رسميًا.. موعد إعلان نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 المرحلة الأولى    استقرار نسبي في أسعار العملات الأجنبية والعربية أمام الجنيه المصري مع تراجع طفيف للدولار    الشرع: مفاوضات مباشرة مع إسرائيل والتقدم نحو اتفاق وشيك    اجتماع لوزراء خارجية مجموعة السبع في كندا في ظل تصاعد التوترات بين واشنطن وحلفائها    تسع ل10 آلاف فرد.. الجيش الأمريكي يدرس إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من غزة    موسكو تحذر من عودة النازية في ألمانيا وتؤكد تمسكها بالمبادئ    القوات الجوية السعودية و الدفاع الجوي تواصلان مشاركتهما في تمرين مركز الحرب الجوي الصاروخي    سبب استبعاد ناصر ماهر من منتخب حلمي طولان وحقيقة تدخل حسام حسن في إقصاء اللاعب    مشاجرة بين الإعلامي توفيق عكاشة وعمال بسبب سور تنتهى بالتصالح    قلبهم جامد.. 5 أبراج مش بتخاف من المرتفعات    لتجنب زيادة الدهون.. 6 نصائح ضرورية للحفاظ على وزنك في الشتاء    «الجبهة الوطنية» يُشيد بسير العملية الانتخابية: المصريون سطروا ملحمة تاريخية    800 للجنيه دفعة واحدة.. ارتفاع كبير في سعر الذهب اليوم بالصاغة والشعبة تكشف السبب    اتهام رجل أعمال مقرب من زيلينسكي باختلاس 100 مليون دولار في قطاع الطاقة    نائب محافظ الإسماعيلية يتفقد مستوى النظافة العامة والتعامل مع الإشغالات والتعديات    مواجهة قوية تنتظر منتخب مصر للناشئين ضد سويسرا في دور ال32 بكأس العالم تحت 17 سنة    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواصل استعداداته لمواجهتي الجزائر (صور)    التعليم تحسم الجدل بشأن تحويل طلاب الابتدائي صغار السن بين المدارس 2025-2026    النيابة تطلب تحريات سقوط شخص من الطابق ال17 بميامي في الإسكندرية    حبس المتهم بالتسبب في وفاة والدته بعيار ناري أثناء لعبه بالسلاح بشبرا الخيمة    قبل غلق اللجان الانتخابية.. محافظ الأقصر يتفقد غرفة العمليات بالشبكة الوطنية    فى عز فرحتها مانسيتش مامتها.. مى عز الدين تمسك صورة والدتها فى حفل زفافها    الحسيني أمينا لصندوق اتحاد المهن الطبية وسالم وحمدي أعضاء بالمجلس    علشان تنام مرتاح.. 7 أعشاب طبيعية للتخلص من الكحة أثناء النوم    انتخابات مجلس النواب 2025.. بدء عمليات الفرز في لجان محافظة الجيزة    انتخابات مجلس النواب 2025.. محافظ الفيوم يتابع أعمال غلق لجان التصويت في ختام اليوم الثاني    بيان رسمي من خوان بيزيرا بشأن تجاهل مصافحة وزير الرياضة بنهائي السوبر    «ميقدرش يعمل معايا كده».. ميدو يفتح النار على زيزو بعد تصرفه الأخير    «ستأخذ الطريق الخاطئ».. ميدو يحذر حسام عبد المجيد من الانتقال ل الأهلي    منتخب مصر يستعد لأوزبكستان وديا بتدريبات مكثفة في استاد العين    كرة سلة - الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025    السياحة تصدر ضوابط ترخيص نمط جديد لشقق الإجازات Holiday Home    وفد السياحة يبحث استعدادات موسم الحج وخدمات الضيافة    أمطار غزيرة وثلج .. بيان مهم بشأن حالة الطقس: 24 ساعة ونستقبل العاصفة الرعدية    في ظروف غامضة.. سقوط فتاة من الطابق الرابع بمنزلها بالمحلة الكبرى    مصرع شخص غرقًا في دمياط والأهالي تنتشل الجثمان    نقيب الإعلاميين: الإعلام الرقمي شريك أساسي في التطوير.. والذكاء الاصطناعي فرصة لا تهديد.    