د. مونيكا حنا ظلت المطالبات باستعادة القطع الأثرية التى نهبها الاستعمار من مجتمعات الجنوب مجرد أفكار لا تتجاوز حدود الغرف المغلقة والمؤتمرات العلمية المتخصصة. لكن فى السنوات الأخيرة تبدل الوضع، وتجاوزت النقاشات هذا الحيز الضيق، إذ استحوذت على كثير من النقاشات بل وتسببت مؤخرًا فى أزمة دبلوماسية كبيرة بين بريطانيا واليونان. بسبب مطالبة الأخيرة باستعادة رخاميات البارثيون الشهيرة وإعادتها مرة أخرى لأثينا بعد قرون من سرقتها والاحتفاظ بها داخل المتحف البريطاني. وقد ترتب على الرفض البريطانى إلغاء لقاءً كان مقررًا بين رئيسى الوزراء البريطانى ونظيره اليونانى بسبب رفض تسليم القطع الأثرية التى تعود لحوالى 2500 عام. أدرك المصريون آثار ما سببه الاستعمار الثقافى والسياسى خلال فترة مبكرة من القرن ال20 حيث تبنى المثقفون والسياسيون داخل مصر حملة كبيرة لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة. أحد أهم هذه المحاولات تلك التى طالبت باستعادة التمثال النصفى لرأس الملكة نفرتيتى والمحفوظ داخل متحف برلين. فيما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الصحوة» المبكرة. ورغم المحاولات المصرية التى بدأت منذ ما يقرب مائة عام إلا أن هذه القضية تلقى اليوم زخمًا عالميًا حيث أعيدت طرح النقاشات العالمية مرة أخرى حول أحقية دول الجنوب فى استعادة تراثها المنهوب. يحتفى المصريون هذا العام بمرور 113 عامًا على اكتشاف التمثال النصفى للملكة نفرتيتي. حيث حاول مكتشف التمثال عالم الآثار الألمانى بورشاردت إخفاء التمثال وتضليل الجهات المصرية من خلال استغلال منصبه الرفيع داخل «لجنة علم المصريات» رغبة منه فى تهريبه إلى أن نجحت محاولاته. لكن مع اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، تولد فى متحف برلين حس الشعور بالغيرة الإمبريالية تجاه البريطانيين وشعر بورشاردت بضرورة عرض تمثال نفرتيتى المخفي. وهنا بدأت فترة من المفاوضات لاستعادة التمثال النصفى بعد أن أثار الإعلان عنه الجدل بين مصر وألمانيا. ورغم التنافس بين الدول الاستعمارية فقد تم الكشف عن عدة رسائل بين إدارة قسم الآثار المصرية بالمتحف البريطانى وسفيرهم البريطانى فى برلين تتفق على منع إعادة تمثال نفرتيتى بأى ثمن لأنه سيفتح الأبواب لإعادة حجر رشيد ورخام الجين فى اليونان. وقد فشلت بالفعل النقاشات بين المتخصصين فى استعادة التمثال وفى عام 1933 نجحت البعثة الملكية المصرية فى إقناع الحكومة البروسية فى برلين بإعادة التمثال النصفى للاحتفال بعيد ميلاد الملك فؤاد الأول. لكن فى اللحظة الأخيرة، استخدمت حكومة الرايخ «هتلر» حق النقض ضد إعادته إلى الوطن لأن «هتلر كان يحب نفرتيتي». يستكشف هذا المقال تفاصيل علاقة الملكية الثقافية مع السياسات التراثية من خلال التمثال النصفى الشهير الذى يعود للملكة نفرتيتي، وهو يأتى فى إطار عمل د.