مساجد شمال سيناء تتحدث عن منزلة التاجر الصدوق    19 أبريل 2024.. نشرة أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة    تعديلات على قانون المالية من نواب الحزب الديمقراطي    19 أبريل 2024.. تعرف على أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة    ب500 ألف جنيه كاش.. مدينة طور سيناء تطرح وحدات سكنية تمليك    إنطلاق موسم حصاد القمح في الشرقية وسط فرحة المزارعين    تطورات التصعيد العسكري في غزة واتساع الصراع يتصدر نشاط الرئيس السيسي الأسبوعي    صحيفة إسرائيلية: الهجوم على إيران نفذ بصواريخ أطلقت من طائرة    إصابة جنديين إسرائيليين بجروح جراء اشتباكات مع فلسطينيين في طولكرم بالضفة الغربية    مراسلة «القاهرة الإخبارية» بالقدس: الضربة الإسرائيلية لإيران حملت رسائل سياسية    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    رقم سلبي يطارد كلوب بعد خروج ليفربول من الدوري الأوروبي    إصابة 20 عاملا في حادث انقلاب سيارة بطريق الصعيد بالمنيا    "التعليم": "مشروع رأس المال" بمدارس التعليم الفني يستهدف إكساب الطلاب الجدارات المطلوبة بسوق العمل    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء فتاة حياتها بحبة الغلة في أوسيم    إيرادات قوية ل فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة (مفاجأة)    مخرج «العتاولة» عن مصطفي أبوسريع :«كوميديان مهم والناس بتغني المال الحلال من أول رمضان»    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    الدولة ستفي بوعدها.. متحدث الحكومة يكشف موعد الانتهاء من تخفيف أحمال الكهرباء    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    جدول مباريات اليوم.. ظهور مرموش.. افتتاح دوري "BAL" السلة.. ولقاء في الدوري المصري    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    «النواب» يبدأ أولى جلساته العامة بالعاصمة الإدارية الأحد بمناقشة «التأمين الموحد»    مطارات دبى تطالب المسافرين بعدم الحضور إلا حال تأكيد رحلاتهم    بسبب ال«VAR»| الأهلي يخاطب «كاف» قبل مواجهة مازيمبي    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    الدولار على موعد مع التراجع    أمريكا تعرب مجددا عن قلقها إزاء هجوم إسرائيلي محتمل على رفح    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    أحمد شوبير يوجه رسالة غامضة عبر فيسبوك.. ما هي    مانشيني يكرم فقيد الكرة الإيطالية    أحمد كريمة: مفيش حاجة اسمها دار إسلام وكفر.. البشرية جمعاء تأمن بأمن الله    مخرج «العتاولة»: الجزء الثاني من المسلسل سيكون أقوى بكتير    شريحة منع الحمل: الوسيلة الفعالة للتنظيم الأسري وصحة المرأة    سوزان نجم الدين تتصدر تريند إكس بعد ظهورها مع «مساء dmc»    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    مسؤول أمريكي: إسرائيل شنت ضربات جوية داخل إيران | فيديو    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    #شاطئ_غزة يتصدر على (اكس) .. ومغردون: فرحة فلسطينية بدير البلح وحسرة صهيونية في "زيكيم"    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    بسبب معاكسة شقيقته.. المشدد 10 سنوات لمتهم شرع في قتل آخر بالمرج    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرافيش و اللص الشريف والفتوة الجبار والفاتنة اللعوب والتقى الورع ..«ملحمة» نجيب محفوظ ظاهرها الإنسان .. وباطنها الفلسفة والحكمة والخرافة

«إذا كانت الثلاثية هى التاج الذى وضعه نجيب محفوظ على إنتاجه الأدبى بأكمله فاننى أرى أن ملحمة «الحرافيش» هى درة هذا التاج وأحسبها أروع ما كتب نجيب محفوظ لما تشمل عليه من رموز ثرية لا تسقط بالتقادم مهما مر الزمن.
..........................................................................
لقد ابتدع نجيب محفوظ أديب نوبل من خلال رواياته وقصصه القصيرة، من وحى خياله شخصيات خالدة، لها بصمات واضحة وملامح لا تنمحى بل تزداد جلاء مع الأيام كلما مر الزمن وزاد عدد القراء لها، لأن أكثر هذه الأبطال شخصيات واقعية، قد نصادف مثلها فى حياتنا، أو فى تاريخنا، أو تراثنا الإنسانى العامر، وبعضها فضلا عن واقعيتها فى جانب منها، إلا أنها تحتفظ فى جانب آخر منها بقيمة إضافية، وهى قيمة الرمز وثراء الدلالة، وكثافة الرؤى، فهى ليست شخصيات مسطحة وليست أحادية البعد، بل شخصيات عميقة التأثير، متعددة الأوجه والدلالات، وكأنها قطعة من الكريستال أو الألماس النقية كلما قلبتها على وجه أشعت أضواء وأنوارا ذات ألوان وأطياف مختلفة، وبثت إلهامات وإيحاءات متباينة، وتأتى فى الوقت نفسه عصية على الإمساك بها أو تحديد أطرها أو قصرها على رؤية محدودة أو نظرة محددة دون غيرها.
تلك الشخصيات تجدها فى كل عصر وفى كل مكان، بصور مختلفة، قد تختلف فى ملابسها أو تختلف فى وظائفها، أو فى أوضاعها الطبقية أو الاجتماعية، أو فى ملامحها الشكلية أو مكوناتها الخارجية الظاهرية ولكنها متفقة من حيث الرمز المشترك الذى يكتنفها، ومن حيث الملامح الجوهرية، ومن حيث المضمون الدلالي.