ارتفاع حصيلة ضحايا إعصار فونج-وونج بالفلبين ل 25 قتيلا    المستشار بنداري يشيد بتغطية إكسترا نيوز وإكسترا لايف ووعي الناخبين بانتخابات النواب    مي سليم تطلق أغنية "تراكمات" على طريقة الفيديو كليب    السفير التركي: العلاقات مع مصر تدخل مرحلة تعاون استراتيجي شامل    قلق وعدم رضا.. علامات أزمة منتصف العمر عند الرجال بعد قصة فيلم «السلم والثعبان 2»    6 أبراج رجال «بيحبوا الأكل السبايسي».. مغامرون يعشقون الإثارة ويتلذّذون بطعم الفلفل الحار والتوابل    لماذا نحب مهرجان القاهرة السينمائي؟    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. روسيا تمنع 30 مواطنا يابانيا من دخول البلاد.. اشتباكات بين قوات الاحتلال وفلسطينيين فى طوباس.. وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلة يقدم استقالته لنتنياهو    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025    أخطاء تقع فيها الأمهات تُضعف العلاقة مع الأبناء دون وعي    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل رئيس نادي قضاه الأسكندرية    استجابة من محافظ القليوبية لتمهيد شارع القسم استعدادًا لتطوير مستشفى النيل    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    نقل جثمان نجل مرشح مجلس النواب بدائرة حلايب وشلاتين ونجل شقيقته لمحافظة قنا    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يمكن لكيركجارد ..أن يغيّر حياتك؟
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 05 - 08 - 2024


أحمد الزناتي
لم يُخفِ سورين كيركجارد يوماً ولعه باستخدام الأسماء المستعارة، فكرة البُدلاء. نشر معظم أعماله تحت أسماء منتحلة، منطلقاً من أسباب جمالية خالصة، فالعمل الفنى الجيد عنده خدعة. لكنه يعود فيقول على المرء ألا ينخدع بكلمة خدعة، وهى خدعة داخل خدعة.
كانت شخصيات كيركجارد المستعارة قريبة منه بحيث لا يكف عن العراك معها: خصم لدود، أو بتعبير عبد الرحمن بدوي: «معركة الجندى فالانتين ضد إبليس» فى فاوست، وكأنه يحارب عدواً لا يستطيع أن يراه لكنه مع ذلك يطعنه فى الصميم ولا يقدر على ردّ طعناته، أو حتى تجنبّها.
الكتابة عن كيركجارد معقدة، ولها مداخل كثيرة، لذلك جميل أن نرى مَن يُقَّدم للقاريء أفكاره الأساسية تقديمًا واعيًا، وأقصد بالوعى اشتباكه مع القضايا الحياتية، وهو ما نجح فيه كتاب نُشر مؤخرًا على موقع مؤسسة هنداوى بعنوان: كيف تقرأ كيركجارد (وإنْ كانت صورة الغلاف هى فى الحقيقة لأرتور شوبينهاور فى شبابه قبل الصَلَع، وليست لكير كجارد) والكتاب منشور بترجمة جديرة بالتنويه والإشادة للأستاذة دعاء شاهين، التى آمل أن تواصل نقل هذه النوعية الممتازة من الكتب.
ترجمتُ فقرات من يوميات سورين كيركجارد مع تعليقات ستصدر فى أحد كتبى القادمة، وكتبت عنه فى عمل صدر قبل بضع سنوات، مقارنًا بينه وبين فيرناندو بيسوا ومحى الدين بن عربى فى كتابه الأعقد العبادلة: فكرة الأبدال/البدلاء، ومع ذلك فأفكاره معين لا ينضب.