مونيكا حنا عميدة كلية الآداب بالجامعة الأمريكية فى بغداد و العميد المؤسس لكلية التراث الحضارى بالأكاديمية البحرية بتوجيه أغلب أبحاثها نحو التراث الثقافى المنهوب، وتتبع طريقة التعامل مع السرديات التى يطرحها الغرب لتبرير وجود القطع الأثرية داخل متاحفه. فى سنتى الأخيرة كطالبة فى علم المصريات، أجريت محادثة رائعة مع جدتى أميرة - ولدت فى بنى سويف وعاشت معظم حياتها بين مصر الجديدة بالقاهرة، ومطاى بالمنيا - خلال اللقاء، أظهرت لى صورة قديمة لوالدتى خلال سنوات دراستها الجامعية وسألتني: «من تشبه والدتك؟» نظرت إلى رقبة أمى الطويلة وذقنها المنحوت وصرخت: «نفرتيتي!» أجابت جدتي: «نعم، إنها كذلك، وأنت أيضًا تشبهينها قليلًا. جدتي، التى لم تكن مهتمة بعلم الآثار إطلاقًا، أدركت حينها أن نفرتيتى تمثل معيارًا للجمال لنا كنساء مصريات. لا توجد شخصية أخرى تعتبر «أيقونة الجمال المصري» لأى شخص مصرى عادي. على الرغم من محاولات الفصل بين الاثار المصرية ومصر الحديثة. ظلت نفرتيتى أيقونة ضخمة ومصدر فخر للمصريين. ففى ثمانينات القرن الماضي، استخدمت شركة مصر للطيران تمثال نفرتيتى كرمز لها. فى فيلم إشاعة حب (إشاعة حب 1960) لفطين عبد الوهاب وبطولة عمر الشريف وسعاد حسني، بطل الرواية حسين، يتسوق ليشترى صور نساء ليتظاهر بأنه على علاقة بإحداهن رغبة منه فى محاولة منه للفت انتباه الشابة سميحة. لكن فى لحظة عالية من الكوميديا، يعود حسين إلى حماه، حليفه فى المؤامرة، بثلاث صور فوتوغرافية: الملكة إليزابيث الثانية، والتمثال النصفى لنفرتيتي، ونجمة السينما الشهيرة هند رستم. الاختيار من كاتب السيناريو على الزرقانى أن يضع نفرتيتى كأعظم صورة مصرية للأنوثة رغم وفاتها منذ أكثر من 3000 سنة يظهر العلاقة بين الملكة المصرية القديمة والمصريين الذين سيتعرفون عليها فى الحال، بعد 48 عامًا من مغادرة تمثالها النصفى مصر مع بورشارت. وفى فيلم «الحرب العالمية الثالثة»، وهو فيلم مصر كوميدى من إنتاج عام 2014، يحكى عن مجموعة من التماثيل داخل متحف الشمع المصرى «الخيالي». حيث تتحرك التماثيل من الساعة 5 مساءً، وحتى الخامسة صباحًا. هذه التماثيل يحكمها الملك توت عنخ آمون عديم الخبرة، ويساعده محمد على باشا، بعدما قامت أمينة المتحف الفاسدة هويدا بمساعدة تمثال من الشمع لهتلر، بإذابة تمثال نفرتيتى الذى أنهى حكمها بهذه الطريقة. لم تظهر الملكة المصرية فى الفيلم مطلقًا وذلك يرمز إلى التمثال النصفى المفقود، والذى بدونه يفقد المتحف المعنى. الأشرار فى الفيلم، إلى جانب هويدا وهتلر، عبارة عن تماثيل شمعية لنابليون، وريتشارد قلب الأسد، وهولاكو خان. وهو يوضح كيف ينظر المصريون فى الرواية الشعبية إلى نابليون باعتباره شريرًا وليس بطلًا. ومن اللافت للنظر أن يكون الشرير الرئيسى فى الفيلم هو هتلر، فهو النموذج الأصلى للوغد المعاصر فى جميع أنحاء العالم، ولكن هنا على وجه التحديد عدو لنفرتيتى وأسرتها. ربما لم يغفل الجمهور عن التفاصيل الدقيقة فى الإشارة إلى أسر نفرتيتى فى برلين. وهذا يعنى أن التراث يصبح أكثر حساسية عندما يتم ترسيخه فى السردية التى تربط فكرة الهوية بالحواس. تظهر نفرتيتى فى الرواية الشهيرة لنجيب محفوظ «العائش