يبدو أن معركة الوعي قد غدتْ قدَرَنا المقدور ليس لأجل الحفاظ على هويتنا فحسب بل لأجل حفظ التوازن النفسي والسلامة العقلية الكفيلة باستكمال الرحلة العُمْرِية. فالوعي لم يعد تَرَفاً فكرياً ولا خياراً فلسفياً بل بات ضرورة وجودية وحتمية نهائية للخروج من نفق ثقافة التفاهة واللامعنى والقابلية للانقياد خلف زيف الإلهاء الفكري والديني والدعاوى العقلية الممجوجة التي تستهدف مَسْخ الهوية وفَرْض شعائر اللاأدرية واللادينية والتشكيك الممنهج في الثوابت والرموز والقيم. ومع أن نافذتنا (لنحيا بالوعي) تختص بإحياء الوعي وبنائه أو استعادته فلا تشتبك في جدليات جانبية وهامشية مع الأدعياء وهواجر الحقائق وتَجَرة الثقافات . لكن لأن الأمر جَلَلٌ وخوضٌ في غمار رمي دعائم الهوية ، وانتهاكٌ عَمْدٌ مع سبق الإصرار والترصد لبنيانها وثوابتها ، وتزييفٌ لوعي بنيها . مما لم يعد معه في القوس للصبر منزعٌ ، ولم يبق سوى حَتْم البيان وفيصل الفرقان مفزعٌ أمام مبعوث جديد لزائف التنوير ومسخ الهوية شغل الدنيا بانتفاخ مصطنع قاسَمَه فيه ودلَّاه بغرور دعْمٌ شبحيٌّ لإعلام موَّجه رفعه أمام أعينٍ وأبصار شغفها فضولا كلُّ ترندٍ مقتحم مرافئ الأديان أو باحث عن شراذم كل ما يظنه من أوهام المآخذ والعوَار. فقد طفح علينا هذا الانتفاح المعلول ببارانويا نفسية ذات جموح طاغٍ نحو تسطير حرف شهرة بهوامش صفحات الأعلام من قمم الفكر وذوي الأقلام الإبداعية ( ولو على جثث الآخرين ) ، فقبل أن يطرح مسيخُ الهوية والوعي الزائف هذا نفسه أكبر أهميةً من عميد الأدب العربي طه حسين ذلك الأمر الذي استحضر فيه الجميع حكمة أبي العلاءالمعري لله دره حينما تعجب لمثل ذلك بقوله : إذا وصَفَ الطائيَّ بالبخل مادِرٌ وعَيَّرَ قِسَّاً بالفهاهة باقلُ وقال السُّهي للشمس أنتِ خَفِيَّةٌ وقال الدُّجي للصبح لونُكَ حائلٌ وطاولتْ الأرضُ السماءَ سفاهةً وفاخرتْ الشُهْبَ الحصى والجنادلُ فيا موتُ زُرْ، إنَّ الحياة ذميمةٌ ويا نَفْسُ جِدِّي، إن دهرَك هازلُ. كان قد أجلس نفسه على كرسي عرش نقاد الفكر وفلاسفة العلم وكهنة المعارف مُلَّاك الحقائق وسلطة الأحكام والتقويم والتقييم لجهوده ونتاجه الشخصي بما يجعله أيقونة العصر المتلألئة في مقامات أعلى عليين التي منها يرى أن عابد الجابري كان يعمل في ( دائرة ثقافية مغلقة ) ، وان الطيب تيزيني مُنجَزه ( مجرد حركة مصطنعة في مياه راكدة ) ، وأن أدونيس ( بقي متخندقا في مذهبيته الضيقة ) . ذلكم هو مسيخ الهوية الجديد الذى خرج علينا من دهاليز مجهولة في ثوب أستاذية في تاريخ الأديان شغلها في إحدى جامعات الصين مشفوعة بموسوعة كاملة في الأديان الممتدة على خارطة المسكونة منذ بدء الخليقة. وبغض النظر عن قيام شخصى بمفرده بهذا التأليف الموسوعي فى الأديان ، فإن الأمر قد يُفهم في ضوء ما فعله غيره من أدعياء الموسوعات بأن قاموا بتوظيف مَنْ جمع لهم الشذرات والمتناثرات والفقرات المدرسية حول الأديان ، ومن ثَمَّ تعبئتها وتنسيقها في صندوق واحد تحت وَهْم الموسوعية ، أو القيام بالنقل الأمين ترجمة ( جوجلية) من الموسوعات الغربية بعد طلائها بالأصباغ والألوان العربية. فإنَّ الأمر غير المفهوم هو الأدوات التي استعان بها مسيخ الهوية وداعية الوعي الزائف في إنشاء هذه الموسوعة في الأديان والحضارات العالمية على كوكبنا . فهو غير متخصص في دراسة علم مقارنة الأديان أو تاريخها ولا منتسب لأي معهد علمي بالعالم العربي أو الغربي أو الشرق الأقصى ، ولم يدرس أو يتخرج فى أحدها على الإطلاق. بل الأدهى والأعجب أنه عندما انتسب لقسم الفلسفة والأديان في ستينات القرن الماضي قد فشل في الاستمرار بالدراسة به ، وغادره لعجزه الكامل ( حسب عبارته ) عن استيعاب اختلاف الفلاسفة وتباين مدارسهم