ومن خلال هذا الطرح سوف نلقى الضوء على بعض هذه الشخصيات لاستجلاء حقيقتها وقيمها الرمزية، التى تدور حول الانسان فى ظاهرها، بينما تخفى فى باطنها الفلسفة والحكمة والخرافة والرمز، وفى كل رواية لنجيب نجد شخصية أو أكثر تتمتع بصفات فريدة تجعل من هذه الشخصية علامة بارزة ونموذجا، لابد أن يتوقف أمامه القارئ بالتأمل ومزيد من التحليل، وإذا انتهى من الرواية، وأغلقها، تتفتح فى وعيه وتفكيره نوافذ تطل عليه منها هذه الشخصيات لتسائله ويسائلها، وتحاوره ويحاورها، وتراوده ويراودها، فبعضها جذابة مغرية، وبعضها شخصيات فظيعة صادمة، وبعضها شخصيات جميلة حالمة، وبعضها يكتنفها الخير وظاهرها الشر، وبعضها فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب، ومنها الخير الصرف، ومنها الشر البحت، ومنها ما يحيرك فتظل تراوح بين هذا وذاك حتى يلتبس عليك الأمر، وبعضها شخصيات مراوغة ملاوعة لا تستطيع أن تستقر معها على انطباع معين،لأنها حافلة بكل المتناقضات .
فى ملحمة الحرافيش الرائعة تجتمع كثير من هذه النماذج لشخصيات مختلفة منها :
فتوة الحارة
شخصيات فتوات الحارة، رجال قساة عتاة جباة جبابرة يرمز بهم للحاكم المستبد فى كل زمان ومكان، الذى لا يهمه ولا يهم أفراد عصابته وحاشيته من التجار والأثرياء والأعيان وأصحاب المصالح النفعية إلا الحصول على الأموال والإتاوات من دماء وعرق «سكان الحارة» بشتى الطرق .
الحرافيش
الحرافيش عند محفوظ هم أولئك الضعفاء الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة، فيرمز بهم إلى عامة الشعوب المستكينة المستضعفة المغلوبة على أمرها، التى لا حيلة لها سوى الإذعان والاستكانة والتسليم للفتوات باستباحة كل شيء، المال والكرامة والعرض، والدم أحيانا دون مقاومة خوفا من بطشهم الذى جربوه وعاينوه، فرادى وجماعات فمن يتحدَّ أمرا للفتوة أويمتعض على زيادة الإتاوة يكن مصيره الضرب والإهانة والإذلال على عيون الأشهاد، وقد يطرد من الحارة ويصبح طريدا شريدا بلا مأوى ولا ملاذ، أما من يجرؤ على الاعتراض فيكون مصيره أن يعثر على جثته فى إحدى الطرقات المظلمة مطعونا مغدورا، ثم تقيد ضد مجهول رغم أن القاتل معلوم للكافة.
فالحرافيش هم العمال الشغيلة الذين يعملون ويشقون ويكدحون، من أجل لقمة العيش التى ينتزعها من بين أيديهم الفتوات من جانب على شكل إتاوات لا تبقى لهم ما يقيم أودهم، أو على شكل أسعار مسعورة يحددها التجار ويتحكمون فيها برعاية وحماية الفتوة ورجاله نظير هدايا وامتيازات وعمولات وسمسرة، يتفق عليها الجميع ويستفيد منها الجميع بشكل مطرد، بينما تلهب سياطها ظهور الحرافيش الذين يرزحون بين مطرقة الفتوة ورجاله، وسندان تجار الأقوات التى لا غنى عنها وبدونها يموتون جوعا .
شيخ الحارة
للوهلة الأولى قد يظنه القارئ شيخ المسجد أو الزاوية، ولكن الحقيقة أن صاحب هذا اللقب أو الوظيفة هو موظف حكومى فى وزارة الداخلية، وهو ممثل الحكومة وعينها على سكان الحارة، ووظيفته الإبلاغ عن أى جريمة تحدث فى الحارة، والحفاظ على النظام بها، وهو الذى يجمع التحريات عن كل سكان الحارة ويعرف أسرار الصغير والكبير.
ولكن «شيخ الحارة» فى حارة نجيب محفوظ له عينان يفتحهما تجاه أشخاص وأحداث وحوادث ،ويغمضهما عن أشخاص آخرين وأحداث أخرى، فهو فى الحقيقة عون للفتوة ورجاله فى طمس معالم جرائمهم، وتلفيقها لغيرهم من أهل الحارة الذين يكونون على عداء مع الفتوة ورجاله، فهو عون للظالم على ظلمه، ونصير له على المظلومين الذين لا حول لهم ولا قوة، فى مقابل ذلك يتحصل على نصيب معلوم من الإتاوة من الفتوة، على سبيل الرشوة والإكرامية، فكلما كان الفتوة ظالما قاسيا وجد معه مصلحته، وحينما يكون الفتوة حريصا على تحقيق العدل والمساواة لا يجد معه سبيلا للتربح والتميز.
وقد تعدد شيوخ الحارة فى ملحمة الحرافيش من قصة إلى قصة، ولكنهم فى المجمل لم يفرق أحدهم كثيرا عن الآخر، فهى شخصية نمطية هى هى مهما اختلفت الأسماء والأشخاص.
إمام الزاوية
هو رجل الدين فى الحارة الذى يقيم الصلاة ويؤم المصلين، شخصية ثانوية فى كل حكايات الحرافيش، ولا دور له ولا تأثير، اللهم فى بعض القصص حيث استخدمه الفتوة أداة لتطويع الحرافيش من أهل الحارة لأفكاره وسيطرته.
صاحب الخمارة
لم تخل قصة من قصص الحرافيش من وجوده، فهو رمز للشر فى مقابل إمام الزاوية الذى يمثل جانب الخير، فهو يؤوى المساطيل والمخمورين ويقدم لهم البوظة، وهى الخمر الشعبية الرخيصة المصنوعة من الخبز المتعفن بعد تخمره، وهو شخصية ثانوية فى مجمل قصصه فيما عدا «درويش زيدان» الذى تربى مع «عاشور الناجي» فى بيت أخيه الشيخ «عفرة زيدان» ،ثم عمل قاطع طريق، ثم صاحب أول خمارة فى الحارة فى عهدها الجديد بعد زوال الوباء، وهو الذى تولى فتونة الحارة بعد حبس عاشور إنه المعادل الموضوعى لعاشور الناجى من حيث تجسيده للشر فى مقابل تمثيل عاشور جانب الخير، وهو أيضا رمز للغواية.