فى الحقيقة» كإمرأة قوية ومؤثرة داخل دائرة أخناتون الملكية. كما لعبت نفرتيتى مؤخرًا دورًا كبيرًا داخل العديد من لوحات الفنانين التشكيليين ومنها لوحة الفنان المصرى حسام درار. وخلال زيارة للمجتمع الساكن فى العمارنة مؤخرًا استقبل نموذج للتمثال النصفى لنفرتيتى بين النساء المختلفات استقبالاً جذابًا. وقد شكلت العديد من هذه القرى حملة الاسترداد التى أعلنوا عنها من خلال مقطع فيديو باللغتين الإنجليزية والألمانية. الاستقبال الغربى للتمثال بدأ مفهوم «الملكية» فى الانفتاح بشكل أكبر خارج النطاق السياسى بعد وقت قصير من الثورة الفرنسية وسقوط الأنظمة القديمة فى جميع أنحاء أوروبا. بدأ هذا المفهوم يهاجر إلى عالم الخيال. تأثر العالم الخيالى بالنوع والعرق، وتم تشكيل جزء كبير منه بواسطة الإثنوغرافيا وعلم الآثار وحتى علم المصريات. وفى بدايات القرن ال19 بدأ التركيز على أساطير وعجائب مصر فى الكتاب المقدس، ومع تقدم علم المصريات، تم إنتاج جسد معرفى معقد عن ماضٍ بعيد لم يكن أوروبى المركز؛ فى الواقع، فإن أعمال التنقيب التى جرت فى أواخر القرن التاسع عشر بواسطة صندوق استكشاف مصر (المعروف الآن باسم مجتمع استكشاف مصر) تركزت على روايات الكتاب المقدس عن مصر. أثر علم المصريات بشكل معقد على مفهوم الحداثة الأوروبية إذ كان ينظر إلى مصر آنذاك على أنها جزء من «الشرق»، الذى كان من السهل الاستيلاء عليه واستعماره ثقافيًا. وقد تبنى وطبق الاستعمار الأوروبى مبدأ الأبوية، وتأنيث ثقافات الآخرين باستمرار. لكن فشلت المركزية الذكورية، مقترنة مع الهيمنة الإمبريالية، فشلا ذريعًا مع الثقافة المادية المصرية، وخاصة الثقافة المصرية الخاصة بأيقونات الحاكمات. وقد أضاف علم الآثار فى القرنين الماضيين إلى السردية الإمبريالية والاستعمارية أكثر مما أضاف إلى بناء هوية الشعوب الأصلية. فقد استحوذت المؤسسات الثقافية الغربية على الماضى المجازى للدول المختلفة. وزعمت أن ديانات الأمم الحديثة؛ أى المسيحية والإسلام فى الشرق، قد صنعت فجوة مع ماضيها. عندما زار الملك فؤاد ألمانيا عام 1929 ظهر رسم كاريكاتيرى شهير له وهو يصيح: «عودى معى إلى مصر، يا نفرتيتى الجميلة، سأجعلك المرأة المفضلة لدى فى الحارم!» وجاء الرد المتخيل: «مستحيل يا فؤاد (الصغير)، صندوق زجاجى فى برلين أفضل منه فى القاهرة. ملكة صورية بفضل إنجلترا». يستمر هذا الاستيعاب الكنائى لصورة نفرتيتى الملونة ذات الطابع الجندرى حتى اليوم فى معظم كتابات علماء المصريات ومؤرخى الفن الذين يضفون عليها طابعًا جنسيًا شديدًا كعمل من أعمال المركزية الإمبريالية الذكورية. على سبيل المثال، كتب يان أسمان أن نفرتيتى هى «قصيدة حب على الحجر» وأن «شهوانيتها الراقية للغاية وجمالها وإطلالتها التى تكاد تكون مثيرة» تمثل فن عصر العمارنة. وقد انتقدت كلوديا بريجر أعمال أسمان بوصفها استحواذًا صريحًا من الأوهام الإمبريالية. يتناغم هذا مع وصف جوستاف فلوبير للقاءه مع كوشوك هانم، وهى راقصة غجرية من إسنا، حيث تم بناء صورة من خلال المنظور الأبوى