توجيهات من وزير التعليم للتحقيق مع مدرسة دولية لهذا السبب    سيارة مرسيدس GLC الكهربائية.. تصميم كلاسيكي بإمكانات عصرية    «لأسباب شخصية».. استقالة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي من منصبه    منتخب مصر يخوض تدريباته باستاد العين استعدادا لمواجهة أوزبكستان وديا    الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    وقف الإجازات ونشر السيارات.. 6 إجراءات استعدادًا لنوة المكنسة بالإسكندرية    رئيس المتحف الكبير: ندرس تطبيق نظام دخول بمواعيد لضمان تجربة منظمة للزوار    مراسل إكسترا نيوز بالبحيرة ل كلمة أخيرة: المرأة تصدرت المشهد الانتخابي    «هيبقى كل حياتك وفجأة هيختفي ويسيبك».. رجل هذا البرج الأكثر تلاعبًا في العلاقات    أحمد السعدني يهنئ مي عزالدين بزواجها: سمعونا زغروطة    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    رئيس العربية للتصنيع: شهادة الآيرس تفتح أبواب التصدير أمام مصنع سيماف    تهديد ترامب بإقامة دعوى قضائية ضد بي بي سي يلقي بالظلال على مستقبلها    هل يشارك الجيش التركي ب«عمليات نوعية» في السودان؟    كريم عبدالعزيز يوجه رسالة لوالده عن جائزة الهرم الذهبي: «علمني الحياة وإن الفن مش هزار»    جائزتان للفيلم اللبناني بعذران بمهرجان بيروت الدولي للأفلام القصيرة    تقرير لجنة التحقيق في أحداث 7 أكتوبر يؤكد فشل المخابرات العسكرية الإسرائيلية    الجارديان: صلاح خطأ سلوت الأكبر في ليفربول هذا الموسم    هند الضاوي: أبو عمار ترك خيارين للشعب الفلسطيني.. غصن الزيتون أو البندقية    ضبط أخصائي تربيه رياضية ينتحل صفة طبيب لعلاج المرضى ببنى سويف    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل رئيس نادي قضاه الأسكندرية    الهيئة الوطنية للانتخابات: لا شكاوى رسمية حتى الآن وتوضيح حول الحبر الفسفوري    استجابة من محافظ القليوبية لتمهيد شارع القسم استعدادًا لتطوير مستشفى النيل    ديشامب يوضح موقفه من الانتقال إلى الدوري السعودي    المخرج عمرو عابدين: الفنان محمد صبحي بخير.. والرئيس السيسي وجّه وزير الصحة لمتابعة حالته الصحية    الصين تحث الاتحاد الأوروبي على توفير بيئة أعمال نزيهة للشركات الصينية    الجامعات المصرية تشارك في البطولة العالمية العاشرة للجامعات ببرشلونة    هؤلاء يشاركون أحمد السقا فى فيلم هيروشيما والتصوير قريبا    إبداعات مصرية تضىء روما    الرئيس السيسي: مصر تؤكد رفضها القاطع للإضرار بمصالحها المائية    انقطاع التيار الكهربائى عن 24 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ غدا    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    الزمالك يشكو زيزو رسميًا للجنة الانضباط بسبب تصرفه في نهائي السوبر    تأجيل لقاء المصرى ودجلة بالدورى ومباراتي الأهلى والزمالك تحت الدراسة    نقل جثمان نجل مرشح مجلس النواب بدائرة حلايب وشلاتين ونجل شقيقته لمحافظة قنا    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    الفريق ربيع عن استحداث بدائل لقناة السويس: «غير واقعية ومشروعات محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ»    توافد الناخبين على لجنة الشهيد إيهاب مرسى بحدائق أكتوبر للإدلاء بأصواتهم    حادث مأساوي في البحر الأحمر يودي بحياة نجل المرشح علي نور وابن شقيقته    الحكومة المصرية تطلق خطة وطنية للقضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي 2025-2030    