهيم لنفسه مدرسة تخصه وحده، صحيح أن فيها ما فيها من القضايا الكبري التي شغلت كل جيله، جيل الستينيات، إلا أنها انفردت وحدها بملامح تخصها، وعلي رأسها أنها وثقت عبر القصاصات الصحفية لما يجري في الواقع من حولنا. يأخذ صنع الله كثيراً من هذا الواقع، لا جدال، غير أنه لا ينغمس فيه كلية، يهجو الأحوال المتدنية، لكنه مع هذا يطوِّع السياسة تطويعاً لقالب الرواية الفني، فيما يشبه المعجزة،بحيث يتم طمر الصوت السياسي الحاد، بفرشات الفنان البارعة.
منذ أن أصدر »تلك الرائحة»‬ التي يصف فيها تجربته القاسية في السجن أسس صنع الله إبراهيم لصناعة ثقيلة، شيدها ببطء وتأن عبر أعمال صارت الآن من علامات المكتبة العربية »‬بيروت بيروت»، »‬نجمةأغسطس»، »‬ذات»، »‬شرف»، »‬وردة» »‬أمريكانلي»، »‬التلصص» »‬العمامةوالقبعة»، »‬القانون الفرنسي»، وبالطبع عمله الفارق »‬اللجنة» الذي صدرت منه طبعة جديدة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وينتقد فيه بقوة الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مرحلة الانفتاح، وغيرها الكثير.
في هذا البستان قراءة في أعماله، تستند إلي أنها »‬برغمامتدادهازمنياً، تعد مثالاًواضحاً لمجاراة فن الرواية لمتغيرات الحياة، في جميع المناحي الثقافية والاقتصادية والاجتماعية»، وأن »‬الخطاب الروائي عند صنع الله إبراهيم صالحلأ زمان قادمة»، ولم يسقط أبداً بانتهاء الأحوال التي كتب عنها.
د. محمد سليم شوشة
فن الرواية من الفنون الأدبية التي تنعكس عليها كافة التطورات التي تحدث في الحياة بشكل عام والتطورات الثقافية والفكرية بشكل خاص، فالرواية تبدو أقرب فنون الأدب للاستجابة لتطورات الحياة وللمغايرات التي تحدث في المجتمعات وتطورات البنية المعرفية للإنسان وأكثرها تفاعلا مع الميديا وأشكال الخطابات الأخري من خطابات إعلامية أو سياسية أو كتب معرفية أو وسائل تواصل اجتماعي أو تحولات تكنولوجية كبيرة. كل تغير في الحياة يستدعي تبدلا في وضعيات الفن وافتراضاته وأشكال تعامله مع القارئ ومع القيمتين الدلالية والجمالية اللتين ينتجهما الخطاب الروائي. فالتطور التنكولوجي مثلا والصور الملونة في السينما والتلفزيون وانتشار الموبايل بإمكاناته المتزايدة كل يوم عن غيره، وغيرها من التقنيات كلها تؤثر تأثيرات عميقة ومهمة في الفن الروائي بشكل خاص ويمكن رصد هذا التغيرات وما تستتبعه من تأثير في تقنيات الرواية واختلاف جدلها مع الحياة أو مع القارئ الذي لم يعد هو نفسه القارئ في العقود السابقة في بداية فن الرواية أو السرد عموما عندنا في الثقافة العربية. فأصبحت – علي سبيل المثال – نوازع الإدراك عند المتلقي لفن الرواية نوازع حسية بصرية فيها قدر كبير من التجسيد لأشياء المادية وللصور والألوان، كما يمكن القول بانحسار السماعي والشفاهي في مقابل الصورة البصرية والحال الكتابية التي جعلت من الرواية أشبه بمرجع علمي ومعرفي لا يقتصر علي مجرد الحكاية.
إن الأديب المصري القدير صنع الله إبراهيم هو واحد من أبرز الروائيين الذين تمثلوا فن الرواية في تحولاته المهمة وتطوره الضخم. وتجربة صنع الله إبراهيم الروائية برغم امتدادها زمنيا تعد مثالا واضحا لمجاراة فن الرواية لمتغيرات الحياة في كافة المناحي الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، لا أقصد فقط أن الرواية عبر مضمونها تعكس التطورات والتحولات الاجتماعية، فالأمر يزيد علي هذا كثيرا لأن التحولات والتطورات في فن الرواية شاملة وتتجلي في الشكل والمضمون معا. وربما ما يعنيني هنا بدرجة أكبر هو قدر تطور الفن الروائي لديه في تقنياته وبنيته السردية واختلاف طرائق تعامله مع المتلقي وتصوره له ومن هنا اختلاف جمالياته وأسئلته وطريقة الخطاب الروائي في إنتاج الدلالة وغيرها من الجماليات التي سنشير إليها. ليكون من السهل في تصورنا القول بأن الخطاب الروائي عند صنع الله إبراهيم صالح لأزمان قادمة.
من أبرز جماليات هذا الخطاب الروائي الاستثنائي ما يعرف بجماليات المعرفي، وذلك لأنه خطاب يحمل في ثناياه حمولات معرفية كبيرة دون أن يؤثر ذلك سلبا علي الطبيعة الإنسانية للخطاب ودون أن ينال من نبضه وحيويته وقدرته علي أن يكون متنوعا بين النوازع الأخري وتمثيل كافة الجوانب الأخري، فيظل بحيويته الدرامية وتعدد أصواته وتجسيده لحالات من الصراع الإنساني والتقدم في الزمن الروائي بقدر من الحركية وهيمنة الأحداث المهمة التي تجعل السرد مشوقا. فهذه التجربة الروائية لصنع الله إبراهيم تجعلنا نسأل أسئلة توازي ما لديه من التجديد والتجريب، مثل: هل يمكن أن تزول الفواصل بين كتب الفكر وفنون السرد علي هذا النحو؟ هل يملك فن الرواية كل هذه القدرة علي الهيمنة علي الفنون الأخري والخطابات المعرفية الخالصة دون أن تتأثر هويته أو طبيعته الجمالية أو يتبدل جوهريا أو يصبح شيئا آخر غير أن يكون رواية ممتعة؟ وفي تصوري الشخصي أن تجربة الأديب الكبير تطرح الرواية بهذه القدرات الكبيرة من الاستحواذ التام علي الخطابات الأخري دون أدني تأثر سلبي، فنجد رواية وردة استحوذت علي خطاب سياسي وتاريخي وعسكري وظلت بنبضها الإنساني وبحيويتها وبتشويقها ووزعت كل هذه المكونات في خطوط متوازية وممتزجة دون أن تكون ثقيلة أو مملة أو ذات طبيعة جافة أو غيرها من الافتراضات النظرية المسبقة. ومثلها رواية شرف التي تغوض معرفيا مع الواقع الاجتماعي بكل جديد يحدث فيه، بكافة أشكال الجرائم والانحرافات والسلوك داخل السجون، ونظم عالم السجون وقوانينها الضمنية وعكست وعيا كبيرا بالتنوع الاجتماعي والطبقي، وكذلك الماركات والسلع وأنظمة الإدارة في الشرطة والتقاضي ومساراتها القانونية، وسلوكيات المساجين وحيلهم في الترفيه والتغلب علي الوقت والملل، وغيرها من السلوكيات الخاصة بهم باختلاف مستوياتهم وأنماطهم، وكذلك عكست الرواية وعيا بالفولكلور والأغاني والنكت وغيرها من المكونات الاجتماعية الدقيقة والمتغلغلة التي تم توظيفها في السرد. والأمر نفسه وربما أكثر في رواية أمريكانلي التي استحوذت علي خطاب علمي معرفي في تخصص الدراسات التاريخية دون أن ينال هذا أبدا من جمالياتها ونبضها وحيويتها وطابعها الدرامي وحركيتها أو غيرها من الأشياء التي تحافظ علي هويتها بوصفها رواية بما في ذلك معني الحكاية والحدوتة والقصة الإنسانية الطريفة والمشوقة. وتقريبا يستمر هذا النسق من المزج بين الحياتي والمعرفي،وبين اليومي الهيِّن والعادي وبين العلمي والمعرفي بقدر كبير من البراعة والسلاسة اللتين وراءهما حرفة عالية وحكمة كبيرة في توزيع المساحات بين كل مكون منها بنوع من التبديل الواعي والمقصود.في بعض الأحيان نسمع كلاما حول تراجع قراءة الرواية والإقبال عليها في مقابل تزايد الإقبال الكتب الفكرية، ربما يحدث هذا بالفعل تحت ضغط حال من التشبع لسوق الأدب بالحكايات أو التشبع بروايات بالتصور الكلاسيكي لا تزيد عن كونها حكاية، أو تحت تأثير ضغط التبدلات التي تحدث للقارئ الذي أصبح لا يقنع بالحكايات ويطمع في المعرفي في مجتمع به قدر من الانفتاح علي الآخر والطموح إلي الإحاطة المعرفية بكثير من الظواهر الجديدة وكثرة الأسئلة والجدل المعرفي الذي أصبحت دائرته أكثر بفعل التكنولوجيا ووسائل الاتصال التي تخترق الحدود القومية وجعلت العالم قرية صغيرة. هذا القارئ الذي تبدل يحتاج إلي جرعات معرفية أكبر ومن هنا قدرة نماذج روائية قليلة أكثر وعيا وحساسية بزمنها وربما بالقادم كذلك علي أن تشبع هذه النوازع الجديدة لدي القارئ.