الغربي، ليتم اتخاذها كصورة نمطية لجميع النساء المصريات الأخريات. لقد كرر فلوبير وأسمان صورتهما الخيالية لنساء وادى النيل، وإن كان ذلك على بعد آلاف السنين، فى خطاب ذكورى متحيز جنسيًا. تجاهل محاولات العرب كانت أوروبا، فى سياق تكوين الهوية، تشارك فى عملية فهم مفهوم «الأجنبي» و«الماضي»؛ وقد ساهمت أشياء مثل التمثال النصفى لنفرتيتى فى هذا المفهوم لبناء الهوية بالإضافة إلى الأوهام الإمبريالية. كما خلق الأوروبيون أيضًا تقييمًا للأشياء من خلال أهمية الاقتناء كشكل من أشكال التواصل الاجتماعي. هذه «الأوهام الإمبريالية»، كما تصفها كلوديا بريغر، هى نماذج الأيديولوجية الإمبريالية تجاه الثقافات غير الغربية، حيث تضع «الآخر أو التابع» تحت الهيمنة الغربية، سياسيًا وثقافيًا، لتشكيل الإحساس الغربى بالهوية الإمبريالية. ساعد الاختراع الغربى لمجتمع تقليدى بدائى الأوروبيين على تحديد «حداثتهم المستنيرة» والتحقق من صحتها. وبالرغم من محاولات تأسيس علم المصريات القائم على رؤية السكان الأصليين. لكن يدافع العلماء الغربيون عن خطابهم الإمبريالى بحجة أن المنح الدراسية التى تراكمت هى سبب معرفة العالم بمصر القديمة، زاعمين أن لديهم السلطة للتعريف عن أنفسهم من خلالها، تستمر السردية الغربية عن مصر القديمة حتى اليوم من خلال القطع الأثرية الموجودة فى المتاحف الغربية وهذه الأمور تغذى روايتهم التى تصلح لهم ولأوهامهم الإمبريالية. أما بالنسبة للكتابات العربية فى العصور الوسطى عن مصر القديمة، مثل: البغدادى والمقريزى والإدريسى والمقدسى والمسعودي، فقد أُهملت فى كتابة التاريخ المصرى القديم بسبب النظرة الإمبريالية للباحثين الغربيين أو ربما بسبب عدم قدرتهم على قراءة اللغة العربية. الاستحواذ على صورة نفرتيتى بدأ الاستحواذ على صورة نفرتيتى من خلال تمثالها النصفى قبل الحرب العالمية الثانية عندما استقبلت كنجمة ورمز للنجاح فى «عالم النساء» خلال عشرينيات القرن العشرين، حيث جرى تقديمها للنساء الألمانيات. واستخدم التمثال النصفى لتشكيل الهوية الوطنية الألمانية ما بعد الإمبريالية؛ أى بعد الثورة الألمانية 1918-1919، واستخدم كرمز للهوية الوطنية ليحل محل الملكية المفقودة فى العشرينيات والثلاثينيات ظهرت نفرتيتى فى العديد من مجلات الموضة وتم استيعابها كجميلة «غربية»؛ كانت تلك السنوات هى سنوات ازدهار جماليات فن الآرت ديكو، وارتدت العديد من النساء ملابس معينة ليعملوا على محاكاتها. وقد أدى الاستيلاء النازى على التمثال النصفي، وربط نفرتيتى بصلتها «الآرية»، إلى وضع نفرتيتى وإخناتون فى قلب الفاشية الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية. إن الاستيلاء الغربى على التمثال النصفى يضع نفرتيتى فى هالة من الصورة العالمية السامية للمرأة «الأخرى» التى يقدرها الغرب. تقف نفرتيتى بمفردها فى هذه الغرفة الكبيرة الخارجة عن السياق والمصممة لإثارة الرهبة والسحر، لتظهر ككيان لعبادة حديثة. فى علبة مضادة للرصاص فى الفضاء المجرد الميت فى متحف النويس بسيرة