عاشور الناجي
يعد عاشور الناجى من أهم الشخصيات التى ابتدعها نجيب محفوظ، بل ومن أكثرها إثارة للإعجاب والدهشة، وأشدها قوة وتأثيرا فى وجدان من عاصروها، وفى خيال من سمعوا حكايته من آبائهم فى الأجيال اللاحقة، لذا فهو البطل الحقيقى فى «ملحمة الحرافيش» من القصة الأولى حتى العاشرة والأخيرة التى أعطى بطلها نفس الاسم «عاشور الناجى» ليكون عودا على بدء، فقد كانت للبطل الرئيسى طباع جميلة من حسن الخلق، برغم أنه كان لقيطا عثر عليه الشيخ «عفرة زيدان» الأعمى ملقى فى الشارع رضيعا فقام بتبنيه وتربيته وتعليمه ‘وتحفيظه بعضا من سور القرآن فنشأ محبا للخير متسما بفضائل الأخلاق، عزوفا عن كل ما يغضب الله، فاكتسب فطرة نقية وأخلاقا سوية، عاش بها بين الناس فأحبوه واحترموه.
ثم عرف بالناجى لنجاته من الوباء الذى أصاب الحارة وأطاح بكل من فيها نتيجة اعتقاده فى حلم رآه، ففر بزوجته وابنه إلى الصحراء ونصح أهله وجيرانه بذلك، ولكنهم لم يقتنعوا بكلامه، ثم عاد إلى الحارة ليجدها خاوية على عروشها بلا بشر ولا حياة، وقد فنى كل من فيها مخلفين بيوتهم ودورهم وقصورهم، فاختار قصرا كان يسكنه أحد الأثرياء الفانين فانتقل للعيش فيه مع أسرته وحدهم فى الحارة، ورويدا رويدا استقبل سكانا جددا بالحارة فآواهم وأمدهم بما يحتاجون من قوت، ووفر لهم سبل العيش وفرص العمل وصار فتوة الحارة، ولكنه فتوة من طراز مختلف يعطف على الفقراء ويحنو على الضعفاء ويجبر كسيرهم وفى الوقت نفسه ظل يأكل من عمل يده ويلزم رجاله بالكسب من العمل كسائق عربة «كارو» دون استخدام أساليب البلطجة التى اتبعها سائر الفتوات ورجالهم، وقصر جمع الإتاوات على الأثرياء ليوزعها على الفقراء، ووفر لكل عاطل عملا يقتات منه، بفرض هيمنته بقوة دون عنف، فهيبته وعملقته أغنته عن منازعة الخصوم ومنافسته فسلموا له بأحقيته فى الفتونة بدون حاجة إلى قتال أو شجار، فلم يستخدم قوته فى البطش بل فى إحقاق الحق وإعادته لأصحابه، وكان شعاره «إن مال الله لا بد أن يوزع على عباد الله»، وبنى زاوية للصلاة،وسبيلا ليشرب منه الناس وحوضا تشرب منه الدواب، ‘وعندما أعطاهم بلا مقابل أكبروه واعتبروه سيدهم وكبيرهم، ورفعوه إلى كرسى الفتوة، حتى عندما دخل السجن مدة عام بتهمة استيلائه على القصر، انتظروا عودته بفارغ الصبر، ثم استقبلوه استقبال الفاتحين ليعود فتوتهم وسيدهم المغدق عليهم من مال الله، وانتشر العدل وساد الحق وعاش الجميع فى رغد الحياة فى ظل الفتوة العادل العاقل التقي، إلى أن جاء يوم استيقظوا فيه فلم يجدوه، انتظروه يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر ولم يعد، فاعتبره بعضهم ميتا، والبعض الآخر أشاعوا أن اختفاءه إحدى كراماته، ورفعوه إلى منزلة أولياء الله الصالحين، وظلت سيرته عطرة محببة إلى النفوس، البعض يحلم بعودته، والبعض يحلم بمن يخلفه ويعيد سيرته التى صارت حلما بعيد المنال وغير قابل للتكرار، ولكنه الحلم والتعلق بالعدل المفقود، فتحول عاشور الناجى من مجرد شخص فى رواية إلى رمز كبير، وقيمة عليا للحاكم القوى فى غير عنف، المهيب فى غير صلف، العادل العطوف المحتوى فى غير من ولا أذى، الذى يحب الفقراء ويرعى مصالحهم كأنه أبوهم وكأنهم أولاده، وعندما اختفى بقيت سيرته حية لا تموت.
التناقضات فى شخصية عاشور الناجي
بالرغم مما تبدو عليه شخصية «عاشور الناجي» من مثالية وتحلٍ بالقيم العليا، إلا أنها لا تخلو من التناقضات، وأول هذه التناقضات سوء الأصل والجذور، إذ هو لقيط قذفت به أمه فى الطريق فالتقطه بعض السيارة ليربيه غير أبيه وأمه، وهذا يتناقض مع كرم أخلاقه وعذوبة فطرته التى فاق بها أصحاب الحسب والنسب.
كما أن هناك تناقضا بين عظمته كفتوة يعتد بذاته ويعتز بكرامته وهيمنته، وبين حياته الفقيرة الكادحة، فكأنه يتمثل نموذج «عمر بن عبد العزيز أو سلمان الفارسي» فى زهدهما وأخذهما نفسيهما بالشدة واللوم إذا حادت عن جادة الطريق، أو كأنه يتمثل بعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - فى قوته وسيطرته وملكه الدنيا، وفى الوقت نفسه ينام تحت شجرة مفترشا الأرض، ملتحفا السماء، مرتديا أسمالا بالية تعددت رقعها، وهو الخليفة أمير المؤمنين مع حرصه مثله على تحقيق العدل، وأخذه جانب الفقراء فى مواجهة الأغنياء، ولا يأكل إلا ما يأكلون ولا يلبس إلا ما يلبسون .