رواية وردة.. جماليات اللغز ورحلة البحث
رواية وردة مثلا تمثل شكلا من السياحة البيئية والجغرافية والتاريخية في عُمان في حقبتين مختلفتين، السياحة غير الأدبية أي الحقيقية خارج القراءة قد لا تكون أحيانا بكل هذا الثراء المعرفي الذي تحققه الروايات إذا ما تمثلت شكلا من السياحة القرائية التي تملك القدرة علي المقارنة والربط بين أزمان مختلفة وكذلك استعادة الإنسان القديم أو الطبيعة القديمة بحركتها ومظاهرها وحياتها ومفرداتها ونبضها، الأمر حينئذ أشبه بجمع بين السياحة البصرية وبين الفيلم الوثائقي، وهذا ما يتحقق في رواية وردة التي تعد سياحة معرفية ووثائقية في طبيعة عمان وجبالها وقبائلها، ترصد تنوع قبائلها وتراتبها وقدراتها وأعدادها وتفاوت سلطتها وترصد البيئة بحيواناتها وطيورها وأشجارها وطقسها وفصولها ونباتاتها وزروعها، كما تعتني بالإنسان في الستينيات ومظاهر عيشه وعاداته وتقاليده وتنوع ذهنيته بين التقدم والرجعية وما بها من الأساطير والخرافات والحكايات الدينية الموروثة أو من الكتب، بين الشفاهية والكتابية، بين الأمية والتعليم بكافة مستوياته. كافة مفردات الحياة في الحقبتين حاضرة تقريبا، في الستينيات وفي التسعينيات، مرحلتين متقابلتين وكأن الحياة كلها قد تبدلت وصارت حياة أخري وكونا أو عالما آخر. بين الهدوء والاستقرار وبين الاضطراب والقتل والصراع الدامي والطموح في التحرر والانطلاق، الإنسان في تجليات عديدة له وبعضها متناقض. بين الرغد والخيرات الكثيرة والبزخ والإسراف وبين الشدة والشظف والفقر والقسوة والموت الذي يخيم في كل مكان وفي كل شبر من هذه الأرض. والعجيب أن المرحلة الأكثر قسوة في الستينيات كانت الأكثر نبضا وتشويقا وحيوية وبها نماذج مثل وردة ومريم، نماذج في غاية المثالية والطموح وأخري في ظل هذه الأجواء لا تبحث إلا عن مصالحها. كثير جدا من المعلومات والمعارف التي حوتها رواية وردة موزعة علي فضاء الرواية بميزان دقيق لا يجعلها غالبة أو طاغية أو مملة، بل تتراوح وتتناوب مع المشاهد الحياتية العادية النابضة من حوارات وسمر وطعام وجدل فكري وتخطيط لمعارك وهزائم وانتصارات وأخبار سيئة وأخبار مبهجة وغيرها الكثير من المشاهد الحياتية التي كانت هي الأخري علي قدر كبير من التنوع الذي جعلها تمثل الإنسان في كافة تجلياته، الإنسان في غرائزه الجنسية وفي طموحه للعدل وفي لحظات بطولته وأخري تصور نذالته وجموده وخضوعه للعادات والتقاليد والتفكير في الثأر في أشد أوقات الرغبة في التحرر والثورة ضد هذه العادات، الإنسان في أوج اتساقه مع مبادئه ومع ذاته متمثلا في وردة ومريم تحديدا، وفي أوج تناقضه وغموضه وغرابته حتي ليبدو في كثير من الأحيان كائنا أسطوريا يستعصي علي كل محاولات الفهم والتفسير.
المعارف التي في رواية وردة حول المواقع الجغرافية والبيئة والطرق والقبائلات والعائلات ومستوياتها وتنوعها، الطيور والأشجار والطقس المختلف، الأطعمة، وتنوعها في الحقبتين أو الزمنين المختلفين واختلاف الأطعمة كذلك داخل الحقبة الواحدة من منطقة إلي أخري بحسب العادات والتقاليد والثقافة والمستوي الاقتصادي، فالأطعمة في المناطق الساحلية مختلفة عن المناطق الجبلية وغيرها كذلك في السهول وفي اليمن غير عمان غير المناطق البدوية القريبة من الحدود السعودية غيرها في المدن الكبيرة نسبيا.أسماء المدن والمواقع والبلدان والقري والتجمعات السكنية ووصف الطرق المؤدية إليها سواء في الحقبة القديمة في الستينيات والسبعينيات أو الحقبة الأحدث منها في التسعينيات، حيث جعلت الرواية الحقبتين في مقابلة مع بعضهما وهذا النسق من الصفّ أو المزج له نواتج دلالية عديدة يهمس بها الخطاب الذي يريد أن يقول شيئا عبر المقابلة الحتمية أو المقارنة الطبيعية بينهما، وعلاقة هذه الفوراق بطبيعة الإنسان الذي يتحول تدريجيا ويتخلي عن تكوينه الذهني وأفكاره وأيديولوجيته تحت توجيه ربما لا واع من الاحتياجات الأساسية من الطعام والشراب وغيرهما. ويبدو الإنسان في إطار الرفاهية كائنا مغايرا ومختلفا تماما عنه في إطار الشدة والشظف وقلة الموارد. الأمر ربما يكون له علاقة بتوجيه الجسد للذهن وأن الفكر أو الفلسفة إنما في الأساس يبدآن من الجسد ومن احتياجاته التي تبدو هينة أو غير ذات تأثير. ومن هنا ينشأ سؤال حول أيهما يقود الآخر الجسد يقود الذهن ويشكله أم أن الذهن هو المتحكم الأوحد في حركة الجسد ويسيطر عليه؟ الحقيقة أن انجذاب الإنسان إلي توافر الطعام والشراب والرفاهية يبدو هو الأكثر استقرارا وثباتا ووضوحا عبر تأمل هذا الأثر علي حياة الناس في الحقبتين.