ومذاهبهم الفلسفية بجدلياتها وبراهينها ونظرياتها ، فما كان منه إلا أن فرَّ منها فرار الفريسة من القَسْورة ، فغادر الدرس الفلسفي برُمَّته مولِّيا ولم يُعقِّب ، ثم اختفى بعدها ؛ ليعمل بدولة الإمارات ، وليعود إلى الظهور من جديد أثناء أحداث الحريق العربي (2012 - 2013 م) أستاذاً لتاريخ الأديان بإحدى جامعات الشرق الأقصى وذلك دون الحصول ولو على درجة الدكتوراة في الأديان ، ناهيك عن أبحات ما بعدها الأكاديمية في التخصص. وقد خرج علينا متحذلق متفيهق من أدعياء العصرنة وتَجَرَة زائف التنوير منافحاً قائلا : ما بالُ الأولين كالأستاذ العقاد لم يتخرج من أية أكاديمية علمية ولم يعمل بإحداها ؟ وعلى الرغم من سماجة مثل هذا الاستدلال وزيفه ، فإن العقاد لو كانت قد أتيحت له فرصة الالتحاق بقسم الفلسفة لكان الأبرز فيه والأعلى كعباً وما كان ليهرب من استيعاب تبايناتها المذهبية ومناهجها الاستدلالية وتعدد تصوراتها وبراهينها الإقناعية مثل ما فعل مسيخ الهوية . كما أن العقاد منذ المولد حتى الممات لم يَحِد عن طريق الفكر والأدب ، فبلغ القمة في الفكر الديني والفلسفة ، فألف المرجعيات الموثوقة في : ( الفلسفة القرآنية ) التي هرب منها مسيخ الهوية ، وفلاسفة الحكم في العصر الحديث ، فلسفة الثورة ، فلسفة الغزالي ، فلسفة ابن رشد ، وكَتَب ( التفكير فريضة إسلامية ) ، وكتب نقدا فلسفيا ( عقائد المفكرين ). وفي الأدب أسَّس مع عبد الرحمن شكرى وإبراهيم عبدالقادر المازني مدرسة شعرية جديدة هي مدرسة الديوان التجديدية ذات العلامة البارزة في تاريخ الشعر العربي العربي . ورغم أن فشل مسيخ الهوية في دراسة الفلسفة أو هروبه منها ما كان ليصبح عواراً في سيرته الذاتية أوإشكالية كبرى تعترض طريق نزواته الفكرية التي صدَّعت الرؤوس لولا أنه قد طالَب حتمياً بضرورة تناول القرآن تناولا فلسفياً وليس شرعياً مؤكداً على أن ذلك التناول الفلسفي الضروري هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى المنتَج العلمي الأصيل والنتائج الموثوقة التي انتهى إليها. فها هنا تكمن أعجوبة الدهر من المضحكات المبكيات التي تعجُّ بها أوحالُ وطننا العربي الفكرية وحانات مساخره الثقافية. إذ كيف بفاقد الشيء أن يعطيه؟ وأية نتائج مصيبة يمكن أن تُنتظر من تناول فلسفي لنصٍّ قرآني مقدس قد افتقد فيه المتناوِل أداة الفحص والنظر الأساسية منهجاً ومعرفة ؟ لكن ذلك على مايبدو سَمْتٌ جامعٌ لمُسَخاء الهوية وتَجَرة زائف التنوير. وربما لا يكون افتقاد أدوات الدرس الفلسفى وحده هو الحائل دون أصالة أو معقولية منتجات نزوات مسيخ هويتنا الفكرية فى صولاته الإعلامية أو البحثية على حد سواء. إذ إن خلاصة تلك النزوات لا تكاد إلا أن تكون تكراراً ممجوجا للطرح الاستشراقي القديم حول أصالة الإسلام ونبيه وكتابه وأصوله الإيمانية وحقائقه وثوابته ، مما قد سبق أن ناقشتُه بتفصيل في كتبي : (الغارة على القرآن) ، ( مناهج المستشرقين في دراسة القرآن الكريم) ، ( محمد صلى الله عليه وسلم في أدبيات الغرب ) في مطلع هذه الألفية الثالثة. وذلك على مايبدو كذلك جامعٌ مشتركٌ بين مُسَخاء الهوية وتَجَرة زائف التنوير بالجلوس عند أقدام المستشرقين على حد عبارة الفلسطيني إدوارد سعيد ، والاقتيات من فضلاتهم التشكيكية ، والانقياد لمناهجهم الهدمية التي لم تثمر يوما شجرة وارفة أو تشيد بناءً مكيناً ذا ظلٍ ظليل ليوم هجير. لكنَّ مسيخ هويتنا لم يكتف بتكرار الطرح الاستشراقي ذي المنطلقات اللاهوتية والنزعات الامبريالية الاستعمارية ، بل راح علي نحو غريب يخلط بين الدعاوى والادعاءات ، وينطلق دون قيد علمي أو منهجي في عملية تفكيك وتركيب وترحيل وتقديم وتأخير وانتقائية عشوائية واجتزاء وابتسار ، فجاءت نزواته الفكرية