جانب آخر من التناقضات جمع بين ضخامة جسمه وعملقته، ورهافة حسه وعطفه على الضعفاء، حتى وصفه أحد المجرمين الذى رفض عرضه بالانضمام إلى عصابة «قنصوه» وهو فتوة الحارة بأن جسمه جسم ثور وقلبه قلب عصفور، فهو لم يرفع نبوتا على أحد قط، ولم يستخدم قوته الجسمانية إلا فى كسب الرزق،أو إغاثة ملهوف، أو إنقاذ مظلوم .
والتناقضات تمتد وتكثر لتشمل جانبا أثار تساؤلات أهل الحارة وأبنائه، وكل من عرفه، إذ وهو التقى الورع العفيف يذهب إلى الخمارة ليفض معركة بين بنيه على الفوز بفتاة الخمارة الضائعة، فإذا به يفتن ب «فلة» ويقع فى هواها، ويطلبها للزواج فترحب بذلك، وعندما لامه من لام وعاتبه من عاتب، وعاب عليه من عاب، برر ذلك بأنه أراد أن ينتشلها من طريق الانحراف إلى شاطئ الاستقامة، خصوصا أنها وجدت نفسها فى الحياة لقيطة مثله، ولكنها لم تجد فى طريقها الشيخ «عفرة زيدان» الذى أدبه، ولكن وجدت نفسها فى قبضة أخيه «درويش زيدان» صاحب الخمارة الذى استغلها أسوأ استغلال، ويا لها من مفارقة، ولكنها أحبته وأخلصت له ووافقته على الهجرة من الحارة طلبا للنجاة فنجت معه ونجا معهما ابنهما الوحيد «شمس الدين» ليكملوا حياتهم معا فى الحارة بعد انقضاء الوباء، وانقشاع البلاء.
شمس الدين الناجي
يأتى شمس الدين عاشور الناجى فى القصة الثانية من الملحمة ليثبت أن الدنيا ما زالت بخير فهو من ينطبق عليه تماما قول «خير خلف لخير سلف»، ولم لا وقد نشأ وترعرع فى حجر أبيه، ولمس مدى الحب والاحترام الذى حظى به حيا وذكر به ميتا، فكان مثلا أعلى له فوق كونه أبا.
وقد حرص عاشور على إعداده ليخلفه فى أخلاقه ومبادئه التى أخلص لها، فأرسله صغيرا إلى الكُتاب، وسكب فى قلبه أعذب ألحان الحياة مرتلة، ليحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم، وفى الوقت نفسه لم يهمل جانب القوة، فعلمه ركوب الخيل واللعب بالعصا و المصارعة، وإن لم يدر بخلده أبدا إعداده للفتوة، ولما درج شمس الدين فى الوعى بنفسه وبمن حوله، أدرك سطوة أبيه غير المحدودة، فسرعان ما ارتطم بالتناقض الحاد بين عظمته وبين حياته الفقيرة الكادحة، وقال له مرة عند قدوم عيد: أريد يا أبى أن أرتدى عباءة ولاسة، فقال له أبوه بحزم :ألا ترى أن أباك لا يرتدى إلا الجلباب؟ لا قيمة لبريق فى هذه الحياة بالقياس إلى طهارة الضمير وحب الناس .
وعندما قبل بحسن نية عيدية قدمها له أحد الأثرياء فاشترى بها عباءة ولاسة ومركوبا وخطر بها مزهوا صباح يوم العيد،ما إن رآه أبوه حتى أخذ بتلابيبه إلى البدروم ثم لطمه صائحا به : يتسللون إلى من ثغرة ضعفك بعد أن أعيتهم إرادتى الصلبة، ثم ألزمه برد الملابس إلى البائع، ثم برد العيدية إلى صاحبها.
وكان الحب لا العنف الذى يربط شمس الدين بأبيه، وبالفعل لم يتغير شىء من عهد عاشور الناجي، فقد خلف أباه راعيا للحرافيش، شاكما للسادة والأعيان، وثابر الفتوة على عمله سواقا للكارو، كما اشتغل رجاله كل بحرفة، ولم يغير شقته الصغيرة، وامتلأت أعطافه بالعظمة الحقيقية، وروى ظمأ قلبه بحب الناس وإعجابهم، وصار من رواد الزاوية ومن أموال الإتاوات جدد الزاوية وأنشأ كُتابا جديدا، وتقدم به العمر وكبر أبناؤه وأصابه الوهن والشيخوخة، وقد قضى عمره وفيا لعهد أبيه عاشور فرعى الحرافيش بالرحمة والعدل والحب، وعرف بينهم بالتقوى والعبادة وصدق الإيمان، وأصبح اسم الناجى مرادفا عندهم للخير والولاية والبركة والصلاح.
وفى الوقت الذى اعتبره أولاده قد وهن وشاخ وبينما يخوضون معركة مع أحد فتوات الحى دون علمه إذا بشمس الدين يقتحم المعركة ويتصدرها، ويقصد فتوة العطوف ويقارعه واستجمع قواه كلها، وضربه عدة ضربات أنهت المعركة بنصر حاسم، ليثبت أنه مازال الفتوة ذا البأس والقوة رغم شيخوخته، ولكنه سرعان ما قضى نحبه وهو فى نشوة الانتصار، ليسميه الحرافيش «قاهر الشيخوخة والمرض»، وبقيت ذكرى فتوته النقية العادلة الخالدة مثل فتونة أبيه العظيم، ولم ينس أحد أنه عاش كادحا ومات فقيرا، وبفضله وبفضل أبيه عاش فى وجدان الحارة مثلا أعلى ترنو إليه الأعين والقلوب على تعاقب الأزمان.
