حمل لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى مع نظيره الأوغندى «يويرى كاجوتا موسيفيني» رسائل طمأنة عديدة للشارع المصرى حول تحرك الدولة المصرية لحل أزمة السد الأثيوبى ومحاصرة آثاره السلبية على حصة مصر التاريخية فى مياه النيل. وخلال اللقاء وضع الرئيس السيسى خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس الأوغندى أمام المواطن المصرى خطة التحرك بشفافية وصراحة تامة، وبالتأكيد وصلت إلى المواطن الأفريقى سواء فى أثيوبيا أو فى دول حوض النيل، وتقوم على عدد من الخطوات يمكن إجمالها فى ست نقاط رئيسية هى: -1 رفض التهديد الوجودى لأمن مصر المائى أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى أن مصر لن تقبل بأى تهديد لأمنها المائي، وأنها ترفض أية إجراءات أحادية من دول حوض النيل تمس حصتها التاريخية، وشدد على أن ما يحدث فى قضية السد الأثيوبى جزء من حملة ضغوط على مصر، وأن القاهرة لا تعارض التنمية فى دول الحوض ما دامت لا تؤثر على نصيبها من المياه. 2 - المياه مسألة حياة أو موت أوضح الرئيس أن مصر تعتمد على نهر النيل كمصدر شبه وحيد للمياه «بنسبة تقارب 98%»، وأن حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنويًا هى مسألة حياة أو موت لأكثر من 105 ملايين مواطن، وهى شريان الحياة غير القابل للمس بأى حال من الأحوال. 3 -رفض قاطع للإجراءات الأحادية ودعوة للتعاون شدد الرئيس على أن إدارة النيل يجب أن تتم بالتعاون البنّاء ومراعاة مصالح جميع دول الحوض، مع الالتزام بالقانون الدولي، وأكد على رفض مصر القاطع لأية تصرفات أحادية فى ملء وتشغيل السد الأثيوبى. -4 المطالبة باتفاق قانونى ملزم جدد الرئيس السيسى مطلب مصر بالتوصل إلى اتفاق قانونى ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، لضمان عدم الإضرار بحصص دولتى المصب «مصر والسودان». -5 الاستعداد للتعامل مع آثار السد أشار الرئيس السيسى إلى أن مصر تنفذ مشروعات كبيرة فى مجال معالجة المياه وتبطين الترع وتحسين الرى لتقليل أى آثار سلبية محتملة من تشغيل السد، لكنها ستظل مستعدة لاتخاذ أى إجراءات ضرورية لحماية أمنها المائى. -6 تفضيل الحل الأفريقي أعلن الرئيس السيسى تمسك مصر بالحلول الأفريقية للأزمة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التى قد تستغل الخلافات لتحقيق مصالحها، وأشار إلى انخراط الرئيس الأوغندى مع مجموعة عمل أفريقية للوصول إلى حل للأزمة. لم تتوقف القاهرة عن العمل طوال السنوات العشر الماضية لمعالجة الآثار الجانبية لأزمة السد الأثيوبى، والتى ارتبطت بسنوات الفوضى وسوء الإدارة خلال عام حكم الإخوان البغيض، وبدون شك استغلت أثيوبيا انشغال مصر بتداعيات أحداث يناير 2011 وقامت فى أبريل من نفس العام بالإعلان من طرف واحد الشروع فى بناء السد على النيل الأزرق مصدر 85 % من مياه نهر النيل، وفى مايو 2013 تسربت وثائق وتصريحات أثارت المخاوف بشأن تأثير سد النهضة على حصة مصر المائية، خاصة فى سنوات الجفاف لتبدأ سلسلة من جولات التفاوض التى شملت السودان، وفى مارس 2015 تم توقيع «إعلان مبادئ الخرطوم» بين مصر وأثيوبيا والسودان، الذى وضع إطارًا عامًا للتعاون دون أن يحسم التفاصيل الفنية، لكن فى يوليو 2020 أعلنت أديس أبابا بدء الملء الأول للسد بشكل أحادي، تبعه الملء الثانى فى يوليو 2021 رغم الاعتراضات المصرية والسودانية، وفى أغسطس 2022 أكملت أثيوبيا الملء الثالث، تبعه الملء الرابع فى سبتمبر 2023، وهو ما عمّق الأزمة، وفتح الباب أمام لجوء مصر إلى الآليات الدولية سواء الأممية أو الأفريقية فضلا عن جهود الوساطة الأمريكية، وعند الوصول إلى اتفاق تتهرب منه أديس