اجتماعية متنازع عليها. تحيز غير واعٍ لم تكن نفرتيتى رمزًا للجمال الأنثوى المصرى فقط، بل رمزًا للقوة أيضًا. وعلى الرغم من نسبها غير الملكي، فقد رحب بها إخناتون كزوجة ملكية عظيمة، أى ما يعادل «ملكة» فى لغة لم يكن بها كلمة لهذا اللقب، وحيث كان بإمكان الملك أن يتزوج أكثر من امرأة. وفى العديد من الحالات، فى نهاية عهده، صوَّرها فى مناسبات عدة وهى تشغل منصبًا أكثر أهمية. وهذا ليس غريبًا بعد سلطة أسلافها إياح حتب، وأحمس نفرتاري، وتيي. وفى بداية عهد زوجها، ظهرت نفرتيتى على كتل التلاتات التى تم العثور عليها من منشآت إخناتون فى الكرنك. وتظهر صورتها فى بعض الصروح أكثر من الملك نفسه. وفى بعض الأحيان تقدم القرابين الطقسية لقرص آتون بمفردها. وقد تجادل العلماء حول الدور الدقيق لنفرتيتى إلى جانب إخناتون لأنها كانت ترافقه باستمرار فى طقوسه الشمسية وفى لقاءات البلاط. تظهر نفرتيتى أيضًا بالشعر المستعار النوبي، وهو فى الغالب لباس ذكوري، مما يثير المزيد من التكهنات حول دورها التقدمي. كان هذا الزى تقليديًا لملابس الجنود النوبيين، ولا بد أن استحواذ نفرتيتى على الباروكة الذكورية أحدث ضجة فى مجتمع مصر القديمة. ربما كانت تحاول خلق صورة جديدة للمرأة المصرية التى كان لها دور أكثر بروزًا بجانب نظرائها من الرجال. واتبعت أيضًا سلفها تيى فى ارتداء غطاء الرأس الخات، وهو غطاء رأس مستدير الشكل يرتديه الرجال عادةً أو الآلهة الإناث نيفتيس وإيزيس. ومن الأمثلة الأخرى على مكانة نفرتيتى فى السلطة، كما هو موضح فى الرموز ذات الدلالة، أنها شوهدت ترتدى قماش الرأس الخات وتاج أطف فى مقبرة بانهيسى فى العمارنة. وعلاوة على ذلك، فإن أهم دليل على دور نفرتيتى يأتى من مجموعة من الكتل التى تظهر زخرفة مقصورة مركب ملكي، حيث تقوم نفرتيتى بطقوس خسف الأعداء، وهو نشاط ينسب فقط للملوك منذ لوحة نعرمر. تؤكد هذه المشاهد دورها السياسى القوى والمحتمل فى حكم مصر. فى كتابه مصر القديمة: مقدمة قصيرة جدًا، يقتبس إيان شو من كاميل باجليا فى أن تمثال نفرتيتى النصفى يعطى انطباعًا عن «مصاص دماء صاحب إرادة سياسية». يحكى الاقتباس عن التحيز الجنسى (غير الواعي) فى الفكر الغربي؛ فعندما تحكم المرأة، يجب أن تكون متعطشة للدماء من أجل السلطة. شجعت قوتها الاستثنائية، الممزوجة بجمالها وطلتها التى لا مثيل لها، النساء على استخدام نفرتيتى كشخصية راعية للحركات النسوية. على سبيل المثال، فى الحملة الانتخابية لعام 1999 فى برلين، استُخدم تمثال نفرتيتى فى ملصق من قبل حركة الخضر. لنشر صورة المرأة القوية والفعالة. واستخدمت الحركة نفسها شعار «نساء قويات من أجل برلين!» وبالمثل، استخدمت النساء اللاتى تعرضن للتحرش الجنسى والهجوم من قبل الحشود فى القاهرة صورة نفرتيتى مرتدية قناع الغاز كرد فعل على التحرش الجنسى ومضايقات النساء فى ثورة 2011. كان هذا التمثال النصفى الأيقونى يمثل النسوية وحقوق المرأة ضد التطرف والتنمر القائم على النوع. لم يقتصر الأمر على رش الرسومات والكتابات على الجدران فى شوارع القاهرة وبعض المدن الأخرى فحسب، بل تم عمل ملصقات تحمله فى برلين. لم يتوقف دور نفرتيتى فى العام السادس عشر من حكم إخناتون. بل استمر دورها فى إلهام أحفادها المعاصرين لما يجب أن تكون عليه المرأة ذات القوة. أجمل مهاجرة فى برلين.. لماذا لا تعود إلى وطنها؟ «نفرتيتى هى سفيرة مصر فى برلين»، كان هذا التفسير السياسى الجذرى تعليل لبقاء التمثال النصفى فى برلين. يجب أن يكون هناك تبادل دبلوماسى لوجود سفير فى بلد ما، ولا يصح أبدًا أن يذهب سفير ولا يأتى نظيره، ومع وجود مفاوضات إرسال قطع ملكية مقابل التمثال النصفي، لم تصل أى قطعة ألمانية إلى القاهرة أو العمارنة. أصبح التمثال النصفى لنفرتيتى رمزًا لتحويل التراث المصرى حيث تحولت «الإمبراطورية» التى تعد رمزًا للإمبريالية الغربية الحاكم التاريخى إلى سفير مسيطر عليه فى عاصمة إمبريالية. تجلى الصراع حول الحق فى أن يكون لهم رأى فى تنسيق وتمثيل الثقافة المصرية فى «جسد نفرتيتي» عام 2002، حيث قام فنانون بولنديون يُدعون ليتل وارسو برعاية عرض للجناح المجرى فى بينالى البندقية، ووضعوا تمثالًا نصفيًا على تمثال برونزى عارى بمباركة مدير متحف ألتيس آنذاك ديتريش فيلدونج. شعر المصريون بإهانة ملكتهم وعدم احترام سياقها الثقافي احتج فاروق حسني، وزير الثقافة آنذاك، علنًا فى المتحف الألماني، ليس لأن التمثال النصفى كان جزءًا من عمل فني، بل لأنه اعتبره غير مراعٍ للتاريخ الثقافى لمصر. لم تكن الملكة فى مصر القديمة لتظهر عارية أبدًا، بل كان من الممكن أن تظهر عارية وهى ترتدى ثوبًا شفافًا. كما عبّر الجمهور المصرى عن استيائه مما اعتبره الفنانون عملاً غير حساس من قبل الفنانين وإنكارًا لأى حقوق ثقافية من قبل إدارة المتحف. ويستشهد مؤيدو الاحتفاظ بالتمثال النصفى فى برلين بهذه الواقعة: إذا ما أعيد التمثال النصفى فلن يكون من الممكن أن تظهر مثل هذه التعبيرات الفنية الفجة. إن تمثال نفرتيتى النصفى بهويته القومية الإمبريالية هو رمز لمرض الحنين والنوستالجيا المنتشر اليوم فى مصر وألمانيا. فالقوميون فى مصر يتوقون إلى الماضى المجيد لمصر القديمة، والإمبرياليون الجدد فى الغرب يتوقون إلى الزمن الذى كان من الممكن فيه ملء المتاحف بقطع من ثقافات أخرى. إن الاحتفاظ بالتمثال النصفى لنفرتيتي، بغض النظر عن كل المحاولات المصرية لإعادته إلى الوطن منذ أن تم عرضه، يظهر كيف حاولت الإمبريالية الألمانية استعادة انتصارها المفقود على ثقافة الأمم الأخرى. يشرح الفيلسوف الفرنسى جان بودريار كيف أن العصر الحديث «بارد»، بينما العصر القديم عادة ما يكون «دافئًا» لأن الأشياء فى المتحف تسمح للزائر بالتفاعل مع هذا الماضى وبالتالى «ترويض ثقافة الآخر». مع الاحتفاظ بالتمثال النصفى تحت السيطرة ورفض إعارته لمصر، أبقى متحف النويس «ثقافة الآخر» - كناية عن مصر - تحت السيطرة الألمانية كرمز للاستعمار الثقافى الجديد اليوم. قد يرتبط هذا أيضًا بالسبب الذى جعل متحف التيس يوافق على العرض الفنى الذى قاموا به ليتل وارسو كجزء من الدبلوماسية الألمانية