في رواية وردة يبدو لفن الرواية عموما ما يمكن تسميته بالوجه البحثي الذي يأتي بصورة فنية، هل يمكن أن تكون الرواية بحثا اجتماعيا دقيقا وطريفا؟ الرواية بالأساس وفق هذا الطابع من التنقيب في أنماط البشر وأنواعهم وتبدلاتهم وأحوالهم العجيبة لا يمكن إلا أن تكون بحثا اجتماعيا مهما له نتائجه الطريفة والمدهشة ويطرح بشكل هامس أسئلته المهمة إلي أقصي درجة. فالرواية في تقديرنا تطرح سؤالا حول تحولات البنية المعرفية لدي الإنسان العربي، وفكرة الدولة في مقابل القبيلة، والتقدمية في مقابل الرجعية، والنسيج الاجتماعي الواحد في مقابل الأنظمة التقليدية الموغلة في التقدم المتوارثة والهرمية المتفاوتة. أسئلة حول منطق الإنسان العربي الذي يبدو في غاية التناقض أحيانا ويبدو ألعوبة وتابعا للآخر بأشكال كثيرة، فهو حتي في نزعاته الثورية تابع لأفكار الآخرين مما يدعوه للشك وللصدام مع الراسخ وكأن هناك سؤالا حول عدم مناسبة الأفكار الثورية المستوردة لهذا النسيج الاجتماعي الفاعل. ما الذي هزم أو مازال يهزم موجات الطموح إلي بناء دولة مدنية حديثة؟ هل هي التدخلات الإمبريالية الرأسمالية أم أنها عدم مناسبة الإطار الثوري المستورد لطبيعة الإنسان العربي ببنيته الدينية والأصولية والقبلية وقلة تعليمه وقراءاته وعلاقته الإشكالية علي الدوام بالآخر الذي يتشكك فيه علي مستويات عدة وبشكل خاص من ناحية الدين. يتجلي هذا التناقض بدرجة كبيرة وبارزة في موقف واحد حول شخصية صالح الذي أصيب من الحرب مع الجبهة القومية بشبه شلل في رجليه ومع ذلك يرفض الخروج للعلاج ويصرّ علي استكمال الكفاح والحرب، وحين يعود ويجد محكمة الثورة قد نفذت حكم الإعدام في والده بعد اتهامات بالخيانة ينضم إلي الحكومة الرسمية السلطانية وينقلب علي الجبهة ويبلغ عنهم ويدل عليهم أو يمنح الحكومة كل ما لديه من معلومات. الرواية ص277. هنا هو ينقلب علي نموذج الدولة التي ارتضاها في البداية ثم لم يرتض حكمها أو قوانينها وقواعدها ويتضح أنه لا يثق فيها ما دام الأمر يخصه أو حين يكون تطبيق هذه القوانين سيضرّ به، وكأن الواقعة برمتها تشير بطرف خفي إلي مفارقة عجيبة تنتج عن فكرة قتل الأب لدي التيارات اليسارية التي ترغب في التوطن في بيئة قبلية لم يترسخ فيها شيء قدر رسوخ الفخر بالأب وبالنسب ورابطة الدم وبكافة تقاليد القبيلة التي هي ضد فكرة الثورة من الأساس.
من الناحية البنائية نجد أن صفّ الرواية لهاتين الحقبتين في مقابلة مع بعضهما ويتم جدلهما معا في نسق متراوح يجعل هناك تكريسا لفكرة اللغز أو البحث عن سر وردة المرأة المختفية. خط اليوميات التي تدونها في حقبة الستينيات والسبعينيات يكرس لحضور قوي للشخصية، في حين أن الخط الآخر في حقبة التسعينيات ومحاولة البحث عنها يكرس لمزيد من الغموض حولها، يبدو القارئ في النهاية ممسكا بالشخصية عبر الخط الأول الخاص باليوميات ويبدو وكأنه أكثر وعيا بها من الشخصيات نفسها التي تبحث عنها في الخط الثاني ومن هنا يتاح للقارئ نقطة رؤية تبدو أكثر خصوصية وجلاء واطلاعا تجعله يشعر بالتفوق أو الاقتراب ذاتيا من كشف اللغز أو كأنه في سباق مع شخصيات الخط الدرامي الثاني الذي يبحث فيه بعض الشخصيات عن سر وردة وسبب اختفائها. فضلا عن أن هذا الشكل من المراوحة بين الخطين وجدلهما معا بما بينهما من نقاط الربط والاتصال والتكرار يجعل الرواية في النهاية كلا متكاملا في أعلي درجات التماسك والترابط بين وحداتها، فكما أن هناك نوعا من المحورية في الشخصيات الثابتة مثل شخصية رشدي الصحفي المصري الباحث عن وردة وشخصية سالم وبعض الشخصيات الأخري، فإن هناك وحدة المكان الذي يبدو أنه تغير من الناحية الشكلية وأصبح أكثر تطورا لكنه يبقي شاهدا علي الزمنين وعلي كافة ما مضي من أحداث.وكذلك الأمر فيما يخص اللغة والعادات والتقاليد والرقصات الشعبية وغيرها من أنماط الفولكلور والأنماط المعيشية التي ظلت باقية أو استمرت في الحقبتين وأضحت رابطا بين الحكايتين علي نحو ما نري في مشهد الرقص الاستعراضي الذي يصنع حادثة معينة راسخة تمثل وحدة تقفية أو تكرار إيقاعي في بنية الحكاية، وهذه الوحدات المتكرر الضمنية يحيل بعضها علي بعض، ويذكر بما سبق منها وأصبح معرضا للنسيان أو الهرب من ذاكرة القارئ، ومن هنا يبدو النص كما لو أنه يذكِّر بوحداته أو يصنع شكلا من الذاكرة الواحدة للخطاب السردي، بحيث هو نفسه يقاوم التفتت وتلاشي بعض الوحدات من ذاكرة القارئ، وهذه مسألة مهمة فيما يخص إبقاء القارئ علي حالته من الاندماج مع عالم الرواية برغم ما قد يغلب عليها من التشتت النابع من كثرة التفاصيل والأحداث عبر سنوات طويلة من الحرب والمواقع العسكرية والقتال والمؤتمرات ومحاولات تدبير أسباب المعيشة ومسايسة أمورهم في الداخل والخارج. فالرواية في النهاية تقارب حالا تبدو تاريخية ممتدة وكأنها بصدد التأريخ للعالم كله بشكل استعراضي ولهذه الحركة السياسية بمراحلها وبكل ما مرت به من تفاصيل مهمة ومؤثرة من البداية وحتي انطفائها.
أسئلة كثيرة في الحقيقة تهمس بها الرواية حول فكرة التطرف سواء في الثورية أو تطرف السلطة ضد الغاضبين عليها، وكيف يكون التطرف شكلا من الجدل المشترك الذي يصبح كل من يتفاعل معه شريكا فيه. وكذلك أسئلة حول تناقض التيار الواحد أو الاتجاه الواحد، وكيف أن المصالح هي دائما ما تحكم هذه الأطر الثورية البراقة وأن السلطة دائما ما يكون لها بريقها وأن أغلب المثاليين يفقدون كثيرا من بريقهم ويتبلدون تماما مع بلوغها. وغيرها الكثير من الأسئلة والقيم الدلالية المهمة التي توحي بها الرواية فيما وراء ظاهر البنية أو من وراء القيم الدلالية السطحية التي قد يتصور بعض القراء أنها هي الغاية النهائية للخطاب علي نحو أن يتصور بعض القراء مجرد تجسيد وتصوير حالة ثورية وحالة من الصراع وحسب، بل الأمر أكبر من هذا ويمتد إلي أسئلة وجودية مهمة حول الإنسان بشكل عام وجدل الحضارات المتصارعة والرغبة في الهيمنة بينها وصراع بعضها للانفلات من قبضة الأخري، وتتجلي في الرواية خدع البشر وأكاذيبهم وتضليلهم وتحولاتهم. ومن جماليات الرواية المهمة جدا في تقديرنا هو أنها لم تكن ذات دلالة متسلطة أو مشبعة باليقين بل تترك مجالا واسعا للتأويل واختلاف الرأي، فالرواية لا تجزم بأي شكل سؤال الخير والشر وأين يكمن أو في أي فريق، تجسد وتقيد الحالة التاريخية بكافة تفاصيلها ومفرداتها وتناقضاتها وتجسد مثالية كثير من النماذج الإنسانية في صف الثوريين ولكنها كذلك لا تطلق الأحكام حول كافة الثوريين بل صورت ما كان فيهم من التنوع والتضارب والانضمام أحيانا لدوافع شخصية ودون وعي وكذلك أولئك الذين انضموا لأنهم وجدوا في القتال ذاتهم وتجاوزوا به ماضيهم أو طبقتهم وسعوا عبره لأهداف شخصية.