أبابا. ولا يخفى على أحد أن أثيوبيا لم تتعامل مع موضوع السد باعتباره مشروعا تنمويا، وانما مشروع سياسى تم تقديمه إلى الداخل الأثيوبى باعتباره مشروع الحلم، مع مبالغات عديدة حول جدوى المشروع وقدرته على توليد الكهرباء بقدرات عالية، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة، لأن السد تحول إلى أداة ضغط سياسى وتسويق لنظام حاكم فى أثيوبيا، بعدما فشل فى تحقيق المرجو منه داخليا. رسالة مصر كانت واضحة مع الرئيس السيسى منذ اليوم الأول، وهى أن مصر ليست ضد أى مشروع تنموى يخدم المواطن الأفريقى، بل إن القاهرة تبنت سياسة تنموية شاملة مع دول حوض النيل، انعكست فى سلسلة مشروعات مائية وبنية تحتية كبرى خلال العقدين الأخيرين، وكلها موجهة لأشقائنا فى دول حوض النيل. ففى أوغندا، شاركت القاهرة فى مشروع الحد من الحشائش المائية ببحيرات كيوجا وفيكتوريا، وإنشاء محطات مياه جوفية بالطاقة الشمسية لتوفير مياه الشرب للمناطق الريفية. وفى تنزانيا، تتصدر مشاركة مصر مشروع سد جوليوس نيريرى على نهر روفيجي، الذى تنفذه شركتا «المقاولون العرب» و«السويدى إليكتريك» لتوليد الطاقة الكهرومائية بسعة تخزينية ضخمة تقدر ب 34 مليار متر مكعب، إضافة إلى مشروعات حفر الآبار وتبطين القنوات لرفع كفاءة الري. وفى جنوب السودان، أشرفت مصر على تنفيذ مشروع تطهير المجارى المائية فى بحرى الغزال والجبل لتسهيل الملاحة وتقليل الفاقد المائي، بجانب إنشاء محطات رفع مياه الشرب فى جوبا وواو، وفى رواندا، مولت القاهرة مشروع حصاد مياه الأمطار وبناء سدود صغيرة لدعم الزراعة المحلية. وأعلن الرئيس السيسى خلال زيارة الرئيس الأوغندى إلى مشاركة مصر فى تمويل وتنفيذ مشروع سد «أنجلولو» بين أوغندا وكينيا من خلال الآلية المصرية للاستثمار فى مشروعات البنية التحتية بحوض النيل، وذلك بتمويل مبدئى قدره 100 مليون دولار، وهو مشروع يهدف إلى إنتاج الطاقة وتنظيم الموارد المائية المشتركة. أما المشروع الأكبر والذى تهتم به القاهرة وكامبالا هو الربط الملاحى بين بحيرة فيكتوريا ومدينة الإسكندرية، ويحقق المشروع هدفا جيواستراتيجيا أوغنديا هو تحويل أوغندا إلى دولة غير حبيسة بوجود ممر ملاحى دولى يربطها بالبحر المتوسط، وهو ما يعزز التجارة البينية والنقل المستدام فى دول حوض النيل. كما أنشأت القاهرة مراكز تدريب متخصصة فى أوغندا وكينيا لنقل الخبرة فى إدارة الموارد المائية، مما يعكس دورها كشريك استراتيجى يسعى لتحويل مياه النيل إلى ركيزة للتعاون الإقليمي. تستحق هذه التحركات المنظمة والمنضبطة من جانب الدولة المصرية لاحتواء أثر السد الإثيوبى الكثير من التأمل، لأنها تعكس رغبة مصر فى الحل السلمى التفاوضي، وتظهر حسن نيتها مرارًا وتكرارًا أمام جميع الأطراف، كما أنها تؤكد أن مصر ليست بالصورة القاسية التى يتم الترويج لها فى الداخل الأثيوبي، فمصر ليست لديها أى مشكلة مع السد فى حد ذاته، لكنها تريد الاطمئنان إلى طريقة إدارته وتشغيله، خاصة فى سنوات الجفاف، حتى لا يتأثر الشعب المصري، فالأمر يتجاوز أى اعتبار، إذ أن نهر النيل هو شريان الحياة الوحيد لأكثر من 100 مليون مصرى. هذه الأزمة، وغيرها من الأزمات المحيطة بمصر، تهدف إلى الضغط عليها، واستمرار هذا التهديد يسعى لدفعها إلى قبول ما ترفضه فى ذلك الملف أو أى ملفات أخرى، ومن ثم، يظل الرهان قائمًا على وعى الشعب المصرى وتماسكه، لأن قوة الدولة تقوم على التفاف شعبها حولها، والعكس صحيح، فالدول الضعيفة يتجرأ عليها الجميع، والضعف يأتى دائمًا من الداخل. الخلاصة: لا يمكن وضع مصر وحقها فى جريان النيل تحت أى اختبار، لأنه لا يمكن الاختيار بين الموت والحياة، إذ سنختار بالتأكيد الحياة.