سماحة الناجى (المطارد)
شخصية عجيبة من أكثر شخصيات نجيب محفوظ بؤسا وشقاء وإثارة للحزن والأسى والشفقة، فقد اجتمعت فى قصته مجموعة من العوامل والأحداث والصراعات التى جعلت منه إنسانا سيئ الحظ، فهو وإن كان سليل عائلة عاشور الناجي، إلا أنه نشأ فى أسرة بعيدة عن الفتونة، وكان الفتوة «الفللي» يسومهم سوء الاضطهاد، خوفا من أن يخرج منهم من يطمح إلى الفتونة لاستعادة مجد جدهم عاشور، فانشغلوا بالتجارة عن طلب الفتونة، ولكن سماحة عزف عن التجارة ولم يشتغل بها وتعلق بأهداب «الفللي» فتوة الحارة الذى سعى لأن يكون أحد رجاله، فلقى ترحيبا حذرا منه وفى الوقت نفسه، لقى موجة من السخط من إخوته وعمه خضر، إذ إنه يعرض تاريخ العائلة إلى الضياع ومزيد من الإذلال، ولكنه أصر على ما عزم، وكان الاختبار الذى وضعه فيه الفللى صعبا مذلا، إذ طلب منه أن يكون رسوله لخطبة «مهلبية» الفتاة التى يحبها واتفق مع أمها على خطبتها.
ولأنه قرر الهرب بها من الحارة فقد قتلها رجال الفتوة وطاردوه، فاختفى فى الظلام كاتما صرخات ألمه من الجراح التى طعنها الزجاج المدبب فوق السور الذى ألقى نفسه عليه، وظل ممسكا به فى الظلام، ليتقى عيون رجال العصابة الذين أشاعوا فى الحارة، ثم شهدوا أمام البوليس أنهم رأوه وهو يقتل «مهلبية» لأنها فضلت «الفللي» عليه ورفضت أن تهرب معه، وحكم عليه بالإعدام شنقا، فلم يجد مفرا من الاستمرار فى الهرب، فكان هروبه إلى «بولاق» لأنها بعيدة عن حارته فى الحسين، وكان هناك عداء شديد بين فتوتى الحارتين فعاش هناك باعتباره»بدر الصعيدي» تاجر التمر والحلبة والينسون، وهناك تزوج من «محاسن» بائعة الكبدة، وأنجب منها ثلاثة أولاد، وبعد سنوات من الأمان المشوب بالحذر،وقع صلح بين فتوتى الحارتين، وأصبحت الحارة مسرحا لتردد أهل حارته ورجال «الفللي»، فلم يجد بدا من مغادرة زوجته وأبنائه والهرب إلى الصعيد، وإن كان هروبه فى هذه الظروف قد كشفه، وجاء البوليس ليفتش عنه، وحقق مع زوجته، وأفشى سره الذى أخفاه عن أهل الحارة طوال هذه السنين، وظل هاربا متنقلا من قرية إلى قرية متنكرا، متجولا ببضاعته على أمل انقضاء مدة يسقط الحكم بعدها، وظل يعد الأيام والليالى الثقال، حتى لم يبق على تحقيق المراد سوى ليلة واحدة .. ليلة واحدة فقط ويسقط الحكم وينعم بالحرية ويعيش مع زوجته وأولاده الذين حرم منهم، ولكنه لم يستطع صبرا حتى تنقضى الليلة وأراد أن يبيتها فى أحضان أولاده وزوجته فتسلل إلى بيتها ليلا فى زى امرأة، وطرق الباب ليفاجئ زوجته فيباغت بوجود زوجها المخبر الذى تزوجته بعد حصولها على الطلاق منه إداريا، فأراد المخبر المتربص به أن يقبض عليه ويسلمه لحبل المشنقة قبل أن تنقضى آخر ليلة فى المدة القانونية لسقوط الحكم فدار بين الغريمين صراع حياة أو موت، انتهى بأن سدد «سماحة» ضربة قوية لرأس المخبر، أسقطته مضرجا فى دمه، ففتح الشباك وهرب من جريمة قتل أخرى، ليواصل حياة المطاردة والتشرد طوال حياته بلا انقطاع، وبعد هروبه نكتشف أن المخبر لم يقتل، ولكنه أصيب إصابة شديدة ما لبث أن شفى منها، وظل الهارب هاربا طريدا دون أن يدرى أن التهمة الأولى قد سقطت، وأن التهمة الثانية لم تحدث، وكبر أبناؤه فى رعاية عمه «بكر» وأخيه «رضوان» حتى صاروا رجالا، وتربع ابنه الأصغر «وحيد» على كرسى الفتونة الأثير لديهم، وبينما الأمر كذلك إذا بشيخ عجوز ضرير يطرق الحارة بعصاه، وينادى بأعلى صوته أنه «سماحة الناجى» الهارب منذ أكثر من عشرين سنة.
تلقاه أولاده وأهله بفرحة غامرة وهم لا يكادون يصدقون أنفسهم وعمت الفرحة الحارة، وعندها اطمأن وسعد بأن الفتونة آلت إلى ابنه «وحيد» وإن أخفوا عنه، أنه لا يسير فى الناس سيرة جده عاشور ولا شمس الدين، ولا حتى جده سليمان، بل على عكسهم تماما، كما أخفوا عنه قتل أحد أبنائه لأخيه لينعم بسعادة زائفة تعوض ما ملأ حياته من تعاسة وشقاء، وأكثر ما أراحه أنه سيموت ويدفن بجوار أجداده العظام، فمات قرير العين.
زهيرة الناجى «فتوة الفتوات»
أستطيع أن أزعم أن زهيرة الناجى تكاد تكون أقوى شخصية نسائية ليس فى ملحمة الحرافيش فحسب، بل فى مجمل إبداع نجيب محفوظ الأدبي، فقد اعتدنا فى قصصه ورواياته أن يكون الرجل هو مركز الأحداث ومحركها والمهيمن عليها، فهو السيد، وهو الذى يتلاعب بالمرأة أو يتحكم فيها، فيكون سببا فى نعيمها وسعادتها، أو سببا فى ضياعها وشقائها، فهو الذى يحب وهو الذى يغدر وهو الذى يخون، وهو الذى يستغل المرأة فيبيعها أحيانا، ويستخف بها أحيانا، وهو الذى يغار عليها لحد الجنون، أو يلزمها بيتها وكأنه سجن لا تخرج منه إلا على قبرها، وهو الذى يسجن، وهو الذى يعذب، وهو الذى يقتل، وهو الذى يسرق، أما المرأة ففى أعماله عامة ضحية الرجل المفعول بها لا الفاعل أو فى أفضل الأحوال المفعول من أجلها فهو يسرق من أجلها، ويقتل من أجلها، ويخون من أجلها امرأة أخرى، ومهما بلغت من سوء فهى ضحيته ، فحميدة فى زقاق المدق كانت ضحية «فرج» الذى اتخذها سلعة يتاجر بها، و»زهرة» فى «ميرامار» كانت ضحية سكان اللوكاندة من الرجال وخصوصا سرحان البحيري، وإحسان شحاتة فى «القاهرة الجديدة» كانت ضحية أبيها الفقير، وعشيقها الغني، وزوجها الطموح، وزينب فى «الكرنك» كانت ضحية «خالد صفوان» وهكذا...