الصورة البصرية والمشهدية السينمائية في أمريكانلي
لا تختلف رواية أمريكانلي عن رواية وردة كثيرا من حيث التشويق والألغاز والأحداث الطريف، بالرواية حافلة بالاستكشافات، استكشافات الآخر عموما وغرائب الإنسان والحضارات، والاستكشافات العلمية التاريخية والواقعية كذلك. وتبدو قريبة الشكل من رواية وردة من حيث اعتمادها علي المزج بين خطين، خط تاريخي ناتج عن البحث والمحاضرات، وخط واقعي راهن ناتج عن أحداث حياة كل شخصية في مجموعة الطلاب وتفاصيل حياة شكري الأستاذ الذي يدرس لهم.
هذا النسق من المزج بين الخطين يجعل الزمن مركبا في الرواية وله عدة طبقات متراتبة، ولا يمضي علي وتيرة واحدة، بل هناك تنقلات بين أزمنة ومراحل تاريخية عديدة في المشهد الواحد أو في المحاضرة الواحدة وليس فقط عبر التقنية التقليدية وهي الذكريات ولكن أصبحت عبر البحث العلمي والمحاضرة وموضوعات البحث التي يعمل عليها الطلاب أو يستعرضها الأستاذ وكل واحد منها يحمل موضوعا أو قصة أو مسألة علمية تتسم بالحيوية والإثارة بالإضافة إلي تيار الوعي وما يجول بداخل الشخصية الرئيسة من الذكريات التي يحتفظ بها أو تبقي لغزا أو سرا بالنسبة للطلاب أو لبعضهم ويبقون متحفزين لها، وهو ما يخلق لدي المتلقي شعورا بالتفوق لأنه أصبح عارفا بهذه الأسرار دون هذه الشخصيات المتلهفة داخل الحكاية كما يحدث مع شرلي التي أرادت أن تعرف بقية قصة الأستاذ مع حبيبته القديمة جملات وكذلك معرفة بقية أخباره الغرامية وإذا ما كان قد تزوج أم لا.
تنويع مستويات المكون المعرفي بين الأخبار اليومية والمعلومات الواردة في الصحف أو الأخبار الشفاهية التي يتداولها الأشخاص وبين المعلومات العلمية المستقرة مما في الكتب والمراجع ووجهات النظر العلمية والأكاديمية. بين الصحف والكتب والمراجع قديمها وحديثها. بين الأحداث السياسية المعاصرة وبين الوقائع التاريخية القديمة والحضارات الموغلة في القدم، عن مصر القديمة وحضارات العراق والشرق عموما، وعلاقة اليهود قديما بمصر وقصة خروجهم، والغزو الدائم لمصر بعد انهيار امبراطوريتها حتي تصبح أقدم مستعمرة في العالم، وقصص كفاح الشعوب. والتآمر الآني من الموسسات الرأسمالية الصهيونية علي أنظمة الحكم أو المجتمعات أو الجمعيات التي تشعر أنها تعاديها، وغيرها الكثير من المعلومات. قضايا وأسئلة كثيرة تحفل بها الرواية عن التحولات الثقافية في العالم والنزعة الاستهلاكية وحقوق العمال والموظفين وتعامل الشركات الكبري ومنطقها واستثمارها في كل شيء بما فيها قضية الهجرة غير الشرعية وتضليل الرأي العام في أكثر المجتمعات حرية أو بالأدق في المجتمعات التي تبدو أكثر حرية وهي في الحقيقة تعيش استلابا خفيا وتضليلا ناعما ومتجددا في أدواته ووسائل هيمنته. وكذلك الأفلام بأنواعها وما يطرحه التلفزيون من أخبار، ومن المعرفي كذلك ما يتم التقاطه بصريا عبر عين السارد التي تطرح مفهوما جديدا للمعرفي، لأن عين السارد تبدو أقرب إلي لقطات توثيقية عن أحوال مدينة سان فرانسسكو والناس فيها وأحيائها ومستويات المعيشة فيها وغيرها من العلومات التي تبدو أقرب إلي ثمرة سياحة بصرية في المكانمن كافة جوانب، وفي هذا المجتمع المغاير بشكل عام.
تجسيد حالة من الانسحاق الغريب الذي يمتزج بقوة المعرفة، تجسد في الصفعات التي نالها شكري البورفيسور والمؤرخ المصري، الذي يقص علي طلابه تفاصيل حياته التي وجهته وصنعت اهتماماته ووجهته ليكون مهتما بالتاريخ وباحثا فيه.
أصبحت جمالات تتجنبني، سعيت عدة مرات للانفراد بها، دون أن أدري بالتحديد ما أنوي عمله. وفي أحد الأيام اعترضني قائلا إنها اشتكت من ملاحقتي لها وإنه ينصحني بالكف عن محاولة رؤيتها. وأشفع النصيحة بالصفعة الثانية في حياتي. كان أقوي مني ولم يسبق لي أن تعاركت مع أحد، فاتبعت النصيحة. رواية أمريكانلي، ص133.
المحذوف أو الحوار الداخلي الذي يصفه الخطاب الروائي داخل فضائه في لون (بنط) مغاير، وهو يدل علي الأشياء التي مازالت الذات الإنسانية مصرة علي الاحتفاظ بها سرا ولا تريد البوح بها أو أنها أشياء ذات طبيعة خاصة تجعل من الصعب خروجها ضمن الحكاية التي يخبر بها الأستاذ تلامذته بقصته. هذه الوحدات لها قيمتها الجمالية المهمة لأنها تكمل الناقص وتجعل تصوير الشخصية من الداخل مكتملا. وكأن هذا الحوار يمثل قراءة سحرية موازية تكشف عن خواطر الشخصية ومشاعرها العميقة تجاه الأحداث المسرودة في المحاضرة ضمن ما يبوح به عن حياته لهؤلاء التلاميذ الذين يصل بهم الأمر حد الدهشة والتعجب والصدمة أحيانا من قدر صراحة الأستاذ الذي يبدو مازجا لذاته بمحتويات الدرس وكأنه لا يعرف حدود تفصله عن المقرر الدراسي الذي يقوم بتدريسه. هل كانت هذه المصارحة جزءا طبيعيا وسلوكا منطقيا في ظل نمط المعيشة التي يعيشها هذا الأستاذ الأعزب الوحيد؟ أتصور أنها في غاية التطابق الفني مع الشخصية لأنه يبدو باحثا عن حال من الأنس والمصارحة لذاته ويبدو أنه وجد في تلامذته أصدقاء له أو بشرا طبيعيين يحبهم ويكونون مرآة له يري فيهم نفسه الغامضة أو يحاول قراءة ذاته عبرهم، أو كأنه يتجرد ويتخلص من محتويات ذاكرة ثقيلة عبر البوح بحكايته في المحاضرات وعبر الكتابة كذلك.
تتعدد القيم الجمالية الناتجة عن مشاهد المحاضرات، أولها أنها تصنع حالا من الجدل النابض وتعدد الأصوات النابعة من اختلاف رؤي هذه الشخصيات بين طلاب متنوعين في المستوي الفكري والاتجاه والقوميات مع أستاذهم الذي يقود هذا الجدل الحيوي والنابض، ويمثل أحد عوامل التشويق لأن كثيرا من هذا الجدل يأخذ طابع الصراع أو الرغبة في الغلبة والتفوق وإثبات وجهة النظر ودحض الرأي الآخر. في حين تسهم هذه التقنية كذلك في تمديد المشهد والخروج به من ضيق المادة العلمية البحتة إلي رحابة الطرح والقصص والمعارف الأخري والإضافية. لهذه المشاهد قيمة جمالية مهمة من جماليات المعرفي، بحيث يصبح النص الروائي متجاوزا البنية الحكائية السيمترية الضيقة ويتمدد بدرجة تجعله موازيا لما بالحياة نفسها من التشعب والتفرع اللانهائي. فأغلب الاستطرادات التي تأتي في إطار هذا الجدل داخل المحاضرة تبدو غير محسومة وغير منتهية ومحفزة لخيال المتلقي علي استكمال الناقص منها، ويبدو ما بها من بتر طبيعيا ومصدّقا لأكثر من سبب الأول أن البتر أو الحذف خاضع لمدة المحاضرات ووقتها وكذلك منهج الأستاذ في إدارتها بحيث يقفز كثيرا علي بعض الآراء مهما كان هناك إيحاء باختلافه معها أو مع بعضها، لنكون في المجمل أمام خطاب سردي يعتمد علي الإيحاء بالصفات الجوهرية للشخصيات مثل أنه يقبل التعدد في الرأي ويتمتع بذهنية علي قدر كبير من الانفتاح علي لانهائية المعرفة وليس متخما باليقين والتسلط في الرأي.