عمرو دياب يطعن على حكم تغريمه 200 جنيه فى واقعة صفع الشاب سعد أسامة    غضب بعد إزالة 100 ألف شجرة من غابات الأمازون لتسهيل حركة ضيوف قمة المناخ    تأجيل محاكمة 8 متهمين بخلية مدينة نصر    الكاف يعلن مواعيد أول مباراتين لبيراميدز في دور المجموعات بدوري أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك».. ندوة علمية حول "خطورة الرشوة" بجامعة أسيوط التكنولوجية    بعد قليل.. مؤتمر صحفى لرئيس الوزراء بمقر الحكومة فى العاصمة الإدارية    مراسل "إكسترا نيوز" ينقل كواليس عملية التصويت في محافظة قنا    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    بعد غياب سنوات طويلة.. توروب يُعيد القوة الفنية للجبهة اليُمنى في الأهلي    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    محافظ الإسكندرية: انتخابات النواب 2025 تسير بانضباط وتنظيم كامل في يومها الثاني    "البوابة نيوز" تهنئ الزميل محمد نبيل بمناسبة زفاف شقيقه.. صور    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    إيديتا للصناعات الغذائية تعلن نتائج الفترة المالية المنتهية فى 30 سبتمبر 2025    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خارطة طريق معرفية: سلافوى جيجيك ضد التقدم
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 10 - 07 - 2025


أحمد الزناتى
فى حوار قصير أجرته الفيلسوفة الألمانية، المقيمة فى لندن آنيا شتانيباور سنة 2017 على صفحات مجلة Philospphy Now قال المفكر السلوفينى المرموق، خفيف الظل سلافوى جيجيك: أليس من المفارقة أن ما تبقى من اليسار غير قادر على تقديم بديل عالمى قابل للتطبيق؟ أتذكر عندما كنت مع حركة «احتلوا وول ستريت» فى نيويورك، كنت أسألهم سؤالاً غبيًا: «ماذا تريدون؟» ولم يجبنى أحد أعتقد أن ذلك لأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، لهذا أقول إن أفضل الكتب الماركسية كانت عادة تحليلات عن سبب فشل الثورة. أليس من المحزن أن كل ما نحصل عليه هو تحليلات ممتازة لماذا خسرنا؟»
وفى مقابلة مع طبيب النفس الكندى اليمينى المثير للجدل جوردان بيترسون رأينا كيف بدا الأخير أبهت حضورًا، وأقل تحضيرًا لموضوعه، وإن كانت أفكاره لا تخلو من نقاط جديرة بالدراسة، لكن عندما سأله جيجيك عن كتاب (عن الأصولية) لجي.كي.تشيستيرتون، حار بيترسون جوابًا، مع أنه عمل تأسيسى كلاسيكى لا بدَّ أن يقرأه أتباع بيترسون.
هذا ديدن جيجيك مع اليمين واليسار، وهذا هو النمط الذى يؤسّس عليه كتبه المقالية ضد كل من يسير فى الرَكب كالأعمى، فيضرب فى مقتل ولا يبالى.
تعجبنى فى جيجيك روح الدعابة المستحوِذة على حديثه ونكاته التى لا تنتهى، هذا أولًا.
ثانيًا: أننى أستطيع بسهولة أن أضعه على قدم المساواة، وفى خندق واحد مع مفكرين أجلِّهم وأقدِّرهم، لكنهم على طرف النقيض من رؤيته، أقصد أننى أحيانًا أرى قواسم مشتركة بينه وبين ليو شتراوس، وإرنست يونجر، وكارل شميت (وربما سيغضب جيجيك حتمًا من مقارنته بالأخير، وربما يقوم شميت من قبره ليسب ويلعن من وضعه فى خندق واحد مع هذا الشيوعى).
ربما يكون من الممتع أن نتعرف على بعض سماته الشخصية، فكتب المقالات والأطروحات السياسية أكثر من الهم على القلب. من بين ما قرأته عن جيجيك أنه يعمل على الأريكة إلى جوار زوجته، منكفئًا على حاسوبه المحمول، يستخدم موقعًا روسيًا مقرصنًا لاقتباس نصوص من ماركس، وهيجل، ولاكان، وكيركجارد، وشيلينج، بل وحتى من كتاباته هو نفسه.