أما «زهيرة الناجي» فلم تكن أيا من هؤلاء، فقد كانت امرأة قوية آسرة بجمالها الأخاذ، ذات جبروت طاغ بسحرها النفاذ، تتحكم فى الرجال بفتنتها الساحرة فتسعد هذا حتى حين، ثم لا تلبث أن تذيقه ألوان الشقاء والهوان والإذلال، ثم تتوجه إلى غيره بالإغراء، وما إن يقع فى شباك هواها حتى يسقط فى الهاوية التى اندفع إليها بكل قواه واهما نفسه أنه حقق الفوز، ونال الجائزة الكبرى التى نافسه فيها عتاة الرجال، وتغلب عليهم جميعا ليفوز بالجنة، ويمتلك آلة المتعة والسعادة، وما إن يرتشف قطرات من العسل والشهد، حتى تذيقه المرارة والحرمان، وتلقى به من شاهق لتبحث عمن هو أقوى وأغنى وأعز فى طموح جارف ليس له سقف وليست له نهاية، وكانت تصارع الرجال بالقوة التى منحتها الحياة وخصتها بها، ألا وهى قوة الجمال والفتنة والجاذبية التى تسيطر على ألباب أشد الرجال فتحيله إلى طفل يجرى ويلهث وراءها، ويبذل كل جهد وينفق كل نفيس من أجل الظفر بها، فهى فى داخل نفسها كانت تعتبر نفسها الفتوة الحقيقي، حتى فى مواجهة الفتوة الرسمى للحارة الذى تهتز له قلوب الرجال، ولا يصمدون أمامه لحظة واحدة، فقد استخدمته كآلة لإجبار زوجها الأول الشاب العفى الفقير «عبد ربه الفران» لتتزوج زوجها الثاني» محمد أنور» تاجر البطارخ الثرى الذى رآها لأول مرة عندما كانت خادمة لزوجة أبيه، وحين أدارت له ظهر المجن وعزمت على فراقه أجبرته بواسطة «نوح الغراب» الفتوة نفسه على تطليقها عنوة رغم إنجابها من كل منهما، وإذا بها توقع فى شراكها هذا الفتوة الذى لا يستطيع أعتى الرجال إرغامه على شيء، و تجبره على أن يطلق زوجاته الأربع كشرط لموافقتها على طلب يدها، وهى التى جعلت من مأمور القسم الرجل القوى ذى النفوذ والهيبة والجلال عبدا ذليلا فى هواها بمجرد نظرة من عينيه وقعت عليها أثناء استعراضه قوته داخل الحارة، ، بعد أن كان قد جاء بقوته لحماية زوجها من سطوة الفتوة، فعرض عليه الإذعان بدون شرط أو قيد و تطليق زوجته فرضخ الزوج صاغرا، وعرض المأمور على «زهيرة» تطليق زوجته الهانم بنت الأكابر لتقبل به زوجا، وعندما رفضته وفضلت الفتوة عليه، لكثرة ماله وثرائه الفاحش لم يقبل الهزيمة فى هواها فأقدم على ارتكاب جريمة، فدبر قتل الفتوة ليلة زفافه على زهيرة، وورثته دون أن يرتشف من شهدها قطرة واحدة، فكانت سببا فى شقاء زوجين وإذلالهما وسببا فى قتل الثالث، وخربت أربعة بيوت عامرة لنسوة الفتوة بطلاقهن دفعة واحدة.
ولم تكتف بذلك فرمت شباكها على المعلم «عزيز الناجي» أغنى أغنياء الحارة والذى انتشلها من الفقر وهى طفلة بأن وفر لها العمل خادمة لأمه فى بيتها، ليساعد أمها الفقيرة على تدبير عيشها، ثم زوَّجها بماله من «عبد ربه الفران»، فلم يصمد أمام أسلحتها الفتاكة وسلم لها قياده، وهو الرجل العاقل الحكيم الرشيد، فأوعزت إليه بشكوى المأمور الذى يصر على الزواج منها بأى ثمن، فشكاه فى الداخلية فى شبهة قتله الفتوة فنقل إلى أقاصى الصعيد.
وخلا للمعلم عزيز الطريق إليها فتزوجها ليقضى منها وطرا رغم حبه ل «ألفت هانم» زوجته سليلة العز والحسب، وتحقق هى حلما عزيزا نقلها إلى قصره لتعيش ملكة متوجة لتتمتع بالعز والجاه والغنى والأبهة، وترفل فى الحرير وتوشى بالذهب ،وتركب حنطوره المذهب وتخطر به فى الحارة بخيلاء، تحت وقع موسيقى خطوات الحصان، وصليل الأجراس، ولكن الحياة لم تمهلها لتعُبَّ من هذه المتع كثيرا، فلكل شيء نهاية، وبقدر ما كان صعودها الشاهق من خادمة فى قاع الحارة إلى هانم على قمتها، فسريعا كان سقوطها إلى الهاوية بأسرع مما كانت تتصور، فقد تربص بها زوجها السابق الموتور «محمد أنور» وظل يضرب رأسها بنبوته القوى حتى حطم رأسها فتسقط غارقة فى دمها، على مشهد من ابنيها اللذين كانا بصحبتها، واللذين عُدَّا من جملة ضحاياها، لأن هذا الموقف المشهود كان له أثر مؤلم على نفسيتهما.