تجاه احتلال بولندا خلال الحرب العالمية الثانية. السيطرة على السلطة باستخدام الماضى هى لعبة سياسية يومية، سواء من قبل الأجندات الوطنية أو الحكومات أو المتاحف. وعادةً ما يتم خلق الماضى من قبل العنصريين البيض الذين يحاولون السيطرة على مستقبل تاريخ «الآخرين». الاستيلاء على الماضى يقع التمثال النصفى لنفرتيتى فى قلب محاولة الغرب (ألمانيا وبولندا ودول أخرى) مواصلة الهيمنة على ذكريات الحاضر بركوب أمواج العولمة من خلال المتاحف «العالمية». من خلال تقديم التدريب والمنح الدراسية للمفتشين الشباب التابعين لوزارة السياحة والآثار المصرية من خلال المعهد الألمانى للآثار فى مصر الذى أنشأه بورشاردت، حاول علم المصريات الألمانى أن يوفر لنفسه مكانة فى الخطاب الاستعمارى الجديد المتمثل فى تقديم المساعدة الثقافية والسياسية للدول التى استعمرت ثقافيًا لضمان عدم وجود مطالبات جديدة حول التراث المسروق. ولا يزال هناك تصور ذو دوافع سياسية بأن الغرب هو معيار الإبداع والابتكار، مما يجعل «الآخر» يتغذى بشكل خفى على ظهور الهوية الثقافية الغربية. تُظهر المنشورات العلمية حول تاريخ جمع القطع المصرية التى تنكر بشكل جذرى التاريخ الاجتماعى للقطع وسياقها الأثرى كيف أن المتاحف لا تزال حبيسة الأوهام الإمبريالية أو التصور الاستعمارى للثقافة المادية. وللأسف، فإن كيفية تشكيل البحث الأثرى والتحكم فيه يتزامن مع كيفية تفاعل دول قومية معينة اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا. لطالما كان علم الآثار الإمبريالى يعمل على جعل المجتمعات الأصلية أو المهمشين غير مرئيين، للاستيلاء على ماضيهم. ومن ثم أصبح الغرب الوريث الشرعى لمصر القديمة من خلال نظام إنتاج المعرفة الذى يسيطر على التراث المصري. ممارسة الهيمنة عادة فالكتب التى تتحدث عن الماضى المصرى مكتوبة باللغات الأوروبية ونادرًا ما تترجم إلى لغات أخرى، ما يسبب حاجزًا جذريًا فى إمكانية وصول المجتمعات المحلية إلى المعرفة المنتجة حول تراثها الثقافي. هذا النقص فى الوصول إلى المعرفة هو الحال نفسه بالنسبة لعلم الآثار المصرية. وعادة ما يتم السخرية من المصريين المعاصرين بسبب عدم اهتمامهم -أو عدم قدرتهم على الوصول إلى المعرفة المكتوبة باللغات الأجنبية - وفى علم الآثار يتم استخدام ذلك لتبرير عدم إعادة القطع الأثرية الموجودة فى المتاحف الغربية إلى مصر مستندين فى تبريرهم المشكوك فيه إلى ذريعة الانقطاع. تم إسكات حملة إعادة القطع الأثرية التى قادها نظام مبارك. واستخدمت الأصوات الغربية ذريعة النهب والتنقيب غير المشروع لتحويل مصر إلى منطقة خطر، غير قادرة على الحفاظ على متاحفها ومواقعها الأثرية آمنة. فى ثمانينيات القرن الماضي، رأى العديد من النقاد فى ألمانيا أن التمثال النصفى ينتمى إلى مصر ويجب إعادته إلى الوطن. وقد بدأت حركة تحت عنوان «نفرتيتى تريد العودة إلى الوطن» على يد هربرت جانسلماير وجيرد فون باشينسكي. عندما طالبت مصر باستعادة التمثال النصفى أو إعارته فى العقد الماضي، تحجج ديتريش فيلدونج