فم جيجك ماكينة ألمانية لا تهدأ، حيث لا يتوقف عن الكلام، لكنه دقيق فى مواعيده، بل يصل دائمًا أبكر من مواعيده، وهو أكثر ما راقنى فى نمط حياته. يتفقد باستمرار ردود أفعال مُحدثيه على نكاته الجامحة، ليتأكد ما إذا كان قد تجاوز الحد، كما أنه مؤلف غزير الإنتاج يُخرج فى السنة الواحدة ثلاثة كتب مقالات وربما أكثر مع أنه ناهز السادسة والسبعين.
استُقبل جيجيك بحفاوة فى عالمنا العربى، وأنا شخصيًا تعرفت إليه عبر ترجمة الكاتب والمترجم المصرى مينا ناجى لكتابه (ضد الابتزاز المزودج) فضلًا عن بعض الترجمات الأخرى، وإن لم تكن على القدر نفسه من الإتقان، لكن المشكلة أن منبع الحفاوة عندنا هو انتشار ولمعان نجم الرجل على الميديا والمنصات، فأغلب الحوارات واللقاءات تتعامل معه وكأنها تتعامل مع (فوود بلوجر)، فأعماله الفلسفية التأسيسية لم يُلتفت إليها ولم تُترجم، مثلًا: (أقل من لا شيء: هيجل وتأثيرات المادية الجدلية) أو (الموضوع السامى للإيديولوجيا)، إلخ، وهو ما يحد من فهمنا العميق لفلسفته، كما يعكس مشكلة أوسع فى استقبال الأفكار الفلسفية فى العالم العربى، حيث يُحشد التركيز على الجوانب الشعبية أو المثيرة للجدل على حساب الجوهر الفكرى.
عنوان كتابه الصادر قبل أشهر قلائل بعنوان «ضد التقدم» (Against Progress) هو خير دليل على كلامى الكتاب مجموعة من ثلاثة عشر مقالاً يهدف إلى زعزعة المفاهيم السائدة حول فكرة «التقدم» يرى جيجك أن تعريف التقدم هو بمثابة استحواذ على المستقبل، والتكريس لفكرة واحدة فى هذا الكتاب، يتناول رؤى مختلفة لما يمكن أن يكون عليه هذا المستقبل، ويتساءل عما إذا كان بالإمكان تحسين الأمور فى ظل الأزمات البيئية والاجتماعية والسياسية غير المسبوقة التى نواجهها الكتاب موجز وقصير، لكن الملاحظ أن جيجيك يحاول تفكيك «القبضة المحكمة» التى فرضها الليبراليون الجدد، وجوقة المرتزقة من الشعبويين اليمينيين واليساريين على حد سواء، والداعون إلى «تسريع» فكرة التقدم.
الكتاب عبارة عن جولة سريعة تتناول مواضيع متنوعة، من التمدين إلى نظرية النسبية، ومن لاكان إلى لينين، ومن بوتين إلى مارى بوبينز، ومن مارين لوبان إلى نهاية العالم.
الفكرة الأساسية لدى جيجيك أن فكرة التقدم قد خُطفت وشُوِّهت على يد قوى مختلفة، مما أدى إلى ظهور رؤى محدودة ومُضلِلة للمستقبل، كما يبحث الرجل فى كيفية عمل آليات الرغبة والإنكار والتنصل فى تشكيل رؤانا للتقدم، وكيف تتجلى هذه الآليات فى الثقافة الشعبية والحركات السياسية.
يعارض جيجك السرديات التى يقدمها الليبراليون الجدد والشعبويون وأيضاً بعض الحركات اليسارية، مبرزاً تناقضاتهم وإخفاقاتهم، داعيًا إلى إعادة التفكير فى إمكانيات التغيير الحقيقى، وكسر قيود التفكير «الحالم» المعتاد الذى يعيقنا عن مواجهة التحديات بجدية.