يذكر د. إمام عبد الفتاح إمام فى مقدمة كتابه الضخم المكون من جزءين عن حياة كيركجارد وأعماله (الجزء الأول- دار الثقافة، 1982)، عبارة يصف فيها كيركجارد بقوله: كان يريد لفلسفته أن تكون تعبيرًا عن وجوده الخاص الذى هو نسيج من المتناقضات، ولكن كيف؟
يرجع الدارسون سبب كتابة أعماله الفلسفية والأدبية بأسماء مستعارة إلى شخصية كيركجارد نفسها. كان كيركجارد مزيجًا من صفات متناقضة؛ صفات تجمع بين الاحترام والاحتقار، والتوقير والازدراء، والمزاج السوداوى والهَزل.
الطريف أنى قرأت مرة مقالة ساخرة لفيلسوف ألمانى كبير اسمه بيتر سلوتيردايك، وقال إن الأحوال اليوم انقلبت، تتواصل الأسماء المستعارة، ولكن بطريقة أكثر اشتراكية، فهذا يضع اسمه على رواية من تأليف غيره، وهذا يضع اسمه على عمل من ترجمة غيره، وسمّاها «رحابة صدر العولمة».
فى اعتقادى أهم ملمح مميز لفلسفة كيركجارد – وفق قرائتى الخاصة - هو محاولة فهم قَدَرِه فى هذه الحياة، ومحاولة إشعال سِراج يهتدى بنوره كل يوم. يحمل الفصل الأول عنوان الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ، يقول المؤلف: «ما أحتاج إليه فعلًا هو أن أحسم ما أنا عازم على فعله، لا ما يجب أن أعرفه، لولا أن المعرفة يجب أن تسبق كل الأفعال. إنها مسألة تتعلق بفهمٍ قَدَري، أن أرى ما يريدنى الله أن أفعله؛ الأمر يتعلق بإيجاد حقيقة تكون حقيقية بالنسبة إليَّ، إيجاد الفكرة التى أكون على استعدادٍ للعيش والموت من أجلها». أظن أن محاولة تقبّل كل إنسان لقَدَره هى أعزّ ما يُطلب، بل هى غاية الكتابة والقراءة والعمل والزواج والحب، وكل شيء، ويبقى المرء عاقلًا ما دام يحاول استيعاب قَدَره وقبوله، أما محاولة تغيير القَدَر أو السَخط عليه فعلامة على حماقة لا دواء لها.
بحسب المؤلف لا تعنى عبارة «حقيقة تكون حقيقية بالنسبة إليَّ» أن الحقيقة اعتباطية أو محكومة بالهوى الشخصي، أو أن للفرد الاعتقاد فيما يحلو له. لكنها تشير – وفق تأويلى – إلى ضرورة تطوير تصور، أو فكرة أو مبدأ نابع من أعماق الإنسان، يغير حياته، والتغيير هنا تغيير العقلية، وزاوية النظر إلى الأمور.
تعنى عبارة (الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ)، الحقيقة التى تغيّر حياة المرء، ولذلك اخترت عنوان المادة كسؤال بلاغى ، لا يرمى إلى إجابة :كيف يمكن لكيركجارد أن يغيّر حياتك، ليس انطلاقًا من رغبة شخصية مني، فليس دوري، ولا حتى من بين اهتماماتى إقناع أحد بشيء، غاية ما هناك أن نتأمل كُقرّاء كيف تعامل كيركجارد مع مآسى حياته.
فى فصل بعنوان «العصر الحالي» (والحق أنى تحيرت: أهذا قلم رجل من أبناء القرن الثامن عشر أم فى سنة 2024؟) يقول المؤلف إن كيركجارد عاش فى بداية عصر وسائل الإعلام الجماهيرية، والمتمثِّلة فى الصحافة وقتها. ومثله كمثل نيتشه وهايديجير لاحقًا (والثلاثة من أشرس أعداء الديمقراطية)، شعر بالقلق من تأثير وسائل الإعلام والمؤسسات الحديثة المناصرِة للمساواة فى شيوع المعلومات [وتنبّه إلى خطورة التقنية قبل هايديجير بعقود]، والهادفة إلى ما أطلق عليه «إلغاء الفروق بين الأفراد»، ورآه كارثة محققة.
بحسب تيرى إيجلتون فى كتابه الأهم مشكلات مع الغرباء: «كيركجارد نُخبوى يهاجم الرعاع دون تقيّد؛ إذ يؤمن بأن عددًا قليلًا جدًّا من الرجال والنساء قادرون على أن يَظهروا بحقيقتهم. فالديمقراطية هى عكس الوجود الحقيقى للفرد».
ينتقد كيركجارد فى هذا الفصل قاعدة راسخة من قواعد الليبرالية تضع المظهر قبل الجوهر، وتؤثر إطلاق اللسان على إطلاق العقل للتفكير، إذ يلغى الرأيُ العام الفرق بين الإخفاء والإفشاء من خلال التحدث عما يجيش فى صدورنا دون إتاحة الوقت الكافى لنضج الأفكار داخلنا.
يلغى العامَّة أيضًا الفرقَ بين الشكل والمحتوى، فبدلًا من أن يمتلك الفرد مبادئ مستمدة من قضايا ينشغل بها، أو تمسّه بشكل مباشر أو حتى غير مباشر، يقول ويفعل أشياء دون أن يؤمن بها، بل يؤمن بها فقط من حيث المبدأ، بمعنى من باب الجدعنة، والسباحة مع الرائج، وكسر رتابة الحياة. مكمن الخطر فى اعتقادى هو تحويل البشر إلى أشباه، وإلى نسخ مكررة ذات تكوين عقلى هشّ يمكن توجيهها بسهولة.
خشى كيركجارد أن يضيع عقل الفرد ووعيه وسط غوغائية الجموع مجهولى الهوية (الرأى العام أو الفضاء الأزرق اليوم) وهو ما يُطلِق عليها هايديجير لفظة «هُمْ يقولون/يقال: Man sagt».
الرأى العام بحسب كيركجارد كيان فضفاض مبهم، لا يعترف أحد أنه جزء منه؛ هو رأى عام يمتلك نفوذًا كبيرًا، لكنه لا أحد بعينه، كل فرد يتقصى الحياة الشخصية لكل فرد، ويسخر من كل فرد ومن كل رأي، بغرض تشويه صورته وتحقيق مآرب شخصية، أو تعويض الشعور بنقصٍ ما، وليس للصالح العالم كما يُزعم.
كان كيركجارد ونيتشه وهايديجير محافظين متشددين سياسيًّا، لأنهم أدركوا كارثة انتشار الأبواق فى أفواه الجميع. وأظن أن بعض الناس معذور، فبعضهم أو لنقل شريحة منهم موهبتهم/بضاعتهم الوحيدة محصورة فى الثرثرة، وهى أحد أعراض الوجود الزائف (Uneigentlichkeit) بحسب هايديجير، حيث تميل الذات إلى الانخراط فى لغو الرأى العام، واختلاق أية قضية وهمية أو مصطنعة بقصد الاشتباك معها على أمل الهروب من مواجهة الأزمات والتنصل من الواجبات؛ أما الإنتاج الفكرى الحقيقى فمسألة ثانوية، أو – وهو الأرجح فى رأيى - ربما تتجاوز قدراتهم. فى هذا التيار لا اعتبار لقيم الإنتاج، السعي، العمل، النتيجة؛ المهم الإدلاء بالدِلو.
فى تفسيره لفكرة كيركجارد يرى المؤلف أن ثرثرة العامّة تبطِل التمييز بين أن يكون لديك شيء حقيقى لقوله، حين يكون الكلام واجبًا، وأن تعرف متى تصمت، وهو علامة على التوجّه نحو الحقيقة.
لا يصمت الثرثار أبدًا، لكنه لا يفلح أيضًا – كعادته - فى قول شيء ذى قيمة أو تقديم حل عملى لأى شيء، والسبب بسيط فى تفسيري، أنه لا يملك شيئًا من الأساس لقوله/كتابته. هو يتظاهر بأنه يقول ويكتب ويُحلل، لكنه فى الحقيقة لا يقول ولا يكتب ولا يُحلل على رأى توماس بيرنهارد.
ثمة موضوع يُصنع يوميًا (رأى عام، تريند، إلخ..)، يقوده ويوجّه كلامه وأفكاره واهتماماته وأعصابه، ثم يبدأ يوم جديد بموضوع جديد، والسبب جفاف ماء ذهنه، لأنه يسقيه بأشياء أخرى.
يضيف المؤلف نصًا: «تلغى العامة الفرق بين الحقيقة الذاتية والموضوعية، فنجد المرء يجازف بإبداء رأيه فى أى شىء وكل شيء، بعد أن التقط هذا الرأى أو ذاك من الصحف وبدلًا من فهم معطيات الواقع، تُردد العامة ما يقوله الآخرون وهو ما يصفه كيركجارد بأنه نوع من الضوضاء، شيء أشبه بخشخشة الآلات».
سأمرّ سريعًا على فصل فارس الإيمان، وسبب المرور الخاطف هو وجه الشبه العجيب، الجدير بالتأمّل بين رؤيتيْن من فترتين زمنيتين متباعدتين، والحق أننى ربطتُ بين الفكرتين وبين أية مصيبة أو كارثة تنزل بالإنسان فى حياته.
أشد ما لفت انتباهى هو تأويل كيركجارد لواقعة ذبح نبى الله إبراهيم عليه السلام لابنه وفق الرؤيا المنامية (وهو محور كتاب ذهول ورعدة طبعًا)، سأنقل فقرة، وأربطها بتأويل مشابه ذكَرَه الشيخ الأكبر فى فصوص الحِكم (سأعتمد هنا على شرح عبد الرحمن الجامى للفصوص).
ولكن بدايةً: مَن مِنا فهم منطق الله بتعبير كيركجارد، أو حكمة الله وتقديره فى علمِه الأزلي؟ مَن منا فكَّر وقدَّر، ثم فكَّر وقدَّر، ثم أصابت حساباته؟ بالعكس فكل التقديرات والحسابات والتدبيرات البشرية تثبت خطأها وقصور رؤيتها.
يقول كيركجارد:»لم يفهم إبراهيم منطق الله، لكن إيمانه كان مبنيًّا على التصديق فى اللا معقول، لأن كل حسابات البشر لم تعد تصلح منذ وقت طويل. يحمل مؤلف هذا النص الذى يحمل الاسم المستعار يوهانس دى سيلينتيو (يوحنا الصامت)، ويلمِّح الاسم إلى الموقف العصى على الفهم، الذى وجد إبراهيم نفسه فيه.
لقد اختُزل موقف إبراهيم فى الصمت؛ فهو لا يستطيع أن يشرح للآخرين ما الذى يفعله لأنه لا يفهمه هو نفسه. كان الله يختبر إيمان إبراهيم، ولم يكن يلعب معه لعبةً لاختبار كم هو قادر على المراهنة.
لقد وثق إبراهيم بالله، ولم يكن يراهن على أن الله سيتراجع عن موقفه فى هذه اللعبة المحفوفة بالمخاطر. لأنه لو كان الأمر كذلك، لكنا سنتذكر إبراهيم لا باعتباره أبا الإيمان بل أبا المراهنة» (انتهى الاقتباس).
لننتقل إلى الفقرة التالية، التى يأوّل فيها الشيخ الأكبر الواقعة نفسها؛ يقول الجامى فى شرح فص (حكمة مهيمنية فى كلمة إبراهيمية):
«كان إبراهيم الخليل صلوات الله عليه قبل هذا المقام مُعَوَّدًا بالأخذ من عالم المِثال الذى من شأنه أن تطابق الصورُ المرئية الصورَ الظاهرة فى الحسّ من غير اختلال.
أراد الله سبحانه أن يُظهر فى عالم الحس صورة لتحققه فى الفناء، وهى ذبح الكبش، وأوقعَ الحق تعالى فى وهمه أن ذبح ابنه هو المقصود بعينه بناءً على ما اعتاد نبى الله على الأخذ منه من عالم المثال. فاعتقَدَ صِدق ما وقع فى وهمه من ذبح ابنه، فانقاد له ابنه، فظهر سرّ كمال الاستسلام والانقياد إلى أمر الله، فجعل الله سبحانه الذبحَ العظيم فداءً لابنه، وأنقذه من الذبح. فاض عليه المعنى من مرتبة أخرى فوق عالم المِثال (راجع: الجاذب الغيبى إلى الجانب الغربى فى حل مشكلات الشيخ محى الدين بن عربي، البرزنجي، 2021، ص:270).
نقرأ فى سفر أيوب:(من هذا الذى يظلم القضاء بكلامٍ بلا معرفة؟ اشدد الآن حقويك كرجل، فإنى أسألكَ فتعلّمني) (أيوب 3:38).
فى فصل بعنوان «السأم من هذه الحياة»، يستهل المؤلف الكلام بالعبارة الآتية: «قدَرُنا فى هذه الحياة أن نُدفع إلى أقصى درجات السأم من الحياة، ومَن وصل إلى هذه النقطة وهو يصر على أن الله هو من دفع به إلى هذه المرحلة، بدافع الحب، قد اجتاز امتحان الحياة [الابتلاء] وأصبح ناضجًا للأبدية. يرى كيركجارد أن هؤلاء فقط عندما يُقتادون إلى حد السأم من الحياة، ويستطيعون، بعون من فضله، أن يصروا على أن الله يفعل هذا بدافع الحب، بمعنى أنهم لا يضمرون أى شك فى أرواحهم، يفوزون.
هى بالطبع رؤية لا معقولة/غيبية، بل من المؤكد أنها ستثير امتعاض وسخرية كثيرين أكثر مما تشفى غليلهم، لأنها لا تقدم لهم تفسيرًا ملموسًا منطقيًا مقنعًا، لكنها مسألة شائكة صارت شغلى الشاغل الفترة الأخيرة، والموضوع أعقد بكثير مما يظن المرء للوهلة الأولى، قد أفرِدُ له مادة مستقلة مستقبلًا، أومل أن يكتمل فى كتاب منفصل.
فى عمل لفيلسوف غربى مرموق تصدر ترجمته قريبًا بمشيئة الله، واصَل المؤلف تقديم الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على أطروحته المادية، مِشيت معه سِكة للآخر، فقال فى النهاية: وإن لم يفلح كل ما أقولُه، فالحل الأخير إذن فى كارثة كونية تدمّر الأرض، أى أن الحل الأخير أيضًا لا معقول وغيبي، ولا يد له فيه!!
لكن السؤال الأهم: هل انتفع كيركجارد بما كتبه؟ وهل استطاعت أفكاره تغيير حياته؟ أو لو طرحنا السؤال بصيغة صحيحة: هل استطاع بمساعدة فلسفته أن يتهيَّأ لاستقبال تصاريف القَدَر؟
الأيام الأخيرة المريرة فى حياة كيركجارد، وأقصد مرضه الأخير وتحوّله إلى هيكل عظمى، وإلى رجل مشلول عاجز عن الحركة والكلام والتنفس والأكل والشرب ولم يناهز بعد الثانية والأربعين، لَهِى خير شاهد على أنه استطاع تطوير أفكار شخصية وفلسفة حياة لكى يفهم قَدَره، ويحبه Amor Fati.
ولو أراد القاريء الاستزادة فعليه بالرجوع إلى سيرة حياