آية محمد عبد المقصود لم تكن شخصية "لير" مجرد محطة عابرة في حياة الفنان يحيى الفخراني، بل كانت بمثابة رحلة غوص عميقة داخل واحد من أعظم النصوص الكلاسيكية الإنجليزية، لويليم شكسبير، والتي تعد مغامرة مسرحية لا يملك شجاعتها سوى فنان استثنائي مثل الفخراني، الذي خاضها 3 مرات، بثلاثة رؤى إخراجية مختلفة. بدأت رحلة الفخراني مع "لير" عام 2001 على خشبة المسرح القومي مع المخرج الراحل أحمد عبد الحليم، مرورا بعام 2019 مع المخرج الشاب تامر كرم، وأخيرا عام 2025 مع المخرج شادي سرور. و"الملك لير" هو أحد أشهر شخصيات الكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير، بطل مسرحيته التراجيدية التي تحمل نفس الاسم، والتي تعد من أعظم الأعمال في تاريخ المسرح العالمي. وتحكي المسرحية عن ملك عجوز يقرر تقاسم مملكته بين بناته الثلاث، ويطلب منهن التعبير عن حبهن له، فتتملقه الأبنتان الأكبر عمرا بكلمات زائفة، بينما ترفض الصغرى "كوردليا" المبالغة، فيغضب منها ويطردها، ليتعرض الملك للخيانة والنكران من البنتين، ويطرد، ويتشرد، ويبدأ في فقدان عقله وسط عاصفة من الألم والندم. 24 عاما لا أحد استطاع أن يفسر لغز ملاحقة "لير" للفخراني، الذي هو في الحقيقة قصة ولع بحدوتة الملك المقهور. وقف الفخراني للمرة الأولى حاملا على عاتقه حلما ربما راوده منذ بداية مشواره الفني، فقد كان مولع بروايات المسرح العالمي، فكان لها جاذبية في ذهن الفخراني منذ البداية، وتسبب ذلك في حدوث خلاف بينه وبين زملائه في فريق المسرح الجامعي، فهناك تيار تبنى إعادة إنتاج مسرحيات المسرح المحلي الذي قاده الريحاني ويوسف وهبي، وجانب آخر تزعمه الفخراني بأن تكون الأولوية لتقديم المسرحيات العالمية لشكسبير وبرنارد شو وغيرهم من الكتاب العالميين، وحسم هذا الخلاف بأن يتم تكوين فريقين أحدهما للمسرح المحلي والآخر للروايات العالمية، وكانت تلك الواقعة ممهدة لأعمال مسرحية مميزة من المسرح العالمي أبدع في تقديمها. وبعد مرور سنوات طويلة، تحقق الحلم، ولبس الفخراني تاج "لير" للمرة الأولى وسط نجاح منقطع النظير، ربما لم يشهده المسرح القومي من قبل، لا على مستوى النقدي ولا الجماهيري، واستمر العرض نحو 3 سنوات من بداية عام 2001 وحتى نهاية 2003، قدم خلالها 180 ليلة عرض، في حدث فريد من نوعه على مسرح القطاع العام آنذاك. وفي مطلع الألفية الجديدة، لم يكن قرار تقديم "الملك لير" قرارا سهلا، فالنص لا يعتمد على حبكة بسيطة أو مشاهد سريعة، بل عمل ثقيل نفسيا، ممتلئ بالفلسفة والجنون والخذلان، يجعله خيارا مؤجلا لدى كثير من الفنانين. كان من الصعب أن يراهن أي ممثل على تقديم نص بهذا الثقل وبلغة عربية فصحى قد يراها البعض حاجزا أمام الجمهور، خاصة مع جمهور لم يعتاد وقتها هذا النوع من المسرح التراجيدي الكلاسيكي. لكن وحده الفخراني خاض المغامرة، وكان رهانه الأكبر على شيء واحد، وهو وعي الجمهور المصري، وقدرته على استقبال النصوص العميقة إذا قدمت له بصدق وحس فني حقيقي، رغم أن فشلها ربما سيكون انتكاسة حقيقية للمسرح القومي كله. وأثناء هذا النجاح الكبير الذى حققه العرض في ذلك الوقت، كتب المخرج أحمد عبد الحليم، أن عرضه ل"الملك لير" جاء بدافع تعليم الجمهور المصري قراءة النص الكلاسيكي العالمي، حتى وإن كان غير معتاد على شكسبير، وأضاف في تصريحات صحفية له عام 2002 قال فيها: "من أسباب عرض هذه المسرحية في المسرح القومي، أنها ستثير عقول الشباب حتى يبحثوا عن شكسبير ويقرأوا له"، وتابع موضحا أن العرض نجح في تقديم النص بلغة عربية فصيحة، لكن بروح مصرية واضحة تجعل الجمهور العادي يتعامل مع العمل بإنسانية وفهم لا بالتعقيد. وعن رؤيته الإخراجية لهذا النص قال: "لا شك أن كل عمل مسرحي يحمل رؤية، وقد أخرجت هذه المسرحية رغم إنها شكسبيرية، ورغم إنها إنجليزية، لكن قدمتها بروح الإنسان المصري، بحيث يستطيع أن يستوعبها، وكان هناك رؤية من خلال المواقف المتعددة، ومفردات العرض المسرحي التي تبرز لنا الكثير عن عقوق الأبناء، وعن تفتيت الدولة، حيث نرى الملك لير في البداية يمزق خريطة الدولة الكبرى ليحولها إلى كيانات صغيرة، سرعان ما تقوم بينها صراعات دموية، في حين أنها لو بقيت دولة كبيرة يمكن أن تتصدى لأي محنة.. فالمسرحية لها أبعاد سياسية واجتماعية، وأعتقد أنني استطعت من خلال لغة المفردات المسرحية أن أقترب من هذا المفهوم، وفي الوقت نفسه تبسيط الموضوع بالنسبة للمتفرج العادي الذي عندما يسمع عن شكسبير أو الملك لير قد يرى إنها مسرحية معقدة، لكنني قدمت السهل البسيط منها". وكانت شهادة الدكتور الراحل حسن عطية، أستاذ الدراما بالمعهد العالى للفنون المسرحية، أيضا في صالح هذا العمل الأيقوني، حيث تناول علاقة الجمهور بالنص في عرض "الملك لير" الأول بالقول - في تصريحات صحفية وقتها – أن العرض يحمل دلالة هامة على أن الجمهور المصري لا يزال يحتاج إلى النصوص المسرحية التقليدية، ومحبا للحبكة والعاطفة، وليس فقط للنجوم والإستعراض، بل إلى المسرح بمعناه الكامل، أيضا من الدلالات الهامة لهذا "النجاح الشكسبيري"، أن جمهور المسرح ما زال في حاجة إلى الحبكة والقصة المؤثرة، وليس فقط حب النجوم والسعي لهم. وفي نسخة عام 2001 من "الملك لير"، قدم المسرح القومي إنتاجا متكاملا بقيادة المخرج الكبير الراحل أحمد عبد الحليم، وترجمة النص لفاطمة موسى، وهي الترجمة التي كان قد استقر عليها الفنان يحيى الفخراني بعد قراءته لأكثر من ترجمة، ووصفها بالاقرب إلى لغة المصريين، وموسيقى راجح داود، وأشعار أحمد فؤاد نجم. "طاقم التمثيل" تألف فريق العمل وقتها من كبار الممثلين المصريين آنذاك، الفنان الكبير الراحل أشرف عبدالغفور "كلوجستر"، أحمد سلامة "إدموند"، ريهام عبدالغفور "كورديليا"، فاروق عيطة "كورنوال"، سلوى محمد علي "ريجان"، نرمين كمال "جونريل"، عماد العروسي "إدجار"، وعهدي صادق "المهرج". "النسخة الثانية" (2019) عندما أعلن يحيى الفخراني عن عودته إلى المسرح بعد 18 عاما من تقديمه "الملك لير" لأول مرة على خشبة المسرح القومي، لم يتوقع أحد أن يعود حاملا تاج "لير" من جديد، لكن في عام 2019، قدم النص مجددا من إنتاج القطاع الخاص، مما جعل العرض حدثا استثنائيا في المشهد المسرحي المصري، خاصة أنه عرض على المسرح الكبير بمجمع "كايرو شو - الماركي" في التجمع الخامس، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها "لير" خارج جدران القومي. وإذا كانت تجربة عام 2001 شهدت تحديات كثيرة، فإن نسخة 2019 لم تكن أقل صعوبة، فقد تولى المخرج الشاب تامر كرم تقديم العمل برؤية إخراجية معاصرة، جمعت بين الإبهار البصري والإلتزام بدرامية النص الأصلية. الرهان في المرة الأولى كان للجمهور ووعيه ومدى استقباله لنص بحجم "لير"، لكن هذه المرة كان الرهان على تقديم شكسبير بروح جديدة تواكب هذا العصر ودون أن يتهم العرض بالتكرار، أيضا الفخراني الذي لا يميل إلى استسهال إعادة الأدوار، لم يكن ليعود إلى "لير" لولا يقينه بأن هناك رؤية جديدة تستحق أن تقدم مرة أخرى. "إشادات" في عام 2019 أشاد عدد كبير من النقاد ومحبي المسرح - وعلى رأسهم د. زاهي حواس وزير الآثار الأسبق - بإلتزام وإتقان جميع المشاركين، ووصف حواس أداء الفخراني ب"أبرع من لورانس أوليفييه في تمثيل لير"، مؤكدا أن الفنان جعلنا "نرى الملك فعلا" عبر حركة جسدية وصوت ومعاني تعكس عمق الشخصية تماما كما كتب شكسبير. تصريحات فريق العمل وقتها أيضا تعبر عن مدى قوة العرض وأهميته، حيث وصف نضال الشافعي العرض ب"مغامرة محسوبة" تستهدف إثبات قدرة الجمهور العربي على تذوق الأعمال الكلاسيكية، كما أشار إلى أن كل عناصر العرض "إخراج، إنتاج، أداء" عملت بتناغم لإعادة بناء المسرح بشكل جديد ومؤثر. ووصف عدد كبير من النقاد العرض بأنه "سرق الأضواء" بصريا بفضل الإنتاج الفائق، رغم صعوبة النص وتعقيد عرضه، وأكدوا أن الفخراني قبل التحدي مرتين، وأن نسخة 2019 بمجهود فني كبير كادت تفوز بإشادة تغرق العرض مع بداية انطلاقه. نجحت تجربة "الملك لير" تحت عباءة القطاع الخاص في تأكيد أن المسرح المصري ما زال قادرا على تقديم النصوص الكلاسيكية متى وجدت، وقدمت الصحف المصرية تغطية نقدية واسعة للعرض، حيث جاءت العناوين كالتالي "صناعة مصرية فاخرة تضاهي التجارب العالمية"، بينما وصف تقرير آخر العرض بأنه أعاد الجمهور للمسرح الكلاسيكي بعد سنوات من الغياب، وجعل التذاكر تباع في رمضان والعيد كما لو كانت حدثا دراميا تلفزيونيا لا يفوت، بل وصل الأمر أن الصحف العربية في أقصى المغرب العربي، وصفت العرض بأنه "مغامرة فنية كبيرة". "أبطال العرض" شارك في النسخة الثانية عدد كبير من النجوم الشباب والكبار ومنهم هبة مجدي في دور "كوردليا"، ريهام عبد الغفور في دور "جونيريل"، رانيا فريد شوقي في دور "ريغان"، أحمد فؤاد سليم في دور "كنت"، أحمد عزمي في دور "إدجار"، محمد فهيم في دور "إدموند"، وضياء عبد الخالق في دور "جلوسيستر". "النسخة الثالثة 2025- العودة إلى القومي" في عام 2025 عاد الفخراني للمرة الثالثة إلى "الملك لير"، وفي عمر ال80 عاد حاملا تاج "لير" برؤية جديدة ومغامرة، لجمهور ربما تغير ذوقه وتوقعاته تجاه المسرح بشكل عام. لكن الرهان هذه المرة لم يكن بنفس الحدة، فالجمهور بدا متعطشا لهذا النوع من العروض، بعد فترة بائسة عاشها المسرح في الآونة الأخيرة، الأمر الذي جعل الناس تصطف أمام المسرح القومي في مشهد لم نشهده منذ سنوات. المخرج شادي سرور اعتمد على البساطة والوضوح في رؤية مغايرة عن ما قدم من قبل، فجاء العرض سهل التلقي دون أن يفرط في المعنى، واستخدم ديكور وإضاءة بسيطة لكنها فعالة، مع إيقاع سريع حافظ على انتباه الجمهور. وقد بدا أداء الفخراني في نسخة 2025 أكثر صدقا ونضجا، خاصة أن عمره بات قريبا من عمر "الملك لير" في النص الأصلي، مما أضفى على أدائه قدرا كبيرا من المصداقية والتأثير لدى الجمهور. كما استطاع الفخراني أن يتحكم في حركته على خشبة المسرح بفضل وعيه العميق بالشخصية، معتمدا على تغيرات ملامح وجهه ونبرة صوته المرتعشة التي عكست التحولات النفسية العنيفة التي مر بها "لير"، وهذا ما ذكره الفخراني خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد في يونيو الماضي، عن مدى اختلاف تجربته في نسخة 2025 مقارنة بعروضه السابقة: "في المرة الأولى عام 2001، كنت أضطر إلى أن أمثل رجلا مسنا، وكنت أتألم من التعب لشد الانحناء على الخشبة، لكن اليوم وأنا في الثمانين، لم أعد أحتاج إلى تمثيل الشيخوخة، أنا بالفعل رجل مسن، فقط أعيش الشخصية". وأضاف: "في كل مرة أعيد الملك لير أكتشف في النص شيئا جديدا كنت غافلا عنه، والعودة إلى المسرح القومي كانت شرفا ومسؤولية لا تعوض". "فريق 2025" فريق العمل في النسخة الثالثة من "لير" أكدوا أن الفخراني كان مصدر إلهام ونموذجا للمهنية مع كل بروفة.. المخرج شادي سرور قال إن إخراج العمل كان حلما تحقق، واعتبره "درسا في حب المسرح" ، خصوصا الحفاظ على حضور الفخراني المبكر، بينما أكدت إيمان رجائي أنها تتعلم منه الإلتزام منذ أول يوم. ووصف طارق دسوقي مشاركته بجانب الفخراني بأنها محطة فنية مهمة في حياته، واعتبر أن العمل يعكس طموح المسرح المصري، أما مدير المسرح د. أيمن الشيوي فاعتبر أن عرض "لير" يحمل شرفا كبيرا، ويليق بتاريخ المسرح القومي. العرض شارك في بطولته في نسخته الثالثة، طارق دسوقي، تامر الكاشف، محمد العزايزي، أحمد عثمان، حسن يوسف، أمل عبدالله، إيمان رجائي، ريم عبدالحليم، طارق شرف، عادل خلف، ومحمد حسن، في توليفة مسرحية جمعت بين خبرة الكبار وحيوية الأجيال الجديدة. أخيرا، يمكننا القول أن النسخ الثلاثة ل"الملك لير" ما هي إلا انعكاس لرحلة فنية وإنسانية ومرحلة شديدة من الوعي الفني التي جمعت بين التحدي والمغامرة والنضوج.. فلم يكن "لير" شخصية فنية عابرة بالنسبة للفخراني، بل مغامرة عاشها بين الألم والمجد، ومن خلالها استطاع أن يؤكد أنه نجم استثنائي، ويحفر اسمه مع عظماء المسرح المصرى والعربي، فبعض الأدوار لا تمثل فقط بل تعاش. اقرأ أيضا: هل يعود المسرح للريادة بعد نجاح «الملك لير»؟.. طارق دسوقي يجيب| خاص