يسلط جيجك الضوء على أن الأزمات التى نواجهها اليوم، من التغير المناخى الكارثى إلى الفجوات الاقتصادية المتزايدة، ومن التوترات الجيوسياسية إلى الأزمات النفسية والاجتماعية، هى نتاج مباشر لسوء فهمنا للتقدم. فبدلاً من أن يكون التقدم حلًا، صار جزءًا من المشكلة.
كما ذهب إلى أن العديد من «الحلول التقدمية» المقترحة ما هى إلا تخدير جماعى، أو محاولات للتنصل من المسؤولية الحقيقية، أو حتى تعزيز للوضع الراهن الذى يخدم مصالح فئات معينة، ففكرة «التسريع» (Accelerationism)، على سبيل المثال، التى تدعو إلى تسريع وتيرة التطور التكنولوجى والاقتصادى كطريق للتحرر، يرى فيها جيجك فخًا. ففى حين أنها تبدو واعدة، إلا أنها قد تفضى إلى تفاقم المشكلات القائمة بدلاً من حلها، وتؤدى إلى مزيد من الإقصاء والتهميش.
وبالمثل، فإن جيجك ينتقد رؤى النيو الليبرالية التى تعد بالازدهار من خلال السوق الحرة، مشيرًا إلى أنها غالبًا ما تخفى وراءها استغلالًا وتدميرًا بيئيًا. هذه هى رؤية عامة لأفكار الكتاب قبل أن أسلِّط الضوء على مقالة حملت عنوان الكتاب لفتت انتباهى، سأتعرض إليها بشيء من التفصيل. لنقرأ ما قاله جيجيك فى مقالته عن التقدم:
(فى مستهل فيلم « The Prestige» للمخرج كريستوفر نولان، يؤدى ساحر خدعة من خلال طائر صغير يختفى داخل قفص موضوع على الطاولة. يجهش طفل صغير بالبكاء، ظنًا منه أن الطائر قد قُتل. يقترب منه الساحر، ويُتم الخدعة بصنعة لطافة، مُخرجًا طائرًا حيًا من يده، لكن الطفل يرفض التصديق، مُصرًّا على أن هذا لا بد أن يكون أخ الطائر الميت.
بعد انتهاء العرض نرى الساحر وحيدًا إذ يلقى الطائر الميت فى سلة المهملات حيث ترقد جثث طيور أخرى. لا بدَّ أن الطفل كان على حق؛ فهذه الخدعة لا تُنجز إلا عبر العنف والموت، لكنها تستمد قوتها وتأثيرها من إخفاء ذلك المشهد البائس، والتخلص من ركام التضحية بعيدًا عن أنظار من لا يهمهم الأمر.
وهنا يكمن جوهر المفهوم الجدلى للتقدم: أن وصول مرحلة جديدة أعلى لا بد وأن يقترن بموت طائر فى مكان ما. إن أول ما يجب التخلى عنه هو أى فكرة عن التقدم الخطى الشامل للبشرية، سواء صاغها كارل ماركس، أو افترضها ليبراليون مثل فرانسيس فوكوياما (الذى أعلن نهاية التاريخ)، أو سيطرت عليها جدليات التنوير.
ينقد المقال فكرة التقدم الخطى الحتمى الشامل للبشرية التى طرحها ماركس والليبراليون وغيرهم، مشيرًا إلى أن هذا المفهوم يخفى واقعًا قاسيًا يتمثل فى تضحيات مهملة تُشبه «الطيور المسحوقة» فالأنظمة التاريخية مثل الاشتراكية الستالينية، والنيو الليبرالية الغربية لم تحقق التقدم الحقيقى، بل أظهرت أزمات وانقسامات عميقة.
وأقول من باب التحليل: إن مقالة جيجيك تبرز فكرة أن حركات التحرر مثل تصفية الاستعمار، وحركات التحرر السياسى والاجتماعى قد تُختطف لتوليد أنساق اجتماعية جديدة لا تختلف جذريًا عن السابقة، فالتقدم/التحرر لا ينبغى أن يكون مجرد خطاب مزيف يخفى الواقع القاتم، بل يتطلب إعادة تعريف صادقة تقبل الحقائق المؤلمة والكشف عن «حقيقة أوضاعنا»، و»أمراضنا الأخلاقية والسلوكية» بدلًا من إخفائها، كى نتمكن من بناء مستقبل أفضل حقيقى.
يقول جيجيك إن إمكانات ومخاطر التقدم التكنولوجى والعلمى ظلت محور أحلام البشر عبر قرون طويلة، غير أننا نجد أنفسنا اليوم ندور فى دائرة جهنمية.
فالتطور الحر، والتجريب المستمر، والبحث العلمى الدؤوب، قد أثمر عن بزوغ الذكاء الاصطناعى، الذى لم يعد يهدد فقط العقل البشرى، بل لعله صُمم خصيصًا لتجاوز قيوده، محاكياً الإنسان دون عيوبه أو هشاشته.
ويرى أنه بعيدًا عن التأملات الفلسفية العميقة بشأن شكل هذا الإنجاز وما قد يعنيه، يكفى أن ننظر حولنا لنرى «الطيور المسحوقة» التى تكسو درب التقدم كما تسقط أوراق الخريف، من التكاليف الهائلة للطاقة التى تثقل كاهل كوكب يحترق، إلى الملايين من البشر الذين سيُفقدون رزقهم أمام آلة الذكاء الاصطناعى المتقدمة.
هذه – من وجهة نظر جيجيك - هى صورة الالتزام الأعمى بفكرة التقدم، التى تُعتمد دون مساءلة أو نقد، حيث يرفع أنصار الذكاء الاصطناعى راية الحرية، ولكن يلتبس عليهم أمرها: حرية من ومَن ولماذا؟ هل هى حرية للبشر كى يكرسوا أنفسهم للترفيه أو الفن أو التأمل؟ أم هى حرية تقنية تتنصل من قيود العقد الاجتماعى، وتحول الإنسان إلى مجرد ترسٍ فى آلة التكاثر اللامتناهية للذكاء الاصطناعى؟
عندما تعطَّل تطبيق Chatgpt قبل أسابيع، وقع بعض الناس فى حيص بيص، بالطبع ليس لاستعانتهم به فى تخطيط جدول العمل أو التحليلات الإحصائية لا سمح الله، ولكن لأنهم فقدوا من يسألونه عن علاج عقدهم النفسية، ومن يبوحون إليه بمشكلاتهم الشخصية، وأسرارهم الزوجية والحميمية، وهى كارثة بكل المقاييس. أخشى أن تتحول برامج الذكاء الاصطناعى إلى بدائل للزوج والزوجة، والصديق والصديقة، ودور الطب النفسى، وربما بديل عن مناجاة الله أو الوقفة مع النفس، ولن أسميها «وثنية» جديدة، ربما نفعل جميعًا بعد سنة أو اثنتين على الأكثر.
سيسأل قاريء: ما الحل إذًا يا سيد جيجيك؟ وكيف نعثر على بوصلة ترشدنا إلى سواء السبيل وسط هذه الفوضى؟
يقول جيجيك: يجب أن تكون نقطة انطلاقنا فى إدراك أنه لا يوجد شيء اسمه تقدم على وجه العموم؛ فالتقدم هو تطور داخلى لنظامٍ ما، والتحقيق التدريجى لإمكانياته، لذا فإن الأمر كله مرهون بالنظام الذى يعمل كنقطة مرجعية، مشيرًا إلى أنه طالما ارتبط مفهوم «التقدّم» فى الوعى الإنسانى بالتحرر من الجهل، والفقر، والسير بخطى ثابتة نحو مستقبل أفضل. غير أن هذا المفهوم، بقدر ما كان مُلهِمًا، لم يَخلُ من تناقضات، بل ومن قيم اجتماعية دهست تحت الأقدام تحت لافتة التطور. فهل ما نراه اليوم من تقنيات مذهلة، وحرية شكلية، وازدهار اقتصادى، هو تقدّم حقًا؟ أم أنه مجرّد وهم مزيَّن يخفى خلفه خسائر عميقة فى المعنى، والقيم وأخلاقيات البشر فى تعاملهم مع بعضهم؟
يضرب جيجيك مثلًا بإحصائية نُشرت فى الصين سنة 2024 حول رغبة كبار الموظفين فى البنوك والمكاتب فى الاشتغال بحرفٍ يدوية بسيطة بعد أن طوَّقتهم بيئة المكاتب الخانقة. حيث وجدت إحدى الموظفات المرموقات راحة نفسية وحيويةً فى العمل اليدوى لم تعثر عليها فى بيئات العمل المكتبى «المُتقدّمة».
هذا التناقض البسيط يفتح بابًا لنقد الافتراضات السائدة حول معنى التقدم. أتذكر نصيحة هيرمان هسه لأحد شباب الكُتاب وأنا أترجِم بعض رسائله إلى الشباب، إذ نصح الشاب الكاتب المتعطل المتبطل بالبحث عن عمل يدوى يكسب منه قوت يومه، وألا يتحول إلى منظِّر فى كل قضايا السياسة والمرأة والمجتمع والناس أو إلى متفرِّغ للكتابة وحدها، وإلا فإن ذلك سيؤثّر على صحته النفسية، وقواه العقلية، ويبدو أن هسّه كان يرى المستقبل ببصيرة ثاقبة.
ربما أختلف مع جيجيك فى مسألة البحث المشترك عن مستقبل أفضل؛ لست متشائمًا، لكن مؤمن أنه ليس ثمة ما يوجب الدهشة فى كوارث عصرنا الراهن، ومن يقرأ التاريخ، بل آراء الفلاسفة المعاصرين كما سأعرض فى مناقشات قادمة، سيجد أننا نعيش عصرًا أكثر سلامًا من غيره، لسنا الجيل الوحيد الذى عاش زمن الكوارث. فعلى امتداد الحقب التاريخية المختلفة واجه البشرُ الحروب، والمجاعات، والأوبئة التى كانت تقتل الآلاف فى لمح البصر (من الطوفان العظيم، مرورًا بالمجازر البشرية الكبرى، والصراعات الطائفية، والكوراث الطبيعية، وصولًا إلى حروب القرن العشرين وكارثة هيروشيما وناجازاكى؛ بيت الداء أن أحدًا لا يقرأ، ولا أحد يرى أبعد من «التايم لاين».
ثمة نقطة أخرى متصلة برؤيتى الكلية للعالم؛ أن العالَم خُلِق هكذا؛ فالعداوة بين البشر، والاقتتال والحروب هى لسان حال ابن آدم منذ أن هبط على الأرض (ابْنَيْ آدم)؛ فالاقتتال بين البشر مكون أصيل من مكونات طبيعتهم، ودَفْعُ الناس بعضهم لبعض عنصر من عناصر الناموس الحاكم للحياة الدنيا.
وما ذنب الأبرياء ومن يُقتلون؟ سؤال قديم قُتل بحثًا على يد اللاهوتيين والفلاسفة والأدباء حول معضلة الشر (أو مشكلة الثيوديسيا)، هى حكمة إلهية خفية لا تُدرك إلا بنور يُقذف فى القلوب، وسكينة تنزل على الصدور.
ثمة مَن لا تعجبهم الصيغة السابقة، ولا بأس إن ذكَّرتُ أن الفكرة متواشجة – بشكل أو بآخر – مع أفكار توماس هوبز، وعبارته الذائعة Homo homini lupus (الإنسان ذئب أخيه الإنسان) أو حتى كارل شميت.
لا يزال جيجيك، رغم تشاؤمه الظاهرى، يحتفظ بأمل جدلى فى إمكانية «التغيير الحقيقي» من خلال مواجهة التناقضات وكشف الحقائق المؤلمة. قد يرى جيجيك الماركسى وجهة نظرى أن العالم «مخلوق هكذا»، وأن هذا ناموس كونى ميتافيزيقا خائبة، ونوع من «التنصل» من المسؤولية الجماعية، لكنه إذا نظَرَ نظرةً واحدةً إلى مكتبته العامرة، ومؤلفاته، بل وكل ما أنتجته البشرية من أفكار وكتب، ثم جعل يتأمل السرّ وراء روح أزهِقَتْ دون ذنب، فلا جرم أن يدرك أن حلَّ المعضلة فى مكان آخر تمامًا، بعيد عن مداركنا.
باءت بالفشل جميع محاولات الفلاسفة لإرساء السلام العالمى (كانط مثلًا)، وبقيت مجرد أطروحات نظرية؛ ومن يرد أن يُصلح الإنسانية فليعمل عملًا صالحًا، وليُصلح ما بينه وبين نفسه وبين الناس، أو يواصل ما يريد أن يفعله. Good Luck.
الأدب أصدق أنباء من التنظير؛ ثمة رواية ملحمية هائلة نُشرت فى مطلع القرن المنصرم – قبل الحربين العالميتين - لم يلتفت إليها وقتذاك سوى نفر قليل من كبار الأدباء، آمل أن تصدر قريبًا، تنبأتْ بأحداث القرن العشرين بحذافيرها، بكل حروبه ونزقه (بل أكاد أقول بأسماء الدول المشاركة فى الحروب والملامح الجسمانية، والخلقية، والسلوكية لقادتها الذين نراهم اليوم سنة 2025!!!)، وألقت المسؤولية على كاهل الإنسان وحده ليختار، وهى تقول ما أقولُه: فكرة الاختيار/الاختبار، والأمانة التى عُرضت على الإنسان. تَظهر على خشبة المسرح لتعرف مهمتك أو لاتعرفها، ثم تنجزها أو لا تنجزها، ثم تغادر خشبة المسرح، ويأتى غيرك.
يستحق جيجيك المكانة التى يشغلها فى عالم التنظير الفكرى المعاصر؛ فالرجل باحث صادق عن الحقيقة، أيًا ما كان مصدرها. كتبتُ على صفحتى الشخصية ذات مرة تعليقًا عن مقابلة أجريت قبل سنوات بين جيجيك والفيلسوف الألمانى الكبير بيتر سلوتيردايك. كان اللقاء ممتعًا، تحاور الرجلان بودِّ واحترام وصدق، وهما على طرف النقيض سياسيًا وفكريًا، جيجيك دمه أخف بكثير، وحواديته وقفشاته لا تنتهى، قال إن أصدقاءه اليساريين لما علموا أنه سيقابل سلوتيردايك، سألوه بغضب: كيف ستقابل هذا «النازي»، كان ردّه: ربما نكون أعداء، ولكن مع عدو كهذا من يحتاج إلى أصدقاء؟ هذه الصداقة العجيبة على حد تعبير جيجيك نموذج دال على الجهل الشائع بين الناس تجاه ما لا يفقهون، وأن ما يجمع بين الرجلين - فى اعتقادى - أكبر مما يفرق بينهما فى القضايا الأساسية كما سيلاحظ من يشاهد اللقاء، وأن أكثر الناس واقعون فى أوهام أو أفكار يروجها أراجوزات السوشيال ميديا.
النقطة الثانية إشارة جيجيك الذكية إلى أطروحات حول فويرباخ لماركس، (أطروحة 11)، وهى أن بيت القصيد هو تغيير العالم، لا تفسيره/فهمه، فيعكسها جيجيك «الماركسى العتيد» ويقول إننا فى القرن العشرين، ربما سعينا لتغيير العالم بسرعة مفرطة، دون أن نفهم تمامًا عواقب ما كنا نفعله.
أما اليوم فقد آن الأوان، ليس لتغيير العالم، بل لفهمه فهمًا عميقًا، وإننا صرنا اليوم نفتقد إلى (Cognitive Mapping) خارطة طريق معرفية أو بوصلة ترشدنا لفهم ما الذى يجرى حولنا، ولعل فى هذا الكتاب ما يقدِّم جوابًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.