خبط عشواء لحاطب ليلٍ ذي حصاد كلحم جَمَلٍ غث على قمة جبل وَعْر يفتقد القيمة والجدوى وجدارة إنفاق وقت مطالعته أو استحقاق مِداد الرد عليه ؛ لأنه مولود مُبْتسر لأُمٍّ متوفاة رُمَّتْ عظامها النخرة واستحالت تراباً تذروه الرياح ، وذلك مثل نزواته الإيديولوجية في ادعاء أنه : 1- لا فرق بين الأديان التوحيدية والديانات الوثنية فكلها تجليات للإله المعبود الذي أخبر عنها في كتابه بقوله : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) بمعنى أنه حَكَم بها وليس أمَرَ ، وبالتالي فعبادة الأوثان تأتي بحُكْمه وعِلمه وليس بالمخالفة. وفضلا عن أن مسيخ هويتنا في تلك النزوة يكذِّب اللهَ تعالى الذي نفى عن نفسه سبحانه قبول الكفر من عباده أو الشرك به بعبادة وثنٍ أو مخلوق كائنا من كان : ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ). لكنّ مسيخ هويتنا في تلك النزوة يسير على طريقة التلفيق الفكري المشهورة لدى مسخاء الهوية وزائف الوعي ب ( لا تقربوا الصلاة ) ، فلو أنه أكمل بقية الآية :( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ) ، لعرف أن الله قد قضى كذلك بالإحسان إلى الوالدين . فهل كل عقوق للوالدين مما يفعله بعض الناس هو وجهٌ من وجوه الإحسان إلي الوالدين والبر بهما مما قضى به الله كذلك ؟ وأنه ليس بالمخالفة ، وأن عقوق الوالدين مثل عبادة الأوثان أمرٌ تعبدي محبوب من الله ؟! ولأن مسيخ هويتنا لم يتأمل عن معرفة بأصول اللغة العربية في معنى كلمة (قضى ) في القرآن الكريم ذات الاستعمال متنوع المقاصد ، فيكفي في هذا المقام أن نرشده إلى استعمال قرآني لكلمة قضى في قوله تعالي : ( فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مّبين) فهل معنى قضى هنا هو حكم ؟ وهل معنى قضى في قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) هو حَكَم ؟ ومن الواجب كذلك إرشاده إلى نوعين من القضاء والإرادة والمشيئة الإلهية إحداهما كونية والأخرى دينية تتعلق بما يحبه الله ويرضاه ديناً من الناس. فالله يحب للناس ويرتضي التوحيد والهداية والصلاح محبةً ورضاء دينياً ، لكنَّه يسمح كَونيّا بوجود الوثنية والكفر والضلال کي يحقق العدل التام بمنح الإنسان حق وحرية الاختيار فى مقابل الثواب على الإيمان والجزاء العقابي على نواقض الإيمان والصلاح والهداية. 2. القصص القرآنى سواء قصة آدم أو غيره من الأنبياء خاصة إبراهيم وداود وسليمان هي قصص غير حقيقية بل مجرد رموز لمعاني في القصص. 3- نفي عالمية رسالة الإسلام ، ونفي إرساله صلى الله عليه وسلم أية رسائل للملوك والحكام كهرقل والمقوقس وكِسْرى ، وبالطبع لم يرجع مسيخ هويتنا للنص القرآني الحاسم في عالمية الإسلام وعلى لسانه صلى الله عليه وسلم مرةً : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ). وكذلك قولا من الله ومَنْ أصدق من الله قولا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ). ولو أننا طالبنا مسيخ هويتنا بالرجوع إلى كتاب العلامة محمد حميد الله الحيدرآبادى (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ) الذي قام فيه بالتوثيق العلمي الفريد لتاريخانية تلك الرسائل لكنا قد أسأنا بمسيخ هويتنا ظناً بأنه باحثٌ عن الحقيقة العلمية أو أنه يوظف البحث العلمي في مظانه التنويرية . 4. النبي محمد صلى الله عليه وسلم شخصية دينية تاريخية إصلاحية يُدْرس كبَشَر 5 . القرآن الكريم يجب أن يدرس في سياقه التاريخي والثقافي كأي نَصٍ أو أسطورة قديمة من منتجات القرن السادس الميلادي. 6. الإسلام نتاج تفاعل ثقافي وديني مع اليهودية والمسيحية. 7. الأوائل لم يفهموا لغة القرآن بالكامل. كاتب المقال : عميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة سابقاً