واقعة سرقة الإسورة الذهبية رغم مأساويتها، يمكن أن تكون نقطة تحول إيجابية وقطار المستقبل لا يمكن أن يسير على قضبان قوانين قديمة. طفرة حضارية غير مسبوقة تشهدها مصر والتى تتوج نوفمبر المقبل بافتتاح المتحف المصرى الكبير ذلك الصرح العملاق الذى سيغير خريطة السياحة العالمية..لكن قبل أيام حدثت واقعة أثرية مروعة أحزنت المصريين وكشفت عن ثغرة فى نظام الحماية بأحد أهم متاحفنا حيث وقعت سرقة الإسورة الذهبية النادرة لأحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين من داخل المتحف المصرى بالتحرير..لم يتم الأمر باختراق أمنى معقد، بل «بأسلوب المغافلة» من قبل إحدى العاملات لتنتهى مأساويا إلى بيعها وصهرها فى بوتقة أحد صاغة الذهب فتفقد الإنسانية قطعة أثرية مهمة إلى الأبد. هذه الحادثة ليست مجرد جريمة سرقة عابرة بل هى جرس إنذار مدو يعلن عن ضرورة ملحة وطارئة أن مسارنا نحو المستقبل بمشاريعه العملاقة مثل المتحف المصرى الكبير وغيره من الاكتشافات الأثرية الجديدة يحتاج إلى منظومة حماية قانونية وتكنولوجية تكون على نفس القدر من الطموح والعصرية. لا يمكن لقطار المستقبل أن يسير على قضبان قوانين ونظم قديمة...معظم الدول أصبحت تلزم جميع المتاحف والمخازن الأثرية بتطبيق أعلى معايير الأمن بما فيها أنظمة التتبع الإلكترونى لكل قطعة وأنظمة الإنذار المتصلة مباشرة بأجهزة الأمن ولو كانت الإسورة مزودة بشريحة تتبع لكان من الممكن إنقاذها قبل صهرها. وفى إيطاليا مثلا توجد وحدة أمنية خاصة لحماية الآثار والفنون الإيطالية وتحمل اسم « الكارابينيري» وهى الأولى من نوعها فى العالم. تضم محققين متخصصين فى تاريخ الفن وعلم الآثار وهم لا ينتظرون السرقة لتقع بل يراقبون سوق الآثار ويعملون استباقيا على تتبع تجار ولصوص الآثار وحيلهم الجديدة ويمتلكون قاعدة بيانات للقطع المسروقة وتعاونًا وثيقًا مع الإنتربول ومنظمة اليونسكو. الحقيقة أنه لا يمر أسبوع واحد حتى تنشر الصحف وقائع استخراج آثار بشكل غير قانوني..أحدهم فقط عثروا معه على أكثر من 75 قطعة أثرية!! وآخر قام بالغوص فى شواطئ الإسكندرية وقام باستخراج آثار غارقة بشكل غير قانونى ومئات الوقائع شهريا لضبط قضايا حفر أسفل المنازل والمواقع بمختلف المحافظات..دعونا لا ندفن رؤوسنا فى الرمال كالنعام ..هناك مشكلة حقيقة تتكرر كل يوم ..وهناك رجال دين سمعت بعضهم بأذنى فى جلسات خاصة يروجون أن تجارة الآثار غير محرمة طالما عثرت عليها أسفل منزلك أو أرضك فهى من حقك!! ..بحثت عن إحصائية أو دراسة واحدة حول جرائم الآثار والحفر غير المشروع لم أجد على الرغم أنها ظاهرة تتكرر يوميا. خلال العام الماضى تم رصد عشرات من قطع الآثار المصرية التى تم عرضها للبيع فى مزادات أوروبية تحت اسم «أنتيكات» وتعود هذه القطع لمختلف عصور مصر القديمة بداية من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصر القبطي، وتتراوح قيمة القطع الأثرية المصرية فى المزاد بين 649 ألف دولار و2 مليار دولار!!..وجود قطع أثرية مصرية أصلية تعرض فى مزادات عالمية أو فى مجموعات خاصة خارج مصر بشكل مستمر هو دليل على استمرار تدفق القطع المسروقة وهو ما لا يمكن أن يحدث بدون وجود تنقيب غير مشروع نشط ومستمر. الجميع يعلم أن العديد من القرى والمدن فى المحافظات مبنية مباشرة فوق مقابر ومواقع أثرية مما يجعل الاكتشاف المشروع وغير المشروع سهلاً أثناء أنشطة البناء أو الزراعة أو الحفر.. وهناك صفحات على منصات التواصل يقوم بإدراتها أشخاص يعرضون خدماتهم لتحليل صور إشارات وعلامات الدفائن الآثرية واتجاه الحفر لأى عمق ويبثون مقاطع فيديو يوميا. القوانين والإجراءات القديمة لا تصلح إطلاقا وضحك على الذقون ..نحتاج نظام حوافز قويًا للإبلاغ عن الاكتشافات الأثرية ..فى القانون المصرى يوجد بالفعل مكافأة لمن يعثر على آثار ويسلمها لكنها فى الواقع هزيلة وهزلية ..مواطن بالإسماعيلية عثر قبل عامين داخل أرضه على لوحة أثرية فرعونية يقدر ثمنها 100 مليون جنيه وقام بتسليمها فمنحته لجنة الآثار شهادة تقدير ومبلغ لا يكفى ثمن أجرة التاكسى الذى ذهب به لاستلام الشهادة!! ..فى انجلترا يتم تطبيق قانون «الكنز» وفيه يحصل من يسلم قطعًا أثرية على نسبة من قيمتها السوقية العادلة ..قد لا تمتلك الدولة ميزانية لذلك فيمكن رصد مكافآت بقطع أراض زراعية أو شقق سكنية أو بأى شىء حقيقى مجز بالإضافة إلى تكريم واسع الانتشار لهؤلاء الأشخاص فى كل القنوات والمنصات واعتبارهم قدوة حقيقية..زيادة التشديد الأمنى ليس الحل. واقعة سرقة الإسورة الذهبية رغم مأساويتها يمكن أن تكون نقطة تحول إيجابية..إن استثمارنا فى المتحف المصرى الكبير يجب أن يقابله استثمار موازٍ فى نظام حماية وآخر لتشجيع تسليم القطع الأثرية فالتراث ليس ملكا لنا وحدنا بل هو أمانة فى أعناقنا للأجيال القادمة من كل أنحاء العالم.