لقد قتلت زهيرة فشفى غليل ضحاياها من أزواجها السابقين المقهورين، ومن ضرائرها المكيدات، وضحاياها من المطلقات، وعدواتها من الزوجات الخائفات من أن يلقين على يديها مصير هؤلاء أو أولئك. قتلت «زهيرة» واستراحت الحارة كلها من شرها وشؤمها الواقع والمظنون، الحادث والمرتقب، فهذه المرأة دون غيرها كانت أقوى من كل الرجال فكانت محور الأحداث ومحركتها، هى التى اختارت ضحاياها، وهى التى اختارت توقيت الزواج والوصال، وهى التى اختارت توقيت الطلاق والهجر،لم يصمد أمام جاذبيتها رجل، ولم يثبت أمام عداوتها قوي، إرادتها نفذت عليهم جميعا، وتهاوت إراداتهم أمامها فكان لها ما أرادت، لا ما أرادوا، فكانت بحق فتوة الفتوات بجمالها ودلالها الذى سلب الأقوياء قوتهم وسلب الحلماء عقولهم، وعطلت فيهم ملكات الفطنة والذكاء، فكان لها الغلبة والسلطان عليهم جميعا طمعا فى شهدها.
وكانها رمز للحياة ومباهجها التى يتصارع عليها الجميع ثم يغادرونها أو تغادرهم، وتخلف فى الحلق غصة.
جلال عبد ربه الناجى ( ابن زهيرة)
كان «جلال الناجي» هو الفتوة الذى أنضجته الآلام، وأصابته فوبيا الخوف من الموت فضلا عن كراهيته بسبب معاناته بمقتل أمه «زهيرة الناجي» أمام عينيه وهو طفل، وظل دائما منظر الدم الذى انفجر من رأسها يطارد مخيلته، كما طاردته سيرة أمه السيئة، وتعييره بأنه «ابن زهيرة» ثم صدمته وفاة عروسه «قمر» فجأة قبيل الزفاف بأيام قليلة، مما جعل هدفه فى الحياة الهروب من الموت، وأبوه هو أول أزواج زهيرة «عبد ربه الناجي»، الفران البسيط الذى تعهد ابنه بالتربية بعد وفاة أمه، وقص عليه سيرة أجداده الفتوات العظام، وقد نشأه قويا منذ طفولته فكان يتصدى لأقرانه الذين ينادونه بأمه فيضربهم ويؤدبهم، ثم كبر وأصبح فتوة الحارة القوى المهيب الذى يخشى بأسه الأقوياء قبل الضعفاء، بفضل ضخامة بنيته فضلا عن قوته وبطشه وجبروته، و يلجأ إلى المشعوذين لتسخير الجان على أمل أن يجد مفرا من الموت، ويبنى كما طلبوا منه مئذنة بارتفاع عشرة أدوار بلا مسجد ولا زاوية، ويحبس نفسه اختياريا عن الناس لمدة عام عاش فيها وحيدا لا يرى أحدا ولا يراه أحد، وفى نهاية العزلة أوهمه المشعوذ الدجال بمؤاخاة الجن والحصول على ميزة الخلود، فلن يدركه الموت، ليزداد ثقة وبطشا وجبروتا وصلفا وغرورا، ظنا منه أنه ملك الحياة الأبدية، فينعكس ذلك على معاملته لمن حوله فيكتسب كراهية كل من حوله حتى أبيه، وعشيقته «زينات الشقراء» التى تخلصت منه بدس السم له فى الخمر دون أن يتهمها أحد، لأنهم تنفسوا الصعداء وأخفوا فرحتهم بالتخلص منه .
ومن سخرية القدر به أنه بجبروته وغروره وصلفه وتعاليه كانت نهايته مزرية، فقد وجدوا جثته فى الصباح عارية من كل ما يستر، على حافة حوض المياه الذى تشرب منه الدواب وملطخة بالروث والطين الحقيرين.
والمفارقة :مات جلال الفتوة القوى الساعى إلى الخلود شابا يانعا نضرا، وبقى أبوه العجوز الفانى ليحيا إلى عامه المائة وقد ورث ثروة ابنه الطائلة التى جمعها من الفتونة والبلطجة والإتاوات التى فرضها على الجميع.
فتح الباب الناجى (اللص الشريف)
فى القصة التاسعة من ملحمة الحرافيش ،قصة مؤثرة ذات دلالة عميقة ،بطلها من طراز مختلف،أقرب إلى الحلم منه إلى الحقيقة، أقرب إلى الشخصيات الأسطورية التى ترى الدنيا من منظار خاص ،لا مثيل له أقرب إلى المثال منه إلى الواقع، ولكى يطبق المثال على الواقع عانى الأمرين وقاسى نفسيا وبدنيا كما يعانى أبطال الملاحم الثورات والانتصارات الكبرى،ولكن معظم هؤلاء يعانون من أجل تحقيق أهدافهم الصعبة المنال، فإذا انتصروا وحققوها عاشوا فى نعيم ،أما هو فقد عانى وقاسى من قبل ومن بعد. أما ذلك البطل فهو فتح الباب الناجى ذلك الطفل الذى تربى بعيدا عن أمه التى تزوجت بعد وفاة أبيه شمس الدين حفيد جلال الناجي، وتخلى عنه أخوه الفتوة سماحة الناجي، فتولت تربيته أرملة من عائلة الناجى لم تنجب ، فوجدت فيه ابنها الذى لم تنجنبه، ووجد فيها أمه التى تعهدته بالحنان والعطف وحسن التربية، وقصت عليه قصص البطولة الغابرة من سير عاشور الناجي، وكيف كان يحنو على الفقراء ويأخذ من الأغنياء ليعطيهم،ووفر لهم العمل فلم يدع عاطلا بينهم إلا وشغله ،فوفر لهم معيشة رغدة آمنة من بطش البلطجية ،الذين كانوا يسلبون أموالهم ،ويهددون حياتهم.