بأن التمثال النصفى هش للغاية بحيث لا يمكن نقله. ومع ذلك فقد كان مناسبًا بما فيه الكفاية للتجربة الفنية التى خاضتها ليتل وارسو، وأصبحت الادعاءات بأن التمثال النصفى أكثر أمانًا فى برلين من أى مكان آخر غير مدعومة بالأدلة مع سرقة المجوهرات الملكية السكسونية مؤخرًا، وحريق متحف برلين للعلوم، وسرقة عملة «ورقة القيقب الكبيرة» الذهبية، ونهب الميداليات فى متحف شتازي. حتى أن متحف نويس كان هو الآخر ضحية للاعتداءات فى عام 2020. يعتبر الحفاظ على الثقافة المادية وصونها مفهومًا غربيًا فى المقام الأول، وهو مفهوم إشكالى للغاية عند فحصه عن قرب. وعادةً ما يخفى وراءه ممارسةً للسلطة والهيمنة السياسية التى تخدم الهيمنة الثقافية تحت مسمى «الإشراف على السجل العلمي». التشكيك فى الموقف الأخلاقي أخيراً، فإن التراث المتنازع عليه والمتمثل فى تمثال نفرتيتى النصفى ليس قانونيًا بالكامل أو مسألة ردّ اعتبار فقط. فالتمثال النصفى لنفرتيتى هو مثال على كيفية اغتصاب الغرب لماضى الثقافات الأخرى والاستيلاء عليه، وهو يفرض القبول من خلال المساعى الاستعمارية الجديدة ليس فقط الوضع الراهن، بل أيضًا الموقف الغربى باعتباره عملًا نبيلًا ونكرانًا للذات لإنقاذ هذه القطع من أشخاص غير متعلمين وغير مقدرين. إن دور علماء الآثار والمتخصصين فى التراث يتطور من منتجى منشورات للاستهلاك الأكاديمى إلى جهات تتمثل مسؤوليتها فى تمكين أصحاب الحق والمصلحة المحليين. وينبغى أن يمتد هذا الأمر إلى أمناء المتاحف الذين آن الأوان أن يبدأوا فى التشكيك فى الموقف الأخلاقى لمجموعاتهم. من المثير للاستياء أن نرى كيف تدعو الحكومات الغربية إلى إعادة اللاجئين الذين يخاطرون بحياتهم وعائلاتهم كطالبى لجوء فى أوروبا، ومع ذلك، فإنها لا تدعو أبدًا إلى إعادة القطع المرتبطة بالتاريخ الثقافى أو التراث الثقافى لهذه الشعوب. لا ينبغى أن تكون استعادة التمثال النصفى لنفرتيتى هدفًا نهائيًا، بل بداية لتعويض العنف الثقافى الذى أنتجه بورشاردت من خلال عملية الاحتيال التى ارتكبها عام 1913، والتى دعمها هتلر والنظام النازى وأيدتها بالإضافة إلى ذلك مؤسسات غربية أخرى مثل المتحف البريطانى و«رجال الآثار» فاستعادة التمثال النصفى هو أيضًا دعوة لإعادة توظيف مؤسسات المتاحف العالمية لمساعدتها على الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادى والعشرين؛ أى من مؤسسات تضم المسروقات وقصص العنف إلى مؤسسات تعزز الديمقراطية والمساواة. لقد أثبت تمثال نفرتيتى النصفى أنه عامل اجتماعى فى ألمانيا ومصر على حد سواء؛ فقد أنهت «فترتها الدبلوماسية» فى مجتمع برلين ويجب إعادتها بأمان إلى المنيا حيث اشترط متبرعها جيمس سيمون فى عام 1920 وطالب بإعادتها فى عام 1930. كذلك فالتعويض عن أكثر من مائة عام من الاستعمار الثقافى لا يكمن فقط فى إعادة القطع التى ترمز إلى السلطة، بل أيضًا فى إعادة تشكيل وكالة إنتاج المعرفة عن الماضى المصرى من خلال القطع المعادة. ولعل «أجمل مهاجرة» فى برلين يمكن أن تحظى بفرصة العودة إلى الوطن.