ممدوح فراج النابي صدرت رواية «ملحمة الحرافيش» للأديب العالمى نجيب محفوظ (1911 – 2006) على صدر مجلة أكتوبر على مدار 52 أسبوعًا، مع بداية العدد الأول لمجلة أكتوبر فى 31 أكتوبر عام 1976، إلى أن صدرت بين دفتى كتاب عام 1977 وقد صدرت على غير عادة روايات نجيب محفوظ التى كانت تصدر مسلسلة فى جريدة الأهرام. خرجت ملحمة «الحرافيش» من رحم رواية «أولاد حارتنا» التى أثارت ضجة كبيرة وقت صدورها، لم تهمد إلا بمصادرة الرواية، ولم يُفرج عنها إلا فى عام 2006، ونُشرت فى مصر بمقدمة أُطلق عليها «شهادة» بتوقيع أحمد كمال أبو المجد، وقد أُعجب النقاد بالرواية الجديدة أيُّما إعجاب؛ إذْ وجدوا فيها أن «محفوظ» يستلهم من الحارة المصرية، نموذجًا رمزيًّا للعالم أجمع، وكذلك كانت استحضارًا للحضارة المصريّة القديمة من حيث البناء، فكما يقول الناقد علاء الديب: «لأول مرة أشعر أننى أمام بناء فرعونى خالص فى الأدب، بناء يستحضر عظمة المعابد، ونقوش الجدران، ويستحضر كذلك روح العدل والتوازن، بل والتحدى المباشر لفكرة الزمن وجوهره. إنها أكمل وأنضج ما قدّم فكر نجيب محفوظ وفنه». روح أولاد حارتنا تسرى فى الحرافيش عبر استعارات تمثيليّة لشخصيات من أولاد حارتنا، إضافة إلى الفكرة الجوهرية المتمثلة فى إقامة العدل، كما تتوازى الحرافيش مع أولاد حارتنا فى استحضار الميثولوجيا الدينية، بشكل أليجورى منذ قصة سيدنا آدم وعمارته للكون، وثنائية الصراع بين الخير والشر، والقوة والعقل، والإغواء والخلاص. الرواية الحلقيّة تنتمى الرواية إلى روايات الأجيال أو الرواية الحلقيّة (النهرية) تلك التى تتعقّب رحلة أجيال فى أزمنة مختلفة، ومن ثمّ عمد إلى بناء هيكلى تتألّفُ منه الرواية مكوّن من عشر حكايات طويلة تتبع ستة عشر جيلاً من عائلة عاشور الناجى المؤسّس الأوّل وعلاقتهم بالحارة وما تبعها مِن تغيرات فى بنيتها وصراعاتها لتأسيس أسطورة الفتونة، تبدأ بعاشور الناجى وتنتهى بالحفيد عاشور الثاني، فى إشارة إلى دائرية الحكاية وتناسلها، على مستوى الشخصيات التى تنسلّ (وتتوالد) من بعضها البعض فى شبكة علاقات متداخلة تنتسب إلى الأصل، ثم تتفرع إلى فروع متشابكة يربطها فى النهاية اسم المؤسس عاشور الناجى (اللقيط)، والأم فلّة (ساقية البوظة)، أو على مستوى المآسى والنكبات التى حلّت على رجال العائلة، وكان أحد الأطراف الضالعين فى هذه المآسى المرأة. راصدًا تاريخ هذه العائلة وكيفية تأسيس أسطورتها بالبحث عن العدل (الفردوس المفقود)، وعوامل القوة والضعف والاضمحلال، فى إشارة إلى قوة، واضمحلال الأمم، على الرغم من أن محفوظًا ينفى أنه يرمز بها إلى شيء، وإن كانت الرواية بصراعات الحرافيش وصمت الرعية، ما هى إلا أمثولة رمزية لبحث مصر عن الحاكم العادل كما قال ج.م. كوتزى فى مقالته عن الرواية. بنظرة واحدة لعناوين الوحدات السّردية، نجد الغلبة لأسماء الذكور الذين دارت حولهم الحكايات، باستثناء الحكاية السادسة التى عنونت بعنوان مجازي، شهد الملكة، وحقيقى باسم الشخصية التى دارت حولها الأحداث، زهيرة الناجي، وهو ما يشير إلى دلالة ظاهرية، بأن ملحمة الحرافيش تؤرخ لتاريخ الرجال، ولكن الحقيقة مع غياب حضور المرأة الشكليّ فى البنية الخارجيّة، إلا أنها تشكّل عنصرًا أساسيًّا فى الحكايات، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الحكايات كانت المرأة هى اللاعب الأساسى الذى شكّل الحدث، وأسهم فى تغييره أيضًا، بما قامت به من أدوار إيجابية مثل: سكينة وفلة، ونور الصباح وحليمة البركة، أو سلبية كباقى النساء. وبناء على هذا فالحرافيش ليست رواية عن الرجال وأمجادهم فى الفتونة وفقط، وإنما هى أيضًا عن النساء، وبالأحرى سُلْطة النساء التى تتراوح بين الجمال والقوة والجاه، ومن ثمّ يمكن - من وجهة نظرى الخاصة وغير الملزمة - قراءة الروية على اعتبار أنها رواية نسائيّة بامتياز؛ إذْ تظهر قوة المرأة، إذا امتلكت السلطة، أو الجمال، أو الجاه، فى تغيير مسار الرجال، وهو ما تحقّق على كافة المستويات، فمصائر الرجال مرهونة ومتعلّقة بقدرة المرأة، وقد تنوّعت نماذج المرأة ما بين المرأة مجهولة الأصل، والمرأة الداعرة، والمرأة ذات الحسب والنسب، والمرأة المأساة، وما بين هذه وتلك تساقط الرجال كالفراشات إلى حتفهم، وانتهى الحال بهم إلى الاختباء، والهروب، والجنون، والموت الحقيقى والمجازي. المرأة الرحم حضور المرأة فى أعمال محفوظ ليس عشوائيًّا، وإنما هو اختيار دقيق له أهدافه، ورسائله المهمة، التى تجمع بين السياسى والاجتماعي، فقدّم على مدار أعماله نماذجَ متنوّعة للمرأة المصرية، عبّرت عن طبيعة التكوين الاجتماعى لأطياف المجتمع المصري، وإن كان منحازًا للطبقات المهمّشة والمتوسطة، بحكم نشأته فى حى الجماليّة. كانت المرأة وسيلته للتعبير عن مراحل تطوّر المجتمع المصري، وهو ما انعكس على طبيعة الأدوار التى لعبتها، لكن فى الحرافيش جاءت صورة المرأة مختلفة تمامًا، فالمرأة المجهولة التى بدأت بها الرواية، وقد منحت الأسرة العقيمة الذرية، تتوازى مع الأم الرحم / السيدة حواء التى منحت البشرية الذرية، ومنها بدأ الكون فى التشكّل، وهو ما ينطبق على هذه المرأة غير الحاضرة بهويتها، وإنما بثمرتها التى كانت فاتحة الخير على أسرة الناجى فيما بعد، ما بين لحظة غياب المرأة، وظهور اللفافة التى تركتها «تحت السور العتيق» إلى أن عثر عليها الشيخ «عفرة زيدان» كانت بداية الحضور البازغ لسلالة آل الناجي، بدءًا بالمؤسّس عاشور الذى أطلقتْ عليه سكينة المرأة العقيم هذا الاسم تيمنًا باسم أبيها، وانسلت من نطفته سلالة آل الناجى بدءًا بشمس الدين، وصولاً إلى عاشور الثانى الذى أعاد سيرة عاشور الناجى بعد محاولة فاشلة من فتح الباب (تأمّل دلالة الاسم وكأنه فتح الباب لعودة سيرة الناجى العطرة ومسيرته فى تحقيق العدل) فى دورة تكشف عن ديمومة الحياة، رغم انقطاعات الموت والرحيل. هيّأ نجيب محفوظ لبطله كل الظروف ليكون هو المؤسّس، فسكينة زوجة الشيخ عفرة زيدان، امرأة عقيم لا تنجب، وقد فاتتها فرصة الإنجاب، كما جعل من صفاتها الرحمة، فتلقت الهدية بقلبٍ راضٍ، على أنه «رزق من الله» ومن ثمّ رفضت مقترح الزوج بأن يذهب به إلى القسم، وصادرت على رأيه بتساؤلها الاستنكارى «هل يرضعونه فى القسم؟» ثمّ سدّت الباب أمامه بقولها «لن يبحث عليه أحد». مِن رحم المرأة الرحم (المجهولة) قُذفت سلالة آل الناجى إلى المرأة الحاضنة (سكينة) التى تمنح الطفل اللقيط هوية وحياة جديدتين، ولكى يبدأ محفوظ فى تأسيس أسطورة الناجى وسلالته، يرسم بدقة ملامح تكوينه الجسماني، لما لها من دورٍ مهمٍّ فى المهمّة التى أُرسل إليها (أو أعدّ إليها)؛ ليكون فتوة «ونما نموًا هائلاً مثل بوابة التكيّة، طوله فارع، عرضه منسبط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرة توت، رأسه ضخم نبيل، قسماته وافية التقطيع غليظة مترعة بماء الحياة، تبدت قوته فى تفانيه فى العمل، وتحمُّله لمشاقه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفى تمام من الرضى والتوثّب» (ص: 12)، رَغِبَ الشيخ فى أن يجعله مقرئًا للقرآن مثله، لكن رغبته تبددتْ بسبب حنجرة عاشور التى كانت «عاجزة عن تطويع النغم»، وقصوره عن حفظ السور الطويلة. هكذا تهيأت كل الظروف لكى يكون المؤسّس عاشور على خلاف مربيه قارئًا للقرآن. وبهذه التهيئة يبدأ محفوظ بتهيئة مسرح الأحداث للناجي، فيمرض الشيخ عفرة بحُمّى، لم تنفع فى علاجها الوصفات الشعبية، فانتقل إلى جوار ربه، وبعده وجدت سكينة نفسها بلا مورد أو قدرة على العمل فرحلت إلى قريتها، وشعر بعدها عاشور وحيدًا باستثناء سيده درويش زيدان، الذى تنكّر له، وأراد استغلال قوته فى أعمال السطو التى يقوم بها، إلى أنه هام على وجهه حيث «مأواه الأرض». بداية لقاء عاشور بفُلّة بعد اللمحة التى رأها فيها من خارج الخمارة، عندما اقتتل أبناؤه بسببها، فذهب إلى الخمارة، هناك التقاها، وقالت له «أنا بريئة» فصرخ فيها بخشونة «اغربى عن وجهي» كان الصدود والنفور هما عنوان العلاقة التى نشأت بين عاشور وفلة، وعندما احتدم الصراع وصفها بأنها «شيطانة صغيرة من صُنع شيطان كبير» كل هذا وهو يتجنّب النظر إليها. المرأة السكن المرأة الثالثة فى حياة عاشور الناجى بعد المرأة الرحم، والمرأة السكينة، المرأة الدفء زينب ابنة زين الناطورى الذى استخلصه لنفسه بعدما رفض أن ينضم لرجال الفتوة قنصوه. زينب التى طال الانتظار ولم يأت لها العَدَل لتكون زوجة لعاشور كما اقترحت عدلات زوجة زين الناطوري، بعد أن أصبحت عقبة فى زواج بناتها، كانت فى الخامسة والعشرين من عمرها، لا جمال لها، وطباعها تسوء يومًا بعد يوم. تزوجها عاشور وكانت تكبره بخمس سنوات، سكن معها فى بدروم مكوّن من حجرة ودهليز يقع أمام بيت الناطوري، أنجبتْ له مع الأيام حسب الله ورزق الله وهبة الله، عاش معها حياة سعيدة، وظل فى عمله مكاريًّا، وقد أصبح مالكًا للحمار الذى وهبه له الناطورى ليلة الزفاف، أما زينب فعملت بتربية الدجاج وبيع البيض، هكذا صارت الحياة طيعة له، ومع هذا فلم تكن تماثله فى الطباع فهو معروف عنه بدماثة الخلق، أما هى فكانت «عصبية، سيئة الظن، طويلة اللسان»، وبقدر ما حافظ على حيوته وشبابه، كانت تتقدم فى السن، وسارع إليها «التغيير والنضوب قبل الأوان»، ومع هذا لم يزهد فى حبها. لكنها سنة الحياة، والتهيئة للمرحلة الجديدة كانت تحتاج إلى امرأة أخرى، لكن هذه المرة كان اختيارها قدريًّا، دُفِعَ إليه دفعًا؛ لا رغبة فى الزواج بقدر ما هو رغبة فى إنقاذ أبنائه من براثن «الشيطانة الصغيرة» كما وصفها توالت الأحداث وبعد أن خرج درويش من السجن، عاد إلى الحارة، وإذا به يبنى خمارة، وقد وجد رعاية وحماية من الفتوة قنصوه ورجاله بذرة الفساد التى زرعها درويش فى الحارة تسللت إلى بيت عاشور، فأخذ أبناؤه يتسللون ليلاً إلى الخمارة، حيث فلة الساقية، فتاة يتيمة تبناها كى «تكسب رزقها بعرق جبينها» كما ادّعى درويش بأنه يفعل الخير أيضًا. المرأة المغوية والمؤسّسة ها هى فُلّة بدأت تهدّد الاستقرار الذى حققته زينب، وها هو الرجل القانع بحاله، أخذت تساوره الشكوك والظنون بضياع الأبناء، بل والأدهى بدأت تطل عليه سيرة أمه الرحم، وتتجلى له فى خياله، راح يعكس صورة أمه على هذه المرأة الداعرة، وأقرّ فى داخله بأن للمعركة لكى تحتدم «لا بدّ من بشرة صافية، وعينين سوداوين مكحولتين وقسمات دقيقة مثل البراعم، لا بد من الرشاقة والسحر وعذوبة الصوت» (ص: 22)، فى إشارة إلى المرأة الإغواء، هنا خرج سؤال العجز عميقًا وحزينًا: «ما الحيلة؟» كيف يصدّ أبناءه عن البوظة، بالأحرى ساقية البوظة فُلّة، وفى محاولة دفع الشر عن أبنائه، صار زبونًا دائمًا عند درويش. وفى غمرة الحيرة والقلق، يقتحم ذات يوم الخمارة، ويطلب من درويش البنت، وعندما يعترض درويش، يخبره بأنه يريدها على سنة الله ورسوله، يُحذِّره درويش بأنه سيكون «أحدوثة الصغير والكبير»، لكن فُلّة تعترض وتضع الكلمة الفصل بقولها: «إنه قادر على حماية ما يملكه» (ص: 50)، فى تأكيد لتحمله المسؤولية والقدر فى آن واحد، كانت فلة أشبه بالسيدة حواء التى أغوت أدم، الفرق، أنها هنا أغوت أبناء عاشور، إلى أن أصاب الرجل سهم إغوائها، وفسره لزينب بأنه «قضاء الله لا حيلة لنا فيه...». بعد التسليم بأنها قضاء الله، تُزف فُلّة إلى عاشور فى حفل صامت، وقد استأجر لها بدرومًا فى طرف الحارة من ناحية الميدان. أعادت إليه شبابه، لاقى هذا الزواج اعتراضات كثيرة، بل وسخرية حتى من أبنائه، صار عاشور بزواجه منها فى مرمى النيران، وكان يدافع عن نفسه بقوله: «لولا أننى عاشور ما تزوجتها» فى تلميح إلى أنه بزواجه منها كان مُسيّر لمهمَّة، ما زالت فى علم الغيب، تقاطعت فُلّة مع عاشور بأنها مثله «مجهولة الأب والأم»، ولنتأمل الصفات التى اكتشفها عاشور فيها وما تشير إليه من ترددات فى الثقافة الدينية، فيقول: «ومن أول الأمر أدرك أنها بلا دين إلا الاسم، وبلا أخلاق، وأنها تتبع فى مسيرتها الغرائز وملابسات الحياة» (ص: 53) ولكى تخلو له وحده بلا شريك، خاصة زينب التى لم ينقطع عنها، حيث كانت تعبده، تُنجب له فلة ابنهما شمس الدين (الوريث)، وتتوالى الأحداث فتحدث الشوطة التى تقضى على الأخضر واليابس، ويأمر أهله بالرحيل عن الحارة، لا تطاوعه إلا فلة، ويرحلان معًا إلى الخلاء والجبل، انتهت الرحلة، لتبدأ رحلة جديدة بعد أن قضى ستة أشهر فى الخلاء، لزوم الإعداد للرسالة، زمن الرسالات انتهى، لكن زمن الفتوات يبدأ. عندما يهبط عاشور بعائلته من الصحراء التى قطنوها إلى الحارة، يجدها فارغة مثل الأرض عندما هبط عليها سيدنا آدم وأمُّنا حواء تحتاج إلى العمارة وهى المهمّة التى هيّئته لها الخلوة فى الصحراء، على عكس درويش الذى كانت مهمته الفساد والدمار بافتتاح الخمارة، فى استعارة صريحة ودون مواربة لثنائية الخير والشر التى تأسّس عليها الكون مع بدء الخليقة، هنا يبدأ عاشور فى تأسيس مملكته، أو مملكة الرب بتعبير محمد بدوي. هكذا هيّأ القدر فُلّة المقطوعة الأصل والنسب، لأن تكون أمًّا لآل الناجي، ومع مكوث عاشور وعائلته فى الحارة يبدأ الناس يتوافدون على الحارة. هكذا كانت فلة مجهولة الأصل سنده فى المحنة الإلهية، صبرت، حتى فازت، وسكنت معه قصر آل البنان، عاشت فى لذيذ العيش، وها هو يتوّج بالزعامة والفتوة، فلُقّب بسيّد الحارة، ولأنه الناجى الوحيد من الشوطة أُطلق عليه «عاشور الناجي». هكذا هيّأت تصاريف القدر الزعامة لعاشور مقطوع الأصل، فصار راعى الفقراء وحاميهم، وأشاع العدْل بين الناس، لكن الملذات لا تدوم، فلا حزن يدوم ولا فرح، فيبدأ درويش الذى سمع كلامه (دون الآخرين) ورحل عن الحارة تجنُّبًا للشوطة، لكن الخلاء لم يطهره، فعاد إلى سيرته الأولى، بل وأسوأ مما كان، فبنى الخمّارة فى فعل مناقض لما يقوم به عاشور، وامتلأ صدره بالحقد (تأمّل الحقد بداية الصراع مع نشأة الخليقة) فوشى به بأن مِلْكية القصر ليست له، فينتهى الحال بعاشور إلى السجن، وتعود فُلّة إلى البدورم، وهى لا تملك مليمًا واحدًا، وقررت ألا تعتمد على أحد، فخرجت إلى سوق الدرَّاسة لتعمل، لكن الشيطان درويش كان لها بالمرصاد، فاعترض طريقها، وراح يغويها للعودة إلى العمل معه، لكنها صدته، وظلت على عملها، حتى خرج عاشور من محبسه، وقد تغير وجه الحارة بتتويج درويش فتوة للحارة، ومع عودته خُلعت عليه الفتوة، ومع بداية الحكاية الثانية «شمس الدين» يختفى عاشور دون أن يعرف أحد مكان اختبائه أو سببه، ولكن الحقيقة أنه أدى الرسالة، وترك السلالة، وفى حدث غير متوقع يتوج شمس الدين ابن عاشور فتوة للحارة بعدما تغلّب على منافسه غسان، لكن سيرة الأم القديمة ساقية البوظة تُطارد شمس الدين. فمثلما ورث شرفه فى الفتونة والسير على نهجه بإقامة العدل بين الناس، ورث عنه عاره، الذى لم تَمْحُه أفعاله الخيّرة لأهل الحارة. تتبدّل الأحوال بفُلّة فقد كانت بالأمس السيدة، فصارت اليوم الأرملة الحزينة المهجورة. صراع الديكة توارت فلة الأرملة المهجورة كما وصفت نفسها قليلاً، لكن بقيت مرشدًا، والبوصلة التى يسير بهداها شمس الدين، الشيء المزعج بالنسبة له، أن سيرتها القديمة، أخدت تطفو على السطح وراحت تطارده وكأنها العقاب الأبدي، بل صارت أشبه بالعار الذى يلاحقه، فها هو فتوة العطوف يقولها فى ظهر شمس الدين «أقدم يا بن الزانية... أقدم يا بن عاهرة درويش!» (ص 109) ، ثم تلوح كما يلوح الوشم فى ظاهر اليد، عندما تظهر السيدة الجديدة عجمية بنت المعلم دهشان، ومع ظهور عجمية تظهر امرأة أخرى تشاغل شمس الدين، هى الست قمر، أرملة غاية فى الجمال والغنى، وبين المرأتين يقف شمس الدين حائرًا، فواحدة «تناوشه بشبابها، والثانية تناوشه بأبهتها»، والقول الفصل عند أمّه التى تعلم بحنكة النساء أن شيئا يُدبّر بليل من خلفها، فتثور على ابنها، وترفض قمر رفضًا قاطعًا، فهى فى نظرها «فى مثل سن أمك، وهى عقيم»، «ولم يبق من جمالها إلا أيام»، كانت ترغب فى أن تزوجه من بنات الوجهاء، وعندما تجد منه تعنتًا ورفضًا تخبره بأنها رفضت سيد وجهاء الحارة، عنتر الخشاب، هو يماثلها فى السن. صارت فلة عقبة فى زواج شمس الدين، مارست دور الأم، التى ترى ما لا يراه الأبناء، وقد أيقن فى قرارة ذاته أن أمه عنيدة، ومن ثمّ لا بأس من إصابة الهدف دون مشاورة عقيمة، وبالفعل يقرّر الزواج من عجمية بنت مساعده دهشان، وعاد إلى البيت فألقى على أمه الخبر المزلزل بأنه قرأ فاتحة عجمية بنت دهشان. قمر لم تستسلم فترسل عيوشة الدلالة لتصحبه إليها، يبدأ اللقاء بعتابه: ما الذى ينقصها؟ وينتهى بخطيئة، سقط البطل، وقد أدرك أن ما اقترفه من خطأ ليس بالهين، وأن قوى الظلام تتآمر عليه، وبعدها يُعجّل بزواجه من عجميّة التى استقبلتها فلة «بوجه مشرق وقلب كئيب». يستعر الصراع بين المرأتين من أول شهر، وشمس الدين يتجاهل ما يرى ويسمع، وإنجاب عجمية الولد بعد الولد لم يشفع لها عند أمه، ففطن أن «دخول معركة آمن من الدخول بين امرأتين متعاديتين». أظهرت فلة قوتها، وعِنْدها، وفى المقابل وقفت عجميّة قوية سليطة اللسان، متوحشة عند الغضب. أمنّ شمس الدين المعارك خارج البيت، فاستعرت نارها داخل البيت بين المرأتين، وفى وتيرة الصراع بينهما عايرت أمه زوجته بجدٍّ لص لها، وهو ما استنفر غضب عجمية، فأطلقت حممها، فصاحت دون أن تخشى زوجها «يا ربيبة البوظة»، لأول مرة يتدخل بين المرأتين ويصفع زوجته، صفعة كادت تقفدها الحياة. صفعته جملة عجمية أكثر ما كان يتوقع، نتأت جُرحًا حاول مدارته منذ نعته فتوة العطوف بابن الزانية، لكن هذه المرة تجسّدت له الحقيقة التى كان يهرب منها، لاحقه عار عاشور، وهو فى مأمن منه، أورثه كل شيء حَسن، ولم يكتفِ بهذا، فزاده عاره، ليحمله على ظهره كصخرة سيزيف لا تفارقه، كشفت له عن السرّ المخبوء عنه، الذى «يعرفه الأعداء والأصدقاء، ولولا سطوته لتغنّى به الكارهون». أشعلت عجمية ليس النار فى صدره، بل أوغرت أمّه ضدّه بطريق مباشر هذه المرة، عندما شعرت الأم بأنه متهاون فى حقِّها، فقذفت له بالقاتلة، بأنها قرّرت الزواج من غريمه عنتر الخشاب، غضب وثار وأعلن أنه «لن يقع (هذا الزواج) وهو حي»، بل كانت سببًا فى خلق عداوة بينه وبين عنتر، ذهب إليه، وأهانه وهدّده «حتى اضطُر الرجل إلى لزوم داره» هكذا وقع شمس الدين بين تنوّر زوجته، وجحيم غضب أمّه، ثمّ تصاب الأمُّ بالحُمّى، وتتدهور صحتها، ولا تنفع معها وصفات العطار، إلى أن تُسلم الروح فى جوف الليل. موتها لم يداوِ جراحه، بل زادها نزفًا، فأشيع بين الناس أنه دسّ السُّم لأمّه ليمنعها من الزواج، وهناك مَن تمادى بالقول إنه «اكتشف علاقة غير مشروعة بينها وبين عنتر الخشاب»، وهاج شمس الدين وتبدّل حاله بسبب نتيجة صراع المرأتين «فخاض معارك حامية دون أن يتحداه أحد، وتمثّل فى الحى جبارًا لا يعرف الرحمة». وفى حالة الاضطراب التى صار عليه، قادته قدماه إلى منزل عيوشة الدلالة راجيًا منها أن تأتى إليه بقمر. وعلى الرغم ما اُبتلى به من صراع النساء، وما عاناه من انحرافات شخصية، إلا أنه «حافظ على نقاء فتونته للحارة»، وكأنه يحافظ على عهد عاشور الناجي، و«عرف بالتقوى والعبادة وصدق العبادة»، لكن الابتلاء بالنساء هو ما لم يقدر عليه، واستسلم له، خاصة بعدما كبر الأبناء، لكن عجمية لم تستلم للزمن، فدأبت على صبغ شعرها، وواصلت عملها مع الشمس، وأحيانًا مع الشمس والقمر، كما لم تزايلها النضارة واكتسبت مع الأيام بدانة فاخرة. ومع مرور الأيّام لم يفتر حبها له، ولا غيرتها عليه، لم يتزوج بأخرى، ولم يرتكب إلا هفوة عابرة، مع عجوز فى سن أمه، لكن الراوى الضمنى يقول ساخرًا.. ولكن من ذا يضمن المستقبل؟ ماتت عجمية ذات صباح باكر، وبعدها شعر بأنه وحيدٌ على الرغم من أن زوجات أبنائه تناوبن على خدمته، مرض قليلاً، ثم استعاد عافيته، وانتصر فى معركة وحُمل على الاكتاف، لكن فى الأخير مات شمس الدين الناجي، وقد أسهمت الحارة فى تشييد قبر يليق بمقامه، وشيعته بجنازة مهيبة لم يتخلف عنها رجل أو امرأة، وقد لقب بقاهر الشيخوخة والمرض، ثم خلفه ابنه سليمان فى الفتوة. المرأة اللعنة (السلطة والجمال) كان سليمان عملاقًا مثل جده «عاشور»، لم يحظ بأية وسامة من أبيه، ولكنه «مكتس بروعة الصورة الشعبية الأصيلة»، كما لم يَرث من أبيه أمه كى تنازع زوجته فيما بعد. تزوج من فتحية رفيقته فى الكُتّاب، وأخت صديقه عتريس، وأنجبت له الولد تلو الولد، لكن قلب سليمان عاشق، تعلّق بابنة السمري، راوغ حتى تزوجها، ولأول مرة يتمرد أحد أبناء الناجى على طبقته، ويتعلق بطبقة أعلى، وعندما يجدها عقبة يلعنها، فلقد قال بملء فيه "اللعنة على الحرافيش"، ورغم تكراره لجملته «فسليمان لن يتغير»، إلا أن مع سنية بنت السمرى تغيّر كل شيء وأولهم سليمان نفسه، فأرسل رسولاً إلى أبيها، وجاءت الموافقة، لا حبًّا فى سليمان، أو أنه المرغوب فيه، ولكن أراد السمرى أن يتطلع إلى مصاهرة الفتوة الجبّار سيد الحارة وشاكم الأغنياء. كان للسمرى طلب واحد، هو أن يخصص لكريمته دارًا فى بيته، حتى يشيّد لها سليمان دارًا تليق بها. كانت سنية بداية التنازلات التى خضع لها سليمان، وهو يعلن أنه لم يتغير ولن، ولكن كان يتغير، فعافت نفسه بيت فتحية، وأَلِف بيت سنية، واستجاب لإغوائها بترك مهنته ومهنة أبيه وجده، وزاد من الهبات لنفسه ولأعوانه، فراحت الأسئلة تنسل من الصدور الموغرة: أين عهد عاشور، أين إخلاص شمس الدين...؟ فزاد الساخطون بعدما تجنّب المعارك، وتحالف مع فتوات الحسينية. وفقدت الحارة مركز السيادة الذى تبوأته منذ عهد عاشور الناجي، واستمرت فى عهد شمس الدين. زواج سليمان بسنية السمري، كان بمثابة عقد صلة بين السلطة والجاه، وهو ما أكده شيخ الحارة سعيد الفقي: «مصاهرة مباركة بين الفتونة والوجاهة» (ص: 152). فبدأت حياة الدعة تدغدغ سليمان بإقامته فى دار السمري، فقد جادت الحياة بمذاقات جديدة لم يألفها من قبل، وحملت السحبُ ماءً سلسبيلا بعبارة راوى محفوظ السّاخر، ف«أسكرته الرائحة الزكية، وداهنته البشرة الملساء، وأطربته النبرة العذبة، وحلت دنياه الرشاقة اللعوب»، وبعدما استطاب له المقام بدار السمري، وقد ذاق لذيذ الأطعمة والأشربة، واستلذ بنعومة المجلس ودفء المرقد، وسلامة الملابس، وأبهة الحمام الساخن... جاهد فى عمل موازنة بين حياته الجديدة وحياته القديمة، لكن هبت رياح جديدة زعزعت جوه المستقر. وهو ما كان بداية للانحراف عن طريق آل الناجى ومن هنا بدأ التمرد على واقعه القديم، جاهد كثيرًا ليعمل موازنة، فحافظ نوعًا ما على مظهره فى الخارج، وأصر على ممارسة عمله المتواضع، لكن سنية كانت له بالمرصاد، فراحت تغويه بأن يتخلى عن مهنته القديمة، وهو يأبى شاهرًا مقولته العصماء«ما تغيرت، ولن أتغير...» وها هى سنية تمنحه الظل الذى يخلفُه، فتنجب له بكر ثم خضر، وفى هذه الأثناء يشيّد لها دارًا جديدة، وراح يغترف من نعيم الأبوة والسعادة فى الدار، بقدر ما كان يشقى بعودته الإجبارية إلى بدروم فتحية. استولت سنية على قلبه وعقله تمامًا، وراح يعيد التفكير فى كلامها عن عمله، وبدأ رحلة التغيير، أو الصعود إلى وجاهة سنية وعائلتها، فتخلّى عن عمله لأحد أتباعه، وزاد من الهبات لنفسه وأعوانه، وهو ما كان ميزان الجور على أنصبة الفقراء، والحرافيش «تغير وجه الحارة المشرق». لم تتوانَ سنية فى تنشئة أبنائها بكر وخضر على حياة الدعة والرفاهية، فشبّا مرفهيْن مدلليْن، لم يعرفا الحارة إلا من الشرفات العالية، ولم تطأ أقدامهما أرضها المبلطة. واستكمالاً لرحلة الانفصال عن الجذور، أرسلتهما إلى الكُتاب، كانت تعدهما للتجارة، وقد استكرها حياة الفتونة فى إشارة إلى الانفصال عن عهد الناجي، بألا يخلفا أبيهما فى الفتونة. على المقابل إثر حالة الدعة التى عاشها سليمان فى منزل سنية، تخلّى عن المعارك، وآثر التحالفات ليتفادى المواجهات، ورويدًا رويدًا كان سهم سليمان يصعد إلى عالم الجاه والوجاهة، فتنازل عن زى الفتونة، وارتدى العباءة والعمامة، واستعمل الكارتة فى مشاويره، وبهذا المنظر الجديد سقطت صورة العملاق ومنظره. تدخل رضوانة رضوان الشوبكشى العطار، بيت سنية وسليمان، بعدما اختارتها سنية زوجة لابنها بكر، كانت «جميلة ذات عينين زرقاوين، وشعر ذهبي، وقامة فرعاء رشيقة»، أُعجب بها بكر أيُّما إعجاب، كانت رضوانة بمثابة الحيّة التى اقتنتها سنية فى بيتها، مالت رضوانة إلى خضر، فى البداية انعقدت بينهما صداقة وإخوة، كان يقوم بخدمتها كلما غاب بكر فى إحدى رحلاته التجارية. ومع الوقت بدأت رضوانة تُفصح عن مكنونها لخضر. استغلت رحلة بكر لتجارته، واستدعت خضر، وأومأت له بمكنونها، فصدّها، حُرمة لأخيه، وحرمة لأواصر الإخوة التى عقدها معها، لكنها كان لها رأى آخر، بأن قلبها هو من شغف به حبًّا، وليس بكر منذ أن رأته مرة واحدة، لم تعرف بكر، وعندما خُطبت لبيت سليمان ظنت أنه هو المقصود، حكت وحكت، وما إن أنهت حديثها حتى انفلت بكر نحو الباب وهو يتمتم وداعًا، غادر البهو «أعمى العين والقلب والبصيرة» (ص: 165). بحديثها قلبت رضوانة عقل خضر، ولا يدرى ماذا يفعل فى المصيبة التى أُلقيت عليه دون انتظار أو توقّع، هجر البيت، وتجنّب رؤيتها، وقد عصفت الأحزان بقلبه، وسكنه القلق والهواجس، كان حديثها أشبه بمن أشعل فتيلاً بدأ بصيص ناره يضوي، منتظرًا الاشتعال، أو الانفجار، وهو ما تحقّق بعد وقت ليس ببعيد، فحلّت الفضيحة بآل سليمان، بعد عودة بكر من رحلته، أوغرت صدره ضدّ أخيه، وحرّضته عليه، فشبّ الخلاف، وكان السقوط الأخلاقى المدوّي، وهنا يظهر الراوى الضمنى / الأخلاقى العائد على نجيب محفوظ، فيبدأ الشجار مباشرة ولا ينتظر بكر دفاعًا من أخيه، صرخ فى وجهه «يا لك من وغد خسيس». ثم انقض عليه كالوحش، و«راح يكيل له الضربات والآخر لا يرد» كما يقول الراوي. وفى الجلسة التى جمع فيها سليمان؛ خضر، وبكر، وسنية ورضوان، طالبًا الحقيقة، أُجهشت فى البكاء، وسليمان يصرخ: «الحقيقة الحقيقة، حتى أقوم بواجبي»، لكن الأفعى تتمادى فى الصمت والبكاء، وبينما الموقف يتأزم، وقد أيقن خضر أن الحيّة نجحت فى بثّ سمومها، يولّى خضر هاربًا، وبعدها جرت فضيحة آل سيلمان الناجى على كل لسان. انعكست الفضيحة الأخلاقيّة التى حدثت بسبب رضوانة، على شخصية الفتوى سليمان، فصار متوترًا، متربصًا بأى هفوة حتى من أقرب المقربين، بل ترهلّ جسده، ولم يعد منسجمًا مع الفتونة «انتفخت كرشه، وتدلت عجيزته، ... وكان يغلبه النوم وهو متربع على أريكته فى القهوة»(ص: 171)، وقد انتهت به الفضيحة عاجزًا محمولاً كطفل إلى دار سنية هانم السمري. أسقط مكر المرأة الزعامة والفتونة، فناب عنه عتريس، فى البداية أعلن ولاءه له، ثمّ تمرد واستولى على نصيبه، وعادت الفتوة إلى سابق عهدها قبل عاشور الناجي، فتوة على الحارة لا لها، دون أية خدمة، إلا خدمة الدفاع ضد الفتوات الآخرين. يُعلّق راوى محفوظ على أثر الفضيحة فى تحسّر، وكأنّه يطلب من القرّاء مشاركته التأسى على ما صار عليه الفتوة السابق: «لم يفقد سليمان الناجى الفتونة فحسب، ولكنه فقد نفسه أيضًا، لم يعد شيئًا وتلاشت الدوافع والمعاني». سعى سليمان لاسترداد مجده بالعطارين، فما وجد عندهم علاجه، ثمّ قصد الأولياء الأحياء منهم والأموات، وقد وصل به الحال إلى الزحف «على عكازين، ويجمد فوق الأريكة مثل قدر المدمس». وحاق بالبيت التعاسة، فتبرمت سنية هانم بالحياة، وفترت علاقتها بزوجة ابنها رضوانة، وبدأ سلوكها يشذُّ، فمضت تتغيّب عن البيت؛ ناشدة التسليّة فى دور الجيران، ونصحه المقربون بتطليقها، وبعد لَأْى ومداورة منه طلقها وعاد إلى دار فتيحة التى استأجرها لها، ومع توسّع تجارة بكر، إلا أنه لم يهنأ فى داره، فقدَ السعادة، ولم ترضَ رضوانة عن شيء، ودبّ الخلاف بينهما، خاصّة بعدما ازداد التنافر بين أمه وزوجته، وانفجرت الأم فى ابنها، متهمة إياها بأنها «قدم الشر الذى قضى على أخيك وأبيك وأمك». ومع توالى الأيام مات السمرى والد سنية، فورثت عنه مالاً، أخذ منه بكر، ليزيد تجارته، وتوغل فى المال وكأنه «يتحصّن به حيال الموت والأحزان والفردوس المفقود»، ثمّ أشهر رضوان الشوبكشى إفلاسه، فاشترى بكر داره، ليثبت لزوجته حُبّه وكرمه. كانت الفاجعة الحقيقية فى هروب سنية من الدار ومن الحارة، هربت مع شاب سقّاء وتزوجت به. كانت هى الكارثة التى عصفت بكل ما سبق، وقد تلا هذا إفلاس بكر، فقد كل شيء، لا فتونة ولا مال ولا سعادة. واضطر صاغرًا أمام تراكم الديون إلى بيع أملاكه، وكانت المفاجئة، أن جاء الغائب خضر، لينقذ سمعة الناجي، لكن بكر ثار، وهجم عليه، واشتدّ النزاع، وازداد الصراع بين بكر وزوجته رضوانه، فهجم عليها، وظن أنه قتلها، وتمّ تسليمه إلى القسم، ثم ظهرت الحقيقة بأنها لم تمت، وأفرج عنه، إلا أنه آثر الهروب. الحيّة ما زالت لها أذناب، بعد عودة خضر راحت تتودد إليه، تكاشفا، ليبدأ الناس فى الهمس، خاصة بعد مطالبتها الطلاق من بكر الهارب، ويشتدّ الخلاف بينها وبين أخيها إبراهيم، ويحتدّ عليها بعد مواجهتها برغبتها فى الزواج من خضر، أبت الاعتراف، راوغت، وفجأة انقض عليها إبراهيم، فمضت «تسترخى وتستسلم، معلنة العدم». هكذا جنت رضوانة على الأسرة، وقبلها كانت سنية هى الفردوس الذى نشده سليمان، نهلَ منه قليلاً، ثمّ اكتوى بجحيمه، إلى أن سقط وفقد كل شيء، بعد فضيحتين مدويتين. فكانتا اللعنة التى حلت على آل الناجي. المرأة الحتف خالف سماحة أعراف آل الناجي، فانضم إلى عصابة الفللي، حاول عمّه خضر تقويمه، لكنه شرد، رغب أن يكون مثل جدّ أبيه شمس الدين فتوة، رغم الفارق، تعلّق بمهلبية بنت كودية الزار صباح، «سمراء غامقة السمرة، ضاربة للسواد، ممشوقة القد، واضحة القسمات، مفصلة الأعضاء، باسمة الوجه، فائضة الحيوية، والأنوثة مثل نافورة» (ص: 210). المرأة الوحيدة التى يتتبعها سارد محفوظ بالوصف، ويُدقّق فى تفاصيلها بصورة لافتة، وكأنه يقدمها للمروى لهم باعتبارها المرأة الغواية، فقد أغوت سماحة منذ أن رآها أول مرة فى موسم القرافة بصحبة أمها فوق كارو. وبالمثل تثير المعلم الفللى الذى يريدها، وهو ما يدفع سماحة إلى الإقدام على خطوة الهرب، بعدما شعر بالمأزق الذى نصبه له معلمه الفللى بأن اختاره دون سائر أتباعه، ليكون وسيطه إليها، دبّر بليل خطة الهروب، ولكن وشت الأم بالسر للفللي، وفى اللحظة الحاسمة خرجت عصابة الفللى وقتلوا الهاربة، وكادوا ينالون منه، إلا أنّه هرب، انتهزوا الفرصة واتهموا فى قتلها سماحة، صدر الحكم عليه بالإعدام، عندئذ لا مفرّ إلا بالاختباء، وهذا ما فعله بأن أسقط اسمه وهويته، وتخفّى فى اسم بدر الصعيدى القادم من الصعيد، واستوطن بولاق. كانت مهلبية مثل كرة النار، فهى تحمل عار أمها التى حرفتها «ملعونة» كما قال شيخ الزاوية، وأكد هذا محمد توكل شيخ الحارة، بأن سمعة البنت لا غبار عليها، لكن! وماذا بعد لكن؟ عاد إلى تراث قديم يتصل بسنية هانم السمري، ويمتد إلى فُلة ساقية البوظة فى خمارة درويش الجدة الكبرى، إلى أن يصل إلى زهيرة الناجي، قاتلة الرجال. فى بولاق فكّر فيمن يؤنس وحدته، كانت أمامه فى ذهابه وإيابه، محاسن بائعة الكبدة، سأل عنها، جاءه الجواب: البنت لم تَشُبْها شائبة، ولكن أمها سيئة السمعة، هكذا وصله الخبر، لا تختلف عن مهلبية. سَعِد بزواجه منها الذى حضره الكثيرون، وقد أنفق هو عليه بسخاء، لكن دائما هناك مَن يُكدّر الحياة وينغص العيش الرغيد، كانت أمها، الضريرة التى ما زال يُزيّنها أثر جمال قديم، لكن «وقحة وسليطة اللسان، قدت كلماتها من رصاص». هنأ بزوجته التى وجدته واسع الثراء أكثر مما يظهر عليه، لكن إقامة أمها معهم كَدّر صفو حياتهما، تطارده فى ذهابه وعودته بسهام لسانها الوقح، حتى ابنتها لم تنجُ من شظايا لسانها. منذ زواجهما رضخت محاسن لطلباته فتفرغت للبيت، ولكن لم تكن الزوجة الطيبة المطيعة، كانت جريئة حادّة واثقة من نفسها، تكثر من الاستحمام، ووضع العطور تُبالغ فى البهرجة والزينة، وهو ما أغضب بدر، وما زاد من حدّة غضبه أنها تقف فى النافذة بهذه الزينة، فدبّ الشجار بينهما، لكن ما يلبثا أن يتصافيا، بعد أن ماتت أمها ميتة غريبة بأن سقطت من النافذة، أنجبت محاسن له ثلاثة من الأولاد، الأول رمانة أسمته على اسم أبيها، ثمّ قرّة، وأخيرً وحيد، زاد ثراء بدر، حتى استوى وجيهًا من وجهاء الحارة، ومُحسنًا من رجالها الطيبين. فى المقابل لم تشغل محاسن مهام الأمومة عن عنايتها بنفسها وجمالها، ولعت بالحشيش حتى أدمنته. لكن الحياة لا تصفو لأحد، إلا لتكدره، فاقترب الخطر منه، وخشى أن يُذاع سره بعدما حدث الوفاق بين فتوة حارته القديمة، ومكان إقامته، فقرّر أن يهرب من جديد، ولاذ بالصعيد بعد أن ودّع زوجته وأبناءه، شاع الخبر بأنه سفرته ستطول أعوامًا. لكن السّر القديم طفا على السطح، وجاءت الشرطة تبحث عن المجرم سماحة سليمان الناجى المتهم بقضية قتل، والمحكوم عليه بالإعدام. قامت محاسن بدور الزوج والزوجة، تذهب إلى الدكان، وتراعى الأبناء، وأدخلتهم إلى الكتاب إلى أن يظهر المخبر حلمى عبد الباسط، الذى كان لها بالمرصاد، راح يحوم حولها لا للتجسّس، وإنما لغرض فى نفسه، دائما يثير قضية زوجها أمامها، ويسعى إلى التشكيك فى صدق روايته لها، وعندما جاء خضر وابن أخيه رضوان لزيارتها، استغل حلمى هذه الزيارة، وراح يغريها بترك الأبناء لأعمامهم، وبعد لأى منها، وإلحاح منه، سلمت لهم الأبناء بعد تمنُّع، ثم حصلت على الطلاق من الزوج القاتل الهارب. وبعدها تزوجت من المخبر حلمي. استغلها حلمي، لم ينفق من أمواله إلا فى شهر العسل، ثم أعلنها قاطعة «بأنك غنية وقادرة، وهو فقير، والتعاون مشروع بين الزوجين»، وما بين حكاية قاسية عاشتها مع زوجها، وإنجاب الأطفال له، على الجانب المقابل كان حماسة يعدّ الأيام والليالى فى انتظار مرور السنوات، كى يسقط عنه الحكم، وقرر العودة، لكن المفاجأة بوجود حلمى فى البيت، فدار النقاش بين ثلاثتهم، واحتدم، إلى أن انتهى برمى سماحة حلمى بالجندرة فسقط على الأرض، فظن أنه مات، فهرب، هكذا تكون المرأة للمرأة الثانية فى حياة حماسة سببا للهرب، والاختباء. المرأة العقيمة تربى قرة ورمانة ووحيد أبناء المُطارَد سماحة فى بيت عمهم خضر، وابن عمهم رضوان بكر، ولكن الثلاثة شقوا طريقًا مختلفًا، وحيد الأعور سلك مسلك الفتونة بعدما سُحرت يده، وصار يُلقّب بصاحب الرؤيا، فى حين يلقّبه أنصاره بالأعور، وخالف عرف آل الناجى فى الفتونة، وكان شاذًا، صاحب مغامرات، وكأس، أما رمانة فكان طائشًا أرعن غدر بعزيزة ابنة إسماعيل اللبان، وتركها ودار على أختها رئيفة، ولما انكشف الأمر لأخية قرة، قرّر الزواج من رئيفة، أما قرة فاختار عزيزة ليستر على الفضيحة. رئيفة منذ طفولتها أرادت أن تستأثر بكل شيء، وعندما تزوجت مارست نفس الدور، كانت عزيزة نقيضًا لأختها فى كل شيء، رضيت بزوجها، وقانعة بكل شيء، فوهبها الله الأولاد، فى حين حرم أختها منهم، أضمرت رئيفة الحقد لأختها وزوجها، فأوغرت صدر زوجها ضدهما، وقد وصل الأمر إلى التآمر بقتل قرة، عندما قرّر الانفصال عن أخيه رمانة فى التجارة. عزيزة بنت إسماعيل اللبان، لم تنسَ ما فعله رمانة معها من قبل، ثم مع زوجها قرة، فانتهزت فرصة تحريضه لابنها عزيز على عمّه وحيد، فأفضت بظنونها إلى وحيد الذى أرغى وأزبد، وهدّد رمانة إن خرج من بيته «عرّض نفسه للهلاك» (ص: 312). اعتقد رمانة فى بادئ الأمر أن عزيزًا هو الذى أوقع بينه وبين أخيه وحيد، لكن عزيزة أمه تصدت له، وأخبرته أنها هى الفاعلة، فصبّ عليها غضبه، إلا أنها ألقت ما تكتمه فى وجهه، فصرحت بأنه قاتل قرة، وكان لهذا الاتهام المباشر صداه فى البيت؛ إذْ اشتعلت الدار بالغضب والكراهية على مشهد من الخدم، وبعدها انتقلت وابنها عزيز إلى دار البنان. وتجتمع الأسرة من جديد بعد عودة سماحة بكر الناجي، لكن رمانة عاد إلى منزله، وقد طلق زوجته، وتزوجت هى آخر، وتزوج هو ثانية وثالثة ورابعة، لكن دون جدوى، فلم يكتب لهما الذرية. المرأة الفتوة الحكاية الوحيدة التى عنونها محفوظ بعنوان يحيل إلى امرأة هى الحكاية السادسة من حكايات الحرافيش، جاءت بعنوان «شهد الملكة»، فى إشارة إلى زهيرة الناجى التى احتلت مركزية السّرد فى هذه الحكاية، ودار حولها الرجال إلى حدّ الاقتتال. تنتمى زهيرة إلى أسرة الناجى من ناحية أبيها عاشور، لانحداره من فتحية أم البنات زوجة سليمان الأولى، مات أبوها وكان عاملاً من عمال عزيز قرة الناجي، أحضرها إلى أمه عزيزة لتكون فى خدمتها، خصّتها بمعاملة رقيقة دون الجوارى والخدم، وأرسلتها فترة إلى الكتّاب، وبينما هى فى دار عزيزة زوجة قرّة سماحة الناجي، جاءت أمها تزورها، وفى نفس الوقت تعلن عن قدوم خاطب لها، هو عبد ربه الفرّان. الغريب أن عزيزة هانم تنبهت إلى عدم تكافؤ الزواج، فقالت: «البنت ممتازة، وتستحق مَن هو خير من عبده الفرّان»، وفى مرة لاحقة وصفتها بأنها «رئيفة أخرى» أو «الأفعى». كانت ترى أن جمالها يؤهلّها، ورغم الاعتراضات تمّ تجهيزها للزواج، وقبل رحيلها من البيت جاءت بها أمه عزيزة، كى تودّع سيدها، وليتها ما أحضرتها، فقد أشعلت الحسرة والندم فى صدر ابنها عزيز، الذى لأوّل مرة يرى الجوهرة المكنونة التى دفنها - بإرادتها- فى جناح أمه، بلا وجه حقّ، كانت أخرى غير تلك التى أحضرها من قبل: «قوام رشيق لا يتأتى لراقصة، وصفاء بشرة لا يحظى به بشر، وفتنة عينين مُسْكرة، مخدرة، إنها روح الجمال الفتاك» (ص: 325) كما وصفها الراوى الضمنى ليزيد من حسرة عزيز عليها. الانحراف الذى انتهتْ إليه زهيرة كان سببه زوجها، الذى رفض أن تجلس فى البيت مثل الهوانم، فسرحت بالملبن وبراغيث الست، وبانطلاقها إلى الطريق «اكتشفت ذاتها، تنبهت إلى سحرها وقوتها»، هكذا بجمالها الأخّاذ صارت مطمعًا للرجال، تلتهما الأعين فى الذهاب والإياب، كانت تقابل الغزل والثناء «بالترفع والكبرياء، وتزداد تيهًا وثقة بالنفس»، وذات يوم سألت رئيفة هانم عبد ربه الفرّان وهو يحمل الخبز لها، لماذا تترك زوجتك تسرح فى الطريق، وعندما أخبرها بأنه الرزق، أفصحت له عن حاجتها لخادمة، تؤنس وحدتها، اعترضتْ زهيرة فى البداية لأن رئيفة هانم هى عدوة عزيزة اللدودة، لكن زوجها أقنعها، وبعدها حدث عتاب بين المرأتين عزيزة هانم، وزهيرة، وما لبث أن تلاشت سحب الصيف بينهما. فى بيت رئيفة هانم، رأها محمد أنور ابن زوجها السابق، كان حريصًا على زيارتها وودّها بعد وفاة أبيه، فما إن شاهد زهيرة حتى طار عقله، متعجبًا من وجود مثل هذا الجمال فى الحارة، لكن لم يكن بالرجل الأهوج الذى يتغاضى عن حُرمة البيت. ومع تردّده على بيت رئيفة هانم تعمّد رؤيتها قصدًا أو بدون تدبير منه، وذات يوم أخبرها بأنه يُحبّها، مستغلاً عدم وجود رئيفة هانم فى البيت، رفعتها كلماته إلى عالم آخر، بل كانت بمثابة النار التى حركت السواكن فى داخلها، فتمردت على حالتها، وأخذت تخلتق أسباب الشقاق مع زوجها، فتعمدت المبيت خارج البيت، وهو ما جعل عبد ربه الفرّان يهيج عليها، خاصة وقد عرف أن الهانم لم تكن مريضة مرضًا شديدًا يستلزم مبيتها، وفى سورة غضبه سبّ الدار وصاحبتها، ولطمها لطمة على وجهها، اتخذتها زهيرة ذريعة لتهجر الدار وتعود إلى دار رئيفة هانم، بل وتمادت فى طلباتها، بالطلاق من هذا الرجل. زاد تحريض ندماء الخمّارة، والفتوة له بطلاقها، إلا أن عبد ربه كان متيمًا بها، وحاول محاولات كثيرة استدرار عطفها، واستردادها، حتى وُصف بالمجنون لأفعاله التى أغضبت الست رئيفة وأهل الحارة، ومع صدود زهيرة ورفضها العودة إليه، فطنت الست رئيفة إلى حيلة تضع حدًّا لمضايقاته. استدعاه نوح الغراب فتوة الحارة إلى مجلسه فى المقهى، وطلب منه أن يطلقها، وتحت الضغط وقع الطلاق المكره. هنّأ محمد أنور زهيرة بالحرية والكرامة، وحرّضها على الهرب معه، بحجة أن الهانم لن توافق على زواجهما، رضخت زهيرة، وبالفعل تمّ الزواج بينهما، وهو ما أغضب رئيفة هانم ووصفتها ب «الخيانة والخبث»، انتقلت زهيرة بهذه الزيجة من خادمة تعيش فى بدروم، إلى ستّ بيتٍ «تملك شقة متعدّدة الغرف، ثمينة الأثاث، فيها الحمام والمطبخ، ... وملكت أيضًا الفساتين والملاءات القريشة وعرائس البراقع الذهبية...» (ص: 345). فى بيت محمد أنور بدأ طور جديد فى حياة زهيرة؛ فلأول مرة امرأة من آل الناجى تصعد إلى الطبقة المخملية وتتربع على عرش الهوانم، من قبل كان الرجال يصلون إلى طبقة الجاه بواسطة النساء الهوانم، فكانت سنية السمري، وعزيزة البنان وألفت الدهشوري، معبرًا لرجال الناجى للجاه والعز، مع زهيرة اختلف الأمر، صعدت المرأة، زامن صعودها ضياع الفتونة من آل الناجي، وهو ما طمحت إليه زهيرة من جملة طموحاتها، بأن تكون الزعامة والفتونة امرأة فرددت بينها وبين نفسها: «أنا العقل، أنا الإرادة، أنا الجمال، أنا الفوز». صعود زهيرة إلى عالم الهوانم، لم يكن مجرد صعود بالاسم عن طريق الزواج بمحمد أنور، وإنما أكدته بتوطيد علاقتها بعزيزة هانم، فأكرمتها وعاملتها معاملة الهوانم، ثم بصراعها مع رئيفة هانم عندما قابلتها، ونادتها بالخادمة، لكن بذرة التمرد التى فى داخلها، أخذت تكبُر وتكبُر، وراحت تتحدى زوجها عندما طالبها بالمكوث فى البيت، فدّب الخلاف بينهما، واشتكته إلى عزيز سماحة الناجي، ومع هذا فشفاعة عزيز لم تحقّق لها ما صبت إليه نفسها. استكانت قليلاً خاصّة بعد ولادتها لابنها الثانى راضى من محمد أنور بعد جلال ابن عبد ربه الفرّان. وبينما هى تفكر فى حالها، فإذا بعزيز ابن سماحة يخايلها، لكن صوت العقل يقول لها «إنه متزوج»، إلا أن إعجابه بها جعلها تعيد التفكير من جديد، وفى تلك الأثناء أخذ زوجها يتودد إليها ويلاطفها، فكتبَ البيت باسمها، معتقدًا أنه يدخل السرور على قلبها. ولم يكن يدرى أن كل ما يفعله غير مجدٍ، فقد كتب القدر كلمته، وأمره نوح الغراب بأن يطلّق زوجته، وهو ما لم يقبله محمد أنور، فاستعان بمأمور القسم فؤاد عبد التواب كى يحميه من نوح الغراب، وبالفعل يستدعيه المأمور فى القسم ويحذره من أى أذى يلحق بمحمد أنور، وبينما يسعى المأمور لاستتباب الأمن فى الحارة، لمحها، وبدأ فيما بعد يلاحقها بنظرات «حادة جامحة جائعة»، وهو ما جعلها تتراقص طربًا، وقالت فى نفسها «حتى المأمور». صارت محور الحارة وموضع مركز اهتمام رجالها، وإذا بالمأمور يطلب من محمد أنور أن يطلقها، لكن يخرج من عند المأمور مصممًا على الهرب بزوجته، فتأبى الزوجة، يعلو الصوت الداخلى «كيف تبدد أحلامها بضربة واحدة»، تُعاند، يشتّد الخلاف، يحتدم، يضربها، تصرخ، فيأتى على سماع صراخها رجالُ الحارة وعلى رأسهم نوح الغراب، فيهرب محمد أنور دون أن يطلقها، وبعدها تتزوج من الفتوة نوح الغراب، وفى يوم الفرح يُقتل نوح، وهكذا كانت شؤمًا على كل مَن ارتبطتْ بهم، بدءًا من عبد ربه الفرّان، وصولاً إلى نوح الغراب، والمأمور الذى نُقل من موقعه، وما زالتْ فى طريقها إلى المجد والصعود، ولن يتحقّق لها هذا إلا بالاقتران بعزيز سماحة الناجي، وهو ما حققته ونجحت فيه، لكن لم تهنأ قطّ، قاطعتها عزيزة أمه، وعاشت مع زوجته ألفت الدهشورى وأبنائه فى كَدَرٍ أبدي، ها هى تجنى مسيرة الرحلة الطويلة «الدار والثروة والجاه وسيد الوجهاء»، لم تُبالِ بمقاطعة عزيزة هانم، ولا حزن ألفت، فهى تعيش الحلم فى «أبهته وكماله»، كانت ترى أنها سيدة الكبرياء وهى أحقُّ الناس بما «وهبها الله من جمال وذكاء»، كما آمنت «بأنها فتوة فى إهاب امرأة، وأن الحياة المقدسة لا تمتثل إلا للأقوياء». عاشت كملكة حقيقية، تتوسط الدو كار عند الأصيل «تومض عيناها الساحرتان من وراء الياشمك، والناس يتطلعون إليها فى إعجاب وحقد وذهول»، و«تسرُّ بتجمهر الشحاذين حولها، وتهب العطايا والصدقات»، أما الحب فهى ليست «امرأة ضعيفة» مثل غيرها من النساء. وقد كان لهذا الجمال وهذه القوة أن يخمدا، فظهرا محمد أنور ذات يوم، وضربها على رأسها بعصا غليظة «ولم يبق من وجه البهاء والجمال إلا عظام محطمّة غارقة فى بركة من الدم». المرأة اللعنة مثّل موت زهيرة الناجى بهذه البشاعة أمام جلال ابنها، كابوسًا ظل «يعذبه فى يقظته ويكدّر أحلامه»، تضاعف هذا الكابوس بعد وفاة قمر الابنة الصغرى لألفت الدهشورى وعزيز قرة الناجي، هام بها، فطلبها لنفسه، لكن رفضته ألفت هانم فى البداية، لأنه ابن زهيرة، فانطوت قمر على نفسها كالمتوعكة، تجاهلت الأم رغبة ابنتها بعناد وحشي، وإصرارًا فى العناد رحبت بخاطب من آل الدهشوري، فإذا بالبنت ترفض، مرضت بعدها عزيزة أم زوجها، وقبل رحيلها أوصتها «لا تعذبى حفيدة قرة»، وبعد مضى أشهر الحداد، تراجعت عن فتورها وقبلت به زوجًا لابنتها، ونعتته بالابن الطيب، وقبل الزواج مرضت مرضًا أودى بحياتها، فتجسد له الموت عدوًا «يتحرك وسوف ينازله»، وصلت ذروته إلى تحديه، بالبحث عن سرّ الخلود. موت زهيرة كان له تأثيره الإيجابى على عبد ربه الفرّان، فقد تبدّلتْ حياته بسبب الثروة التى ورثها ابنهما جلال، فانتقل من البدروم إلى شقة، وابتاع الفرن وإن كتبها باسم ابنه، وارتدى الجلباب الأبيض والعباءة الملونة، هكذا تمتّع بجاه زهيرة بعد موتها. وعلى عكس أبيه عانى جلال من سيرة أمه (فى تكرار لجدّ أبيه شمس الدين) كان يُعيّر باسمها، ابن زهيرة، ويرجمونه أصدقاءه فى الحارة بسيرتها المجهولة له: الغادرة، الخائنة، المزواجة، المتكبرة، القاسية وغيرها... هكذا صارت عقبة فى طريقه، مثلما كانت فُلّة عقبة لابنها شمس الدين، رغم أنها هى التى كانت المؤسسة لآل الناجى بسيرتها التى طاردته انقلب :»غلامًا مخيفًا، وعرف بالشيطنة» (ص: 385) أثّر موت قمر على جلال تأثيرًا كبيرًا، فتخلّى عن عمله، لوكيله، وأخد يتمشى فى الحارة وفى الحي، يجلس على القهوة وحده يدخن البوري، الغريب أن ألم الموت، صار هو الطريق لإعادة الفتوة من جديد لآل الناجى بعدما ذهبت إلى نوح الغراب ومن بعده سمكة العلاج، جاءته الفتوة دون انتظار، كان يعدّ نفسه للوجاهة، راح يتحرك «بإلهام القوة والخلود»، تحدى فتوات الحارات ليستثمر فائض قوته، فدانَ له الأصدقاء والأعداء معًا. فى ظل هذه النشوة الجديدة اكتنفه الفراغ وراح يسأل أسئلة وجودية مبعثها أزمته مع الموت: ما مغزى القوة، ما معنى الموت؟ لماذا يوجد المستحيل؟ هكذا وضع نفسه فى دائرة تحدٍ جديدة، بعدما استتاب له أمر الفتونة والقوة. كان غارقًا فى تساؤلاته بينما الناس (الحرافيش)، يتساءلون: متى يتحقق العدل؟ وفى ظل حالة اللامبالاة التى كان عليها، يئس الناس، بينما هو وقع أسيرًا لعشق المال والتملك «فشارك أخاه راضى فى محل الغلال، كما شارك الخشاب والبنان والعطار وغيرهم»، صار نهمًا لا يشبع دون اكتراث لحال الحرافيش ولا عهد الناجي. حالة النهم لم تكن إلا ازدرًا لهمومهم واستهانة بمشكلاتهم. العجيب أنه زهد فى الحياة، ولم يشرب الخمر ولم يدخن نفسًا، ولا لامس امرأة. وهو فى هذه الحالة راقت له زينات الشقراء وهى بنت من بنات الهوى، وجد السلوى عندها على ما ألّم به من أحزان، فصارت خليلته، دفعه شبابها إلى البحث عن سرّ استرداد الشباب عند العطارين، فوجده عند عبد الخالق العطار، توثقت أواصر العلاقة بينهما، أعاد إليه شبابه وقوته، لم يقنع بعد، أراد الخلود، دلّه عبد الخالق العطار على شاور «ذلك الشيخ المجهول الذى يدعى قراءة المستقبل». استسلم لكل طلباته، اعتكف واعتزل الناس، وأوقف كبرى عماراته لحواء الجارية الحبشية، وبنى مئذنة صارت إحدى الغرائب فى المكان، ولصقت باسمه لاحقًا، فصار يُعرف بجلال صاحب المئذنة، لكن ما نشده لم يتحقق. حدث التغيير الذى لم تنتظره زينات، فقد خرج من عزلته مخلوقًا آخر «مخلوق يبهر بالقوة والجمال» صار يستجيب قلبه لكل غانية غازلته مستعينًا بالسرية والستر، والأهم أنه تحرّر من سطوة زينات، فلم تعد إلا «وردة جميلة فى حديقة ملأى بالورود» بعدما كانت هى الشجرة الباسقة، تناثرت حولها مغامراته «فاشتعل بجوانحها جنون الغيرة والخسران»، اعترضتْ، لكنه تمادى، ولم يكن أمامها سوى الحيلة لتوقف جنوحه، وقد رأت ذبولها فى مقابل ازدهاره «احتقن قلبها بالحب والتعاسة»، فسقته «السم»، سخر منها فى البداية، فحسب قوله «جلال لا يموت»، تحدته بقولها: «الموت يطلّ من عينيك الجميلتين»، زاد فى تحديها «الموت مات يا جاهلة»، «جلال يتألم لكن لا يموت» وبين المراوغة والإنكار كان زُعاف السّم يسرى فى الجسم القوي، ويتغلغل، وهو غير مصدق، لكنها المرأة الحيّة، المرأة التى انتقمت لزهيرة، وزينب وفتحية وكل النساء اللاتى غدر بهن رجال الناجي، ثأرت لكرامة الأنثى التى تمرغت بنزوات الرجال. الغريب أن ابنها جلال عبد الله بعد وفاتها انقلب ضدها تمامًا، فبعدما أظهر لها حبًّا وولاءً نادرين، لدرجة أنه انتحب فى الجنازة مما أثار استغراب الحاضرين، بعد الجنازة انقلب حالة، وراح يقول دون خجل «كانت أمى ذات صفات كريهة، وسمعة سيئة ونوايا خبيثة»، بل فى غمرة انقلابه أباح بما تهامس به الناس، بأنها مسؤولة عن قتل أبيه، ووصفها بأنها «كانت عربيدة مدمنة للمخدرات»، ومن أثر الصحوة التى صار عليها تغيّر، وهجر كل ما كان يفعله من قبل «كفّ عن الصلاة، هجر الزاوية، ماج بانفعالات عنيفة»، ارتاد الخمارة، وشاعت سيرته، فقالوا مجنون ابن مجنون، وغدا رجلَ الانحلال والفضائح بعدما ارتاد مسكن دلال الغانية. لم يكن تأثير لعنة زينات هو السبب الوحيد، وإنما امتدّ إليه تأثير زهيرة أيضًا، فبحث عن شبهية لها، فوجدها عند دلال الغانية. تأثير المرأتين تجاوز جلال عبد الله، ابن صاحب المئذنة إلى زوجته عفيفة، فتقوّضت دُنياها، وتبخّرت سعادتها، واعتقدت أن عملاً عُمل لزوجها، فطافت أضرحة الأولياء، وقرّاء الغيب، واستمعت إلى كل النصائح، بلا أمل، فقد «توغل فى ضلاله بلا هوادة، وأهمل عمله، وواظب على السكر والعربدة»، كما استباح كرامته فى مغازلة البنات. المرأة التى رفعت آل الناجى إلى مصاف العز والجاه، هى نفسها التى أودت به جثة عفنة «ملقاة بين العلف والروث»، كان ما حلّ به وفق ما ردّد الناس هو «الجزاء العادل لمن يخون عهد الناجى العظيم»، لكن لم يدروا أنها لعنة النساء التى لحقت بآل الناجي، فأسقطتهم ما بين قعيد (سليمان)، ومطارَد (سماحة)، وهارب (بكر)، وقاتل (رمانة) ومجنون صاحب المئذنة (جلال). سقطت الفتوة، ولم تسلم الحارة من غارات فتوات الحارات الأخرى، أما زينات الشقراء (الداعرة)، فعاشت مرعوبة تخشى أنْ يُفضح السّر، ومَن ساوره الشك تغاضى عن ظنونه حامدًا لها فعلها. عاشتْ فى الأخير «وحيدة زاهدة بلا قلب ولا راحة»، لكنها تركتْ بذرة خلفها أسمتها جلال، مجهول النسب، يُشار إليه باعتباره ابن حرام. هكذا كرّرت النساء دورتها فى العار، فكما لاحق العار شمس الدين باعتباره ابن «بائعة البوظة»، وجلال «ابن زهيرة» السفاحة قاتلة الرجال، صار الأخير جلال «ابن حرام»، ومع الأيام صار ابن جلال صاحب المئذنة، وحفيد زهيرة. ولاحقًا بعدما عرف دلال الغانية صار يعرف باسم «رجل الانحلال والفضائح»، وهو ما قاد ابنه شمس الدين (الثاني) إلى قتله بعد استمرائه فى أفعاله المشينة وآخرها بأن رقص شبه عارٍ فى الخمارة، فحمله إلى البيت، احتدّ بينهما الشجار، أراد الأب قتل عفيفة زوجته، ضربه الابن الذى كان تربطه بأمه علاقة حميمة، لدرجة أنه استنكر زواجها منه، فكانت الضربة القاضية، وعندها رحل شمس الدين. لعنة زينات الشقراء، ومن قبلها لعنة زهيرة الناجى حلّت على جلال عبد الله، وقضُى على العائلة. فكرّر سيرة جده الأكبر عاشور عندما تزوج بفُلّة ساقية البوظة، وجدّ أبيه سماحة عندما أراد الارتباط بقمر ابنة صباح كودية الزار، ثم أبيه بزواجه من زينات الشقراء، ورفض اقتراح أمه بالزواج من صادقة ابنة بائع الفول، وخطب لنفسه الراقصة نور الصباح العجمي، مجهولة الأصل، المتهتكة، وعندما عارضت أمه، بأنها ابنة زانية، قال: «مثل جدتى زينات». ثم تأتى كريمة هانم العنانى المرأة المتصابية التى أغرت سماحة ابن شمس الدين حفيد جلال صاحب المئذنة، ويهرب سماحة مكررًا سيرة أبناء العائلة فى الهرب والاختفاء منذ أن اختفى الجد الأكبر عاشور، ثم خضر، وبعده بكر، وصولاً إلى قرة بالموت. ها هو سماحة الحفيد يهرب بالميراث مع كريمة العناني. الأخير عاد وقد شابه التغير، وتمادى فى معاندة أبيه، وتبديد ماله، وانتهى الحال به إلى طرده من البيت، فساءت علاقته بنور الصباح، وواجها بالحقيقة المرة، بأنها ينضح من أصلها القذر، فطلقها، وتزوج من سنبلة بنت سمعة الكلابشى الفتوة، لكن الأخير طمع فى ماله، وأراد أن يكتب أملاكه إلى ابنته، فعادت الأشباح تطارد شمس الدين، وأعلنها مجلجلة «كلا»، فنشبت معركة بالنبابيت، تغلّب فيها شمس الدين لقوته وشبابه على سمعة، بمساعدة ابنه الطامح فى الفتونة، وأعادها من جديد إلى آل الناجى مثلما أعادها سماحة الجد من قبل. المرأة الحاضنة والملهمة تجتمع صفات المرأة الحاضنة فى كل من فردوس حفيدة جلال صاحب المئذنة، وزهيرة الناجي، التى أُعجب بها سماحة ذو الوجه القبيح، قبلوا به مع قبحه، لأنه لا أحد يرفض فتوة، كانت ذكية بقدر ما هى حسنة الحظ، أحبت زوجها، ومضت تنجب له ذرية من «خَلْقِ الحب ودفئه»، كما إنها عملت على تهذيب زوجها وامتلاكه بتسلل «عذب لا تحدى فيه ولا كبرياء». فتح الباب ابن سنبلة من شمس الدين (الثاني) ابن جلال صاحب المئذنة، وقد تزوجت أمه بكاتب فى بنك الرهونات، إلا أنه لم يلقَ ترحيبًا منه، فلاذ بأمه، وضاقت به بسبب وحدته وصمته، فأرسلته إلى أخيه سماحة من أبيه، لكنه هو الآخر رآه «جميلاً رقيقًا حزينًا»، لم يرّقْ له قلبه، فقال لها احتفظى به، وعندما أخذه إلى أمه نور الصباح، تذرعت بأن «لا طاقة لها لتربية الأطفال»، وإن كانت الحقيقة أبت تربية ابن ضرتها سنبلة، وبعد أن احتار سماحة فى أين يذهب به، هنالك تطوعت عجوز من صديقات نور الصباح اسمها سحر الداية، وقد تهيأت الظروف لسحر كى تحتضن الغلام الجديد، فى تكرارية لما حدث مع سكينة زوجة عفرة زيدان، عندما احتضنت الطفل اللقيط، عاشور، فسحر كانت «أرملة، بلا ذرية... وطيبة القلب»، لاقى عندها فتح الباب «حياة دافئة خالية من الكدر»، فتعلّق قلبه بها، أحبها وقدسها، كما تلقى منها أنوارًا لم تخطر على باله، كانت تهيئه بحديثها عن عاشور الأول، وقصته، وعودته، ومقامه فى دار البنّان، ثم فتونته، إلى اختفائه، كانت بمثابة المرأة الحاضنة والمهيئة له ليكون خليفته، ويستعيد سيرته، وبطولاته فى تحقيق العدل، ومن حكاياتها عن جده لعن مَن يقول عن جده بأنه «لقيط». كانت حريصه على تعليمه، فأرسلته إلى الكتاب، ثم فى فترة لاحقة اختارت له مهنة، وحثته على البر بأمه سنية، وزوجة أبيه نور الصباح، فكان يزورهما، ومضى بالعمل يتشبه بالرجال، فربى شاربه، وطوّق اللاثة، ويجلس على المقهى يشرب الشيشة. ما غرسته سحر أتى ثماره فى الشوطة الثانية، فقد عمّ البلاء بالمجاعة التى رافقت الجفاف، فارتفعت الأسعار، وتصارع الناس حول الطعام، بينما مخازن سماحة ملأى بالمؤن والقمح، كان حماسة وحش لا يعرف الرحمة، ولم يأبه بما يتعرض له الناس من فقر وجوع وموت، فى حين كان فتح الباب رحيمًا، يتألم لما يراه من أحوال الناس، ويحزن بعجزه عن فعل شيء، وكل مخازن حماسة تحت يديه، كشّر الجوع عن أنيابه، وأخذ الناس يأكلون «الخيل والحمير والكلاب والقطط»، وتمادت مبالاة حماسة، بأن أقام عرسًا لابنته إحسان التى زُفت لابن صاحب وكالة الخشب، فأسرف، أيما إسراف، وكأنه يتحدى الزمن والجوع. وأخذت ألسنة الناس تلهث من الجوع، وفى لحظة غير مرتبة اندفعت جموع الناس على الموائد، وعمّ الشجار والتلاحم، وامتزج الدم بالمرق، ولكن كان لسماحة رأى آخر، إذْ شنّ حملة تأديب وإرهاب، لم يسلم منها أحد من الحارة. وتفشّى الذعر بين الناس، وخلت الدكاكين من أصحابها، والطرقات من المارة، حتى الزاوية لم يقصدها عابد. هكذا اُبتليت الحارة ببلاء لا يقلُّ عن الشوطة الأولى التى قضت على الحارة وهيئت ظهور عاشور الأول، لكن فى هذه المحنة لم يرجع عاشور الناجى (الأول) كما كان يتوقع فتح الباب، وكان لا بدّ من استحضاره أو أن يتمثله هو بنفسه، فمرقت فى الظلام ذرة نور، وأخذ يوزّع على الناس سرًا صُررًا من المؤن، ويعقبها همسًا «من عاشور الناجي»، تكررت النفحات، فقال الناس إن معجزة تتخلق فى الظلام دبت فى عروقهم حياة جديدة «صرة الرحمة، وهمسة عاشور الناجي». فشاع بين الناس عودة عاشور الناجي، وبينما صرة الرحمة تجد طريقها إلى المحتاج، كانت هناك عين تعمل بلا هوادة تبحث عن سرّ الطعام فكَمِن ذات يوم فى الظلام الدامس فى المخزن، وأمسك بفتح الباب، وعلّقه من قدميه. وكان العقاب الذى تلقاه فتح الباب بمثابة الشرارة التى اشتعلت فى صدور الحرافيش، ونظموا أنفسهم فى مجموعات وانقضوا على المخازن، ومجموعة منهم قيدوا رجال حماسة، سيطروا على الحارة تمامًا ثم أسقطوا سطوة حماسة باقتحام بيته ومطاردته، ونادوا بفتح الباب فتوة جديدة عليهم، دون استئذان منه. وتطلّع الناس إلى العدل، ونشدوا إحياء سيرة عاشور الناجي، لكن زمن عاشور ولّى بلا رجعة، فمعاونو فتح الباب تباطؤا على الناس، ورفض حميدة ودنقلة ما يريده فتح الباب، بل استنكروا أن «يسود الحرافيش، ويستذل الوجهاء»، ورغم سخريتهم من رغبة فتح الباب، حاولوا تهدئة الموقف بعدما أعلن تنحّيه عن الفتونة. وأبى فتح الباب أن يستجيب لتهديداتهم المُبطّنة، وحذرته سحر بأنهم سيقتلوه، فانزوى فتح الباب دون أن يعلم أحد ما سرّ انزوائه. وقد تحقّقت نبوءة سحر فذات صباح وجدوا جثته مهشمة أسفل المئذنة المجنونة. ربيع سماحة الناجي، ابن فردوس من سماحة شمس الدين (الثاني)، لم يبق إلا هو من ذرية الناجي، نشأ وحيدًا طارده العار القديم والجديد، فرفض زواجه من أسرة كريمة، وبعد وفاة أمه فردوس وقد ناهز الخمسين، عندئذ فكر بالزواج فوجد فتاة اسمها «حليمة البركة» كانت سيدة بيت حازمة، ورعة متدينة، أنجب منها ثلاثة أبناء: فائز وضياء وعاشور. وبعد وفاة ربيع وقد ترك أبناءه صغارًا، وجدت حليمة نفسها وحيدة، فخرجت تعتمد على نفسها، استغلت مواهبها فى بيع المخلل والخدمة كبلانة ودلالة. رعت أبناءها وأدخلتهم الكتاب. فائز البكرى هو أوّل من واجه الحياة، وجدها تعاديه، فالماضى يقف حجر عثرة، فأعلن سخطه، رافضًا زمن المعجزات. كانت حليمة مسالمة حتى عندما أهانها حسونة ولطمها، وقد عرف ابنها عاشور الراعي، واشتاط غضبًا، هدأته، وطمأنته بأن ما جرى لها لا يُعدّ إهانة فى محيط الحارة. عندما عاد فائز الذى اتهمّ بسرقة عربة الكارو الفتوة حسونة السبع، وقد تغيّر وصار من الأغنياء، تبدلت حياة حليمة فصارت ستّ بيتٍ، واستقال عاشور من رعى الأغنام وكذلك ضياء من محل النحاس. وشرع فائز فى بناء بيت للعائلة. وكان لانتحار فائز بعد حياة الرغد أثره على حليمة، التى اعتزلت فى جناحها «تجر الأحزان، وتتعزى بالعبادة». عار فائز الذى كان يعمل فى الدعارة والمخدرات واستدراج الرجال وقتلهم. وبعد أزمة العار التى لاحقتهم عادت تسرح بالمفتقة والمخلل حتى عاد ضياء بعد أن تركهم وقد لطخ العار والخزى الجميع، وقد تبدل حاله، وصار من الأغنياء، إلا أن عاشور صدّه ورفض ماله، فقد كان يطارد عاشور حلمًا أصغى له حتى حققه بالنبوت فى النهاية، وعاد إلى الحارة فتوة، أعاد سيرة عاشور الناجي، ونشر العدل بين الناس، وفرض الإتاوات على الأغنياء فهربوا إلى حارات أخرى، والأهم أنه أقدم على أهم شيء، وهو هدم المئذنة المجنونة. يبقى الشيء الوحيد فى مسيرة عاشور ربيع بن سماحة الناجي، هو الانتصار على نفسه، وهو «أعظم نصر» تمّ له، وهو ما أسقط جميع أبناء عاشور المؤسس، فجميعهم خضعوا لهوى النفس، ما بين جاه، وسلطة وجمال، فسقطوا جميعًا، أما عاشور الأخير «فانتصب بينهم (أى الحرافيش) مثل البناء الشامخ، توحى نظرة عينيه بالبناء لا بالهدم والتخريب» (558)، فقد أقر مذهبه الذى هو امتداد لعهد عاشور الأول «العدل خير دواء».