فنشأ مفتونا بجده عاشور ،ويعتبره مثله الأعلى فى الحياة، بالرغم من عدم انشغاله بأمور القوة والفتونة، فقد نشأ لطيفا وديعا، رغم أن أجداده من ناحية أبيه ومن جهة أمه كانوا فتوات، وتعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ بعض آيات القرآن وتردد على الزاوية للصلاة، وعندما صار شابا التحق بالعمل عند أخيه سماحة فى وكالة الغلال والحبوب ليضبط له الحسابات، واكتسب ثقة الفتوة الذى كان يسير سيرة الفتوات البلطجية بالرغم من كونه من سلالة الناجى فضرب بسيرة أجداده العظام عرض الحائط ، وقد ورث عن أبيه أملاكا زادت بزواجه من امرأة غنية علاوة على ما كان يحصله من إتاوات من الحرافيش وهدايا ثمنة من التجار والأثرياء، فكان مثار انتقاد صامت من أخيه فتح الباب ،ولكنه لا حول له ولا قوة .
ومرت الأيام و تبدلت الأحوال إلى أسوأ ما يكون، فقد جف النيل نتيجة عدم وجود فيضان فتلاحقت الويلات وندر الطعام ثم اختفى، ارتفعت الأسعار ساعة بعد ساعة، أغلقت الحوانيت لندرة الطعام ووقفت المظاهرات أمام محال الدقيق والفول، وضج الحرافيش بأنات الشكوى ثم صرخات الجوع، حتى الوجهاء جهروا بالشكوى، ولكن لم يصدقهم أحد فقد فضحتهم وجوههم الريانة الموردة الناطقة بالشبع، وراح سماحة يصيح : لم يعد يبقى ما يكفى العصافير.
غير أن فتح الباب أحزنه كذب أخيه فالمخزن كما يراه ملآن،وما الأسعار الفاحشة التى يفرضها إلا إتاوة جديدة، فندر الفول والعدس واختفى الأرز والسكر وتدلل الرغيف، وتعددت السرقات وقطع الطريق فسرق السائرون أمام بيوتهم ليلا،وتضخم شبح الجوع فأكل الناس الخيول والحمير والكلاب والقطط،وفى وسط هذا الجوع و القحط ،أقام سماحة حفل عرس خياليا لابنته تحدى به الجوع والفقر والجدب، وأعلنت زوجته أنها ستطعم جميع الحرافيش فتجمهروا أمام الصوانى وتجاذبوا الطعام وتشاجروا فاختلط الدم بالمرق، وعمت الفوضى والشغب، وخضعت الحارة للعربدة الهوجاء حتى مطلع الفجر، وفى الصباح حان وقت التأديب، فلم ينج واحد منهم من علقة أوإهانة أو عاهة على يد رجال سماحة الفتوة صاحب الفرح، فجلس فتح الباب كئيبا محزونا ،موقنا بأن جده عاشور الناجى لن يرجع ،وأن أخاه سماحة هو الشيطان ،فماذا فى يده أن يفعل ؟
أخذ فتح الباب يخرج ليلا متدثرا بالظلام ثم يدس صرة من طعام فى يد أحدهم يعقبها بقوله هامسا: من عاشور الناجى ، ثم سرعان ما يذوب شبحه فى الظلام.
اكتشف سماحة سرقة كمية كبيرة من الطعام من محله، فنصب كمينا فى الظلام ومعه رجال عصابته داخل المحل، فإذا بفتح الباب يفتح المحل من الخارج ويدخل ليأخذ الطعام ليدسه فى يد الحرافيش، اشتعل المصباح فجأة فتسمر فتح الباب فى مكانه، وعندما حقق معه سماحة اعترف بأنه جاء لينقذ الجوعى من الموت، فقال له سماحة إذن فأنت عاشور الناجى إذن فستعلق من قدميك فى السقف حتى تصفى روحك نقطة بعد نقطة .
فإذا بالحرافيش يصلهم الخبرفيتحولون إلى قوة مدمرة غير مسبوقة.
سرعان ما عرِ ف دور فتح الباب فى الثورة وقبلها ،فتجسد أمام الحرافيش أسطورة،ونودى به فتوة للحارة، فلم يغره النصر، ولم يضل فى تقدير ذاته ،فجسمه هش، ولم يخض يوما معركة، فقال لهم نختار فتوة ونأخذ عليه عهدا بأن يحكم الحارة كما حكمها عاشور الناجي. فقالوا فى إصرار أنت الفتوة ولا فتوة غيرك .
فهكذا وجد فتح الباب نفسه فتوة بلا منازع ولكن فتوة رغم أنفه.
استطاع السيطرة الكاملة على الحارة بواسطة رجال العصابة السابقين الأشداء وعلى رأسهم دنقل وحميدة، فضلا عن سحره الخاص وقوة الحرافيش المنتشين بالنصر كحراس للثورة .
وتطلع الناس إلى العدل وامتلأت القلوب بالأمل،وساور الوجهاء الخوف .
بدأ رجاله فى توزيع الخيرات والوعود وزرع الآمال ،ولكنهم ظلوا يتمتعون بامتيازاتهم ويستولون على نصيب من الإتاوة،ويعيشون على البطالة و البلطجة، فاجتمع بهم وسألهم أين العدل أين عهد عاشور ؟ فقالوا له لا تتعجل سنسير خطوة خطوة ،فقال لهم إن تحقيق العدل الذى ثرنا من أجله لا يقبل أى تأجيل.
وصارح رجليه القويين «دنقل وحميدة» بأنه سوف يعلن تنحيه عن الفتونة مادام لن يستطيعوا أن يحققوا آمال الجماهير فى العدل المنشود . فاتفق رجلاه فيما بينهما أن يبقى فتح الباب فتوة ولو بالقوة والقهر،وأوهموه أن رجال العصابة غاضبون ويتوعدون بالشر والدم ،وإذا تخليت عن الفتونة لن نضمن لك الحياة، وألزموه بيته محددين إقامته لدواع أمنية ادعوها.
وذات صباح عثر على جثته مهشمة أسفل مئذنة جده جلال، فحزن عليه الحرافيش وفرحت قلوب أصحاب المصلحة فى موته، وأشاعوا انتحاره حزنا على ضياع الفتونة.
وانتهت حياة هذا الرجل الأسطورة ، وكأنه أحد شخصيات ألف ليلة وليلة، ليشير نجيب محفوظ إلى أن العدل يحتاج إلى قوة تحميه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.