وكما ذكرنا في المقدمة تعمد روايات صنع الله إبراهيم كلها إلي شكل من البناء السينمائي الذي ربما لا يختلف في أدني شيء أو أقل التفاصيل حين يتم تحويل الرواية إلي فيلم سينمائي، لا من حيث المشاهد وترتيبها أو أي شكل من المغايرة الطفيفة في الزمن السردي أو التفاصيل البصرية وترتيب الأحداث ومحتويات المكان وأشيائه أو الأدوات والعناصر المادية والجمادات، فالترتيب نفسه في الرواية سينمائي مشوق وينبني علي بعضه بالكيفية نفسها التي تحدث في الاستراتيجية السينمائية التي تعمد إلي أحيانا إلي الإلغاز والإخفاء والغموض دون تكلف. وتبدو الشخصيات في ظل هذه المشهدية مرصودة بقدر كبير من النبض والحيوية في مشاعرها وتوترها العاطفي والإنساني، علي نحو ما نجد في هذا المشهد:
فتحت الباب ل(ميجان) وصديقها وتقدمتهما إلي الصالة. كان شابا أسمر رياضيا في عشرينياته، وخلته عربيا إلي أن قال إنه من بورتريكو ويدعي هوجو، كان يرتدي سويتر قديما من الشامواه وحذاء ريبوك. أما هي فكانت ترتدي معطفا طويلا من الجلد الأسود فخلعته كاشفة عن جوبة قصيرة خضراء وجوارب سوداء شفافة. رواية أمريكانلي، ص191.
علي أن الإسهاب في وصف الملابس والجانب المظهري يشكل مشهدا متكاملا ويجعل السرد يؤدي دور الكاميرا، والمشهد الناتج عنه عبر هذا الوصف يصبح حاضرا بقوة أمام إدراك المتلقي وفي حواسه ووجدانه ويرشحه لتفاعل أكبر معه إلي حد أن يكون طرفا فيه أو يخلق نوعا من الانتماء بين المتلقي ومشاهد الرواية وشخصياتها أو يصبح عبر المعرفة بأنماط ملابسهم وعاداتهم السلوكية علي قدر كبير من الألفة بهم.
جلست إلي الطاولة وأشرت إليها أن تجلس بدورها فاحتلت المقعد المواجه لي. كانت ترتدي كنزة صوفية زرقاء برقة عالية وتكتفي من الزينة بالروج القرمزي في شفتيها، وسقط ضوء النافذة علي جانب وجهها فأضاء بشرتها الصافية. رواية أمريكانلي، ص315.
تتنوع مصادر التشويق في الرواية بين المعرفي الذي يتطرق إلي قصص تاريخية عديدة ومعلومات عن حضارات ودول أخري في عصور متنوعة ومناطق مختلفة، وكذلك بين خطوط درامية تخص الشخصية الرئيسة في الرواية البروفيسور الذي تأتيه رسائل مجهولة توحي بأن هناك طرفا غامضا يتتبعه ويطارده ويتنصت عليه أو يخترق محاضراته أو قد يكون أحد طلابه يريد السخرية منه والتلاعب به ويستمر هذا الخط الغامض حتي نهاية الرواية بالقدر ذاته من التحفيز والتشويق والانفتاح علي احتمالات عديدة لطبيعة الرسالة أو العبارات التي تتضمن عليها وإيحاءاتها الجنسية أو مراقبة رغبات هذا البروفيسور. ومن مصادر التشويق كذلك درامية الحياة التي قدمتها الرواية بانفتاحها وقلق شخوصها وتطلعهم الدائم إلي الأفضل وقدرة الخطاب الروائي علي تمثل مشاريع البحث التي يقوم بها الطلبة وبحثهم عن النجاح وتحقيق الذات بوصفها كلها مصائر معلقة ينتظرها القارئ أو يشعر ببعض القلق تجاهها.
الأستاذ الذي يسرد علي طلابه في المحاضرة لحظات ضعفه وأنانيته وتخليه عن أصحابه المناضلين، وكذلك خيباته في قصص الحب وضعفه الإنساني ولا يصنع من نفسه بطلا، بل يبلغ حدا بعيدا من الصدق النادر معهم، حين يعترف أنه تخاذل عن اتخاذ موقف يتسق مع مبادئه التقدمية في حالات عدة، وبخاصة حين تراجع عن التوقيع علي بيان أعضاء هيئة التدريس المستنكر للحكم الذي صدر ضد نصر أبو زيد أو غيره في موقف سابق مماثل وذلك لرغبته في الترقية.
القصة ليست قصة رجل أو باحث أو أستاذ زائر أو مجرد عالم عربي يعيش فترة في جامعة أمريكية، القصة هي قصة هذا العالم الجديد والمتغيرات التي طرأت عليه علي مستويات عدة تتعلق بالأيديولوجيا السياسية وتغول الرأسمالية وأثر التكنولوجيا وحالات الهجرة وتطورات البحث العلمي وصراع الحضارات القديم والمستمر وغيرها من الأسئلة والقضايا الكبري التي يتمكن الخطاب الروائي من دمجها في كيانه وذاته بقدر كبير من التدرج والنعومة وبعيدا عن الافتعال أو التزيد أو الترهل والاستطرادات غير المنطقية. فالواقع أن هذا الشكل من الكتابة قد يكون هو الأصل وهو الأقرب إلي طبيعة الحياة والعودة إلي شكلها الحقيقي حين يحاول السرد تمثيلها أو محاكاتها، فالواقع أن المقالات في الحياة حين يقرأها شخص يقرأها كاملة أو تؤثر في عقله وذهنيته ومزاجه وهكذا كافة حواراته وأحاديثه مع الآخرين كلها تكون ذات تأثر وفاعلية علي الحدث وبالتالي يكون من الطبيعي أن يدركها القارئ كاملة وألا تكون خاضعة لفكرة الحذف التي يقوم بها الخطاب السردي تحت دواع كثيرة منها مساحته وفضائه ومحدوديته وللتقاليد الفنية المعتادة من أن المحاكاة دائما لا توفي أو تكمل صورة النموذج الأصلي الذي تحاكيه وإنما تحاول الاقتراب منه. والحقيقة أن السرد في هذه الرواية يبدو وكأنه تدوين حرفي وأبعد ما يكون عن الصنعة وبخاصة مسألة الحذف أو الاختصار وكل هذا يكون في صالح عملية الإيهام وإقناع القارئ بتكامل ملامح العالم الذي يطرحه خطاب الرواية دون أي حذف أو حاجة إلي تواطؤ. ما يتم من حذف هو فقط ما يمكن أن يفهمه المتلقي، وهنا يمكن القول بأنه الحذف في هذه الحال مسألة لغوية وتعبيرية للخطاب وليس شكلا من الاعتماد علي فهم القارئ لاستكمال ملامح أشياء من عالم البطل أو الشخصية الرئيسة.
يتمثل خطاب الرواية الحالة النفسية لأستاذ الجامعة علي نحو تفصيلي ودقيق، مخاوفه وآماله وصراعه مع من حوله ومراحله المختلفة وتطور ذهنيته، ومثال ذلك حالته التي عاشها حين هزمه حلمي عبد الله مرة أخري وشهر به وجعل منه خارجا علي قيم الإسلام ببحوثه ودراسته عن الفتح الإسلامي. فعاش فترة من الانكماش والخوف والقلق، حيث أصبحت بداية الدراسة بالنسبة له في تلك المرحلة مصدرا لتعاظم الخوف والحزن. قلت له إن بداية العام الدراسي تثير حزني وتجعلني مشرفا علي البكاء. الرواية ص400. كل هذا الحزن ليس بسبب أزمته الخاصة فقط، ولكن كذلك لتنامي وعيه بمشاكل المجتمع من حوله وإدراكه لمشاكل مصر في ذلك الوقت في الناحية العلمية والثقافية علي نحو خاص. والسبب الأهم حسبما أعلن انكسار مبدأ الكفاءة والاجتهاد في الحصول علي المناصب والوظائف.
ويفسر خطاب الرواية حال الاكتئاب المرضي التي أصابت شكري بشكل علمي وفق نظرية الكهفية في الجنس، ليربط بين الاكتئاب وحال نشدان الكمال في كل شيء مع الرغبة الجنسية والرغبة في الإغارة الجنسية أو الغزو علي أنه نوع من الارتداد إلي رحم الأم مرة أخري أو الارتداد إلي المرأة التي هي الأصل، وكأن الجنس هنا شكل من الهروب من الواقع الذي أصبح مرفوضا بكل تفاصيله لتهدمه وهيمنه الفساد عليه. الرواية تأتي وفق أكبر من يمكن أن يحققه خطاب أدبي من الاتساق مع المعطيات العلمية في مجالات عدة، وتحمل الرواية جرعات جمالية معرفية كبيرة سواء جاءت في شكل مباشر ضمن المادة العلمية التي يطرحها إطار الدرس والبحث والمحاضرات أو بشكل غير مباشر عبر تمثل هذه المعارف في بناء الشخصيات أو تفسير الظواهر أو تحديد الأنماط الإنسانية التي يتشكل منها عالم الرواية.
مسألة الحذف وفيلم أربع نساء من مصر وكيف يسيطر خطاب الرواية علي مادة الفيلم الوثائقي كاملة دون حذف أو اختصار. وهو ما يكشف موقفا أو قناعة فنية عامة لدي الكاتب، بحيث نكون أمام نسق بنائي ثابت من البداية، وقناعة أو تصور معين بشكل الرواية الجديدة وتقاليدها. الأمر ليس مقتصرا علي الفيلم التسجيلي فقط، ولكنه دال كذلك علي ما يحدث مع المحاضرات التي يتتبعها السرد كاملة ويدمجها في فضائه بالكيفية نفسها دون حذف. الفيلم التسجيلي الذي تتضمنه الرواية عبر بنيته ومادته قد يكون له تأثير عاطفي معين علي الشخصيات، هذا الأثر ربما يميل السرد إلي نوع من الاختزال له أو الإخبار به فقط، كأن يقول علي سبيل التمثيل رأوا فيلما وثائثقيا اسمه كذا وكان يتناول كذا وترك فيهم أثرا نفسيا ومعنويا كذا، أو حدث أن بكي بعضهم أو كانوا في غاية الإعجاب والاستمتاع وهكذا. الإخبار بالأثر في هذه الحال يتضمن قدرا من التواطؤ بين المتلقي ومنشئ الخطاب السردي، ضمن تواطؤات النوع الأدبي التي أغلبها يمكن إجمالها تحت قاعدة (عليك أيها القارئ أن تفهم هذا الجزء وتستوعه وفق خبرتك بفن الرواية وتقاليد قراءتها)، والحقيقة أن الأجمل والأوفق في رأينا أن يكون تأثير المادة الداخلية حاضرا ويمارس دوره علي المتلقي، هذه المادة الداخلية سواء كانت فيلما أو صحيفة أو مادة علمية حين تحضر كاملة في الخطاب الروائي تكون حتمية الأثر وجزءا من دوافع الحدث وتجعل لوحة الحياة التي تقدمها الرواية كاملة ونابضة وكأن القارئ يشاهد هذه الحياة ويتلصص عليها بكامل تفاصيلها وليس مجرد قارئ عنها. هنا وفق هذا النسق البنائي فيما يخص مسألة الحذف وقلته وغياب التواطؤات تبدو الحياة المنقولة عبر السرد ثقيلة أو تفرض نفسها بقوة علي مخيلة المتلقي وتجعله مندمجا في تفاصيلها، فضلا عن أن هذه الفكرة من كثافة التفاصيل تسهم في إنشاء ذاكرة مترعة ومتضخمة أحيانا وثقيلة لدي المتلقي توازي ذاكرة السارد الذي ينقل هذا العالم أو يروي لنا عنه، وهذه الذاكرة الثقيلة تصبح مشتركا بين القارئ والسارد أو صاحب الحكاية، وهو ما يخلق حالا من الوحدة الشعورية بينهما.
الحقيقة أن هذا نمط بنائي عام في خطاب رواية أمريكانلي في كل مادتها وليس فيما يخص المادة المعرفية أو الوسائط الأخري التي يتم دمجها في الرواية، ولكن هذه الوحدات سواء المقالات أو المحاضرات أو الأفلام تصبح كاشفة بشكل أكيد عن هذا النسق البنائي من تغييب مظاهر الحذف أو الصنعة في الخطاب وجعلها تبدو وكأنها غائبة بشكل كامل أو كأن هذا الخطاب ليس مصطنعا وإنما هو محض تدوين بريء بشكل حرفي وبغير صنعة كبيرة.
إلغاء مظاهر الصنعة في الخطاب السردي
مسألة إلغاء مظاهر الصنعة في الخطاب لها علاقة بفاعلية الخطاب ونفوذه أو تأثيره علي القارئ وعلي نعومته وقدرته علي التسلل لمشاعره وجعله مندمجا فيه باختلاق هذه الحال من البراءة والعفوية وكأنه ليس هنا قصد أو نية لأن يكون الخطاب رواية تحديدا. المسألة قد تكون علي قدر من التعقيد لأن النوع الأدبي يجب أن يصنع هويته دون سفور وأن فكرة المحاكاة أساسها التماهي مع الحياة وإلغاء فكرة وضوح النوع. المحاكاة بالأساس قد تكون ضد النوع لأنها نوع من السعي إلي التماهي مع النموذج الذي تقوم عليه المحاكاة، وإذا كانت الروايات تهدف إلي محاكاة الحياة فيجب أن يكون ذلك علي حساب مسألة النوع بالمنطق الشكلي، وأن كمال النوع يكون بتحقيق أقصي إمكانية للتماهي مع الحياة وتغييب المظاهر الشكلية للنوع. والحذف في تقديرنا هو أبرز المظاهر الدالة علي حدود النوع الأدبي، والنماذج الأدبية الضعيفة في تقديرنا هي تلك التي لديها مشكلة حول مسألة النوع أو لديها أزمة فيما يخص هويتها الأدبية وبالتالي فهي تلجأ إلي نوع من التأكيد علي هوية النوع الأدبي ومن ثم إبراز كل ما يلمح أو يقول للقراء بأن هذه التي تقرؤونها رواية، وتقديرنا كما أسلفت أن كمال الرواية في أن تحقق هويتها بالمحاكاة وتغييب هذه المظاهر الشكلية تماما وكأنها غير موجودة تماما، وكأن الرواية ليس فيها أي شيء من الحذف أو التقديم والتأخير أو كافة أشكال التلاعب في المادة المسرودة.
هل يمكننا كذلك الادعاء بأن كثافة التفاصيل الحسية والبصرية التي يطرحها السرد تنشيء لدي المتلقي حالا من الانتماء لعالم الرواية وشخوصها، بحيث يحدث نوع من استبدال واقعه الحقيقي بواقع الرواية ومداركه الحسية بمدارك القراءة أو ما تحاول القراءة أن تتمثله من الحواس ومنافذ الإدراك لديه. القارئ في هذه الحال من تلقي السرد ذي الكثافة في التفاصيل الحسية والمادية يصبح مشاهدا ومعاينا لكافة تفاصيل عالم الرواية، يتذوق مع شخصياتها الطعام والشراب ويقلق معهم ليلا ويشعر بأبعاد المكان وتفاصيله ومشاكل الجيران ويحدد المسافات داخل عالم الرواية كما لو كان يعيش هذا العالم بالفعل، علي سبيل المثال وصف شكري للمرايا الكثيرة في الحمام ونظام الإطفاء والثلاجة والفرن وتحديد الغرف والصالة والشارع في مسكنه وعلاقة ذلك بالجيران وأثر الدخان عليهم، وصندوق البريد ومشاكل القمامة ومشاكل التوصيلات الكهربائية والمقابس القديمة وطراز البناء وكل هذه التفاصيل التي يصبح المتلقي منتميا لها انتماء حسيا علي نحو قريب جدا من الانتماء الحسي لدي شخصيات الرواية وشعورهم بالمكان وتفاصيله.
تثير رواية أمريكانلي سؤالا حول القيمة الجمالية للوحدات السردية التي تخصّ النشاط اليومي والسلوك الحياتي الفردي أو العادي من طعام وشراب وملابس وتجول وغيرها من الأحداث. والقيمة الجمالية لزيادة مساحة هذا النوع من الأحداث أو الأفعال وتتبعها وكأن السرد لا ينوي أن يترك منها شيئا. في تصوري أن زيادة مساحة هذا المسرود اليومي والسلوك الحياتي يسهم في جعل عالم الرواية أكثر إنسانية ونبضا وكأن الكتابة صارت تخترق كل مظاهر حياة الشخصية أو أصبحت الكتابة كاميرا تتلصص علي الشخصية وتحيط بها إحاطة تامة. وتلغي مسألة توجيه الخطاب وإزكاء فكرة أن السرد محض تدوين حرفي لكافة التفاصيل والسلوكيات دون التركيز علي شيء منها يبدو مهما أو يحمل قيمة دلالية معينة يقصد الخطاب لتوجيهها. فهنا يتم المزج بشكل طبيعي بين اليومي الخاص الهيّن العابر والعام المهم أو الذي يحمل سؤالا أو قضية أو فكرة بازرة حول الظلم الإنساني وقد تغول الرأسمالية أو العنف والجرائم أو غيرها من القضايا والأٍسئلة. وفق هذا المزج الذي يشبه الحياة في شكلها الطبيعي دون توجيه تأتي الرواية علي نحو ما بالحياة من التداخل وربما بالنسبة ذاتها أو المقدار نفسه من المزج وهي مسألة تخص المحاكاة هي الأخري، فكأن الروايات تصبح تمثالا يشخص الحياة بالنسب والمقادير والملامح ذاتها الحاضرة في الحياة مع وجود الرغبة في قول شيء أو التصريح بشيء يبدو ضمنيا أو يتم التلميح به دون التصريح، يتسرب أو يتشكل من بين هذه الملامح مما وراءها. ونجد مثال هذا المزج في مشهد ذهاب شكري إلي البنك للسؤال عن راتبه الذي تأخر، ليتعرف أو ليعرض المشهد ويعبر بشكل إيحائي عما يحدث من إحلال التكنولوجيا بدلا من الإنسان في الوظائف وكثير من الأعمال، وأن يقوم التليفون في ذلك الوقت بعمل كافة الإجراءات البنكية وبعدها يري في الشارع عددا من الاحتجاجات علي تسريح الموظفين أو العمال المضربين أمام محل الأثاث، وهو مشهد متكرر يظهر في أول الرواية ومع استمرار الإضراب والاحتجاج يعود المشهد مرة أخري قرب نهاية الرواية. الرواية ص435. والحقيقة أن هذا هو النسق الثابت من المزج والتداخل بين المهم والأسئلة الكبري والقضايا مع الحياتي واليومي والعابر من سلوك الشخصية.
الرواية حافلة بالبيانات والمعلومات الحقيقية والوقائع والأحداث التاريخية الصحيحة أو المعروفة والذائعة في مدة أحداث الرواية، مثل واقعة كلينتون ومونيكا وبعض حوادث القطارات في مصر، وغيرها من الأحداث الحقيقية، ليتمزج الخيالي بالحقيقي علي نحو يصنع نبضا آنيا لعالم الرواية ويسهم في تحقق الإيهام جعل الأحداث مصدقة ومتغلغلة في نفس المتلقي لأن كثيرا منها يصبح شاغلا مشتركا، ولتصبح مسألة القراءة متداخلة مع ما كان يعيشه القارئ من واقع فعلي قبلها. فهنا عبر هذا المزج للأحداث الآنية الحقيقية بالمتخيل السردي يحدث نوع من رفع الحاجز بين فعل قراءة الخطاب الروائي وبين ما قبله من حياة عادية سابقة علي القراءة. فالرواية تصبح جزءا من الواقع والخيالي جزءا من الحقيقي ومن الأسئلة والقضايا النابضة التي كان يعيشها المتلقي قبل ساعات أو ربما دقائق من فعل القراءة ودخول عالم الرواية. ولهذا نجد أنها في تقديرنا ربما تكون الرواية العربية الأكثر دمجا للبيانات والمعلومات والشخصيات الحقيقية واستنباتها في عالم الرواية ومتخيلها، علي نحو ما نجد مع أسماء باحثين حقيقيين أو شخصيات تاريخية قديمة إسلامية وفرعونية أو في كافة الحضارات، سكينة بنت الحسين وكليوباترا وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وأحمد صادق سعد ونصر أبو زيد وكلينتون وغيرها، وكذلك أسماء مؤتمرات ومنظمات ومعاهد وجامعات حقيقية وحوادث كثيرة ثابتة وراسخة أو معروفة. المهم جماليا أن هذه الوحدات يتم دمجها في عالم الرواية بشكل طبيعي ووفق حيل فنية تجعلها بعيدة عن الحشو أو الترهل بل جزء من لوحة حياة البطل وتفاصيل هذه اللوحة. السلوكيات والمظاهر الجديدة للحياة وبعض مخترعاتها وتقاليعها، عيد الهالويين وعيد الشكر وبقايا الهيبييز وتقلص النقابات في أمريكا وتنامي العوالم الافتراضية، وانتشار المتسولين في مدينة سان فرانسسكو بأشكال مختلفة، وحنين المصريين الذين يعيشون في أمريكا وكأنهم لم يغادروا مصر أبدا وغيرها الكثير من المظاهر. الهيمنة الإعلامية للمنظمات الصهيونية والشركات اليهودية علي الإعلام وبعض الشركات الكبري وصراع العمال مع هذه الشركات والهزيمة دائما للعاملين وكأن هناك دائما شيئا في العالم يبدو أكثر غموضا وأصعب من أن يتم تقرير شيء في مصيره أو الجزم به؛ لأن التطورات العلمية التي يفترض أنها تساعد الإنسان وتحسن معيشته تصبح هي الظالم الأكبر له والمعمقة لمشاكله وأزماته. لقد بدا وصف الحياة الأمريكية ومقاربتها في الرواية قادرة علي قول أشياء كثيرة حول المجتمع المصري المعاصر، وكما كان هناك مبرر في المحاضرات للمقارنة بين تاريخ مصر وتاريخ أمريكا وبين القاهرة ومدينة سان فرانسسكو فالأمر وفق هذا النمط من التلميح لم يخل من دلالات كثيرة حول مصر المعاصرة وطابعها الاستهلاكي وتحولاتها الخطيرة التي تبدو غير مستوعبة هي الأخري أو كأننا غير مستعدين لها بأي شكل من التخطيط. أسئلة كثيرة في الحقيقة تحملها رواية أمريكانلي وتنشغل بها، حول انهيار الحضارات وموتها وسر الاستمرار والنجاح والقوة الحضارية وغيرها الكثير من الأسئلة سواء بشكل مباشر أو بقدر من التلميح والإشارات الخفية.
السخرية وتنوع اللغة وتفاوت مستوياتها
الرواية حافلة بالمفارقات والسخرية التي تأتي نابعة من الموقف وعلي مسافات طبيعية ومتفاوتة في فضاء الخطاب، بعضها عن الجيران وعن هواجس شكري ووحواره الداخلي ومقارناته بين القديم والجديد أو بين مصر وأمريكا، وغيرها من الأشياء الساخرة أو المفارقات المضحكة ذات الطابع الجاد في الوقت نفسه وتحمل دلالات وإشارات مهمة وأحيانا مؤلمة أو حزينة علي نحو ما نري مثلا فيما حدث في مؤتمر المثقفين العرب الذي يضج بالصراعات والمشاعر التافهة ويختلط فيه القيّم المهم بالسخافات الفكرية والمظاهر الكاذبة المضللة، وبخاصة حلمي عبد الله زميله القديم الذي يتغني بالقيم والأخلاق ويراها أساس كل حضارة في حين أنه هو نفسه مثال للنفعية وغياب أي من المبادئ أو القيم الأخلاقية، وهذا ما يدركه المتلقي عبر ما تقدم من سيرته دون أن يكشف الخطاب الروائي عن الطرف الثاني المكوّن للمفارقة، ليكون المتلقي شريكا في الاستنتاج وفاعلا في إكمال بنية التلميح، والأمر ذاته من السخرية المريرة حين ينشغل بعض المشاركين في المؤتمر بالمسائل الجنسية وما يجدد الطاقات من الأطعمة أو يهتم كثيرا بانتشار الفياجرا في كافة أركان الوطن العربي. الرواية ص453. أو مثلها في نهاية الرواية حين يصرح بأنه منح الطالبة الإيطالية الدرجة الثالثة لكونها حضرت بضع محاضرات أو في الحقيقة لجمال ساقيها.
علي أن الكم الأكبر من السخرية أو ما يمكن وصفه بهيمنة السخرية علي السرد نجده في رواية شرف التي تأخذ في كثير من الأحوال منحي هزليا أقرب للكتابة الصحفية الساخرة التي كانت لدي برع فيها محمود السعدني وبعض الساخرين الكبار، علي أن استخدامها بهذه الكثافة وفي سرد رواية كبيرة وممتدة الأحداث في عالم السجون المأساوي يمثل إنجازا جماليا مهمة ومفارقة كبيرة تكثف من النواتج الجمالية وتخفف من حدة هذا العالم ووطئته علي القارئ وتجعله بقدر من اللطف والخفة والمرح.
تنوع اللغة وتفاوت مستوياتها بين اللغة العلمية واللغة الذاتية ولغة البوح ولغة المونولوج أو الحوار الداخلي وتيار الوعي وتفاوت اللغة في الحوار وتنوعها بين الفصحي والعامية، وبين اللغة العلمية البحثية أو الأكاديمية وأخري تداولية أقرب للغة الحياة اليومية.
دائما ما نجد في روايات صنع الله إبراهيم فكرة القناع وطبيعة الدلالة التي ينتجها الخطاب الروائي عبر هذا التقنيع، فلا يصرح أبدا بمعني إجمالي يلح عليه، بل هناك دائما نوع من التخفي والقدرة الكبيرة علي أن يتخذ من أنماطه الإنسانية وشخصياته أقنعة يتحدث أو يوحي من ورائها بما يريد من المعاني، وهو ما نجده في كافة الروايات تقريبا مثل ذات وشرف ووردة وأمريكانلي والجليد وبيروت بيروت. فهو هنا امتداد أصيل لمدرسة فن الرواية أو فن السرد عموما في التخفي وراء الأنماط والشخصيات واستخدامها بشكل جيد لإنتاج معني يحتاج إلي قدر من التأويل وإعمال العقل، ويبتعد كثيرا عن مجرد تدوين السيرة الذاتية أو الكتابة حول ذاته وحسب أو مجرد الكتابة للكتابة.
مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي
في رواياته كذلك يمكن أن نلمس قدر إيمانه بفكرة أن الذاكرة أمان الأمم، ولهذا يعمد إلي طابع عام من التسجيل والتدوين لكافة الأحداث الكبري وكأنه يريد ألا يضيع أي من أحداثنا المهمة أو يتبدد بالنسيان، فكثير من الروايات لديه تلح علي مسألة التسجيل وكأنها بصدد تدوين دروس تاريخية يجب أن نتدارسها ونتدبرها باستمرار وبخاصة تلك المرتبطة بالصراع الأيديولوجي أو الصراع من الآخر وبخاصة الصراع العربي الإسرائيلي الذي يأخذ لديه حضورا قويا وفي أغلب الروايات تقريبا، بحيث قلما نجد رواية له لا تشير إلي هذا الصراع من إسرائيل.
فنجد في رواية وردة إشارة إلي مشكلة التواجد الإسرائيلي الذي يريد أن يسطو علي المياه والإنجازات والتاريخ، يتجلي في شخصية مونا في رواية أمريكانلي بطرحها لقضية لحق بني إسرائيل في أرض مصر وفي حضارتها وأنهم طردوا منها قديما وحديثا، وكذلك في رواية وردة حيث الشخصية الدنماركية التي تنسب لإسرائيل بطولات العرب، سيف بن ذي يزن، وتأكيدها لبعض الآثار والمقابر اليهودية في سلطنة عمان. وكذلك الأمر في رواية الجليد وطبعا في 67 وكذلك في رواية أمريكانلي وحتي رواية شرف الموغلة في المحلية لا تخلو من إشارة إلي هذا الصراع.
ويمكن القول بشكل إجمالي كذلك إن روايات صنع الله إبراهيم تعمد إلي نظام سردي يحاول تجسيد الداخل ورصد التكوين النفسي للشخصيات ابتداء من وصف الخارج أو التفاصيل الخارجية للعالم المحيط أو الوعاء والإطار الذي تنغمس فيه الشخصية ويصبح مرآة لها ولسلوكها، وهذا النظام السردي يجعل الروايات تتجنب فكرة التصريح والحديث المباشر عن طبيعة هذه الشخصيات وسماتها النفسية، وهذا الأكثر جمالا في تقديرنا لأنه يسمح بمساحة أكبر من التأويل والاستنتاج الذي يقوم به المتلقي فيستخلص سمات الشخصية وطبيعتها النفسية عبر سلوكها والأحداث اليومية التي تقوم بها، كما أنه يجعل القارئ أقرب لمتلصص أو مراقب لعالم الروايات وأحداثها وشخصياتها ويملك الزاوية الهادئة التي تجعله علي قدر كبير من الاطلاع والوعي بكافة التفاصيل وهو ما يتحقق في روايات شرف وردة وأمريكانلي والجليد والتلصص، التي صدرت لها طبعة جديدة من هيئة قصور الثقافة، وكافة الروايات تقريبا.
وهكذا تصبح الأشياء مرآة الذات، أو نكون قد حصلنا علي تجل جديد للذات الإنسانية بدلا من أن تتمحور حول ذاتها أو تكون هي دائما البؤرة المركزية تبدو أحيانا الأشياء والجمادات والسلوك اليومي العادي هو المحور والبؤرة التي فيها تتجلي الذات الإنسانية بقدر كبير من الهدوء وتجاوز المباشرة وبقدر وافر من التلميح وتلك في رأينا طبيعة الفن بشكل عام وفكرته الجوهرية أن يوحي ولا يصرِّح.
الكاميرا عين الهادئة
في كافة الروايات تقريبا نجد هناك تنوعا بين الذاتي والموضوعي، بحيث يكون دائما هناك ذات إنسانية أو شخصية واحدة تكون في مركز الأحداث وكأن الرواية كلها أنشئت من أجل هذه الشخصية ورصد أحوالها وقصتها، ثم في مرآة هذه القصة الذاتية أو الفردية تتجلي كافة الأسئلة والقضايا العامة والخارجية التي تحيط بالشخصية وتمتد إلي الأحداث التاريخية أو الوقائع الكبري الخاصة بالصراع بين الدول ومشاكل العالم وأحداثه الجديدة. وهكذا نكون بين أشكال عديدة من الدلالة، منها الخاصة بهذه الذات الفردية التي تأتي عبر الأحداث اليومية والذكريات وتيار الوعي، ومنها الخاصة بالعالم وتأتي بكيفيات عديدة عبر الأخبار أو الأحاديث الشخصية ومجادلات الشخصيات ومحاوراتها.
الحقيقة أن روايات صنع الله إبراهيم كلها تحتاج إلي بحوث ودراسات عديدة ومن جوانب عدة لترصد خصوصية هذا المشروع السردي والجمالي وتكشف عن طاقاته الخاصة ويمكن أن تقوم علي كل جانب منها رسالة جامعية، علي نحو أن تكون هناك رسالة ماجستير مثلا عن الطابع السينمائي في سرده أو الجماليات المعرفية والطاقات البحثية والمعلوماتية، وكذلك قضايا الصراع ومشاكل المجتمعات العربية والإنسان العربي، وغيرها الكثير من القضايا والموضوعات والتقنيات التي تتجلي لديه بشكل طولي في مشروعه الممتد ولا يتسع هذا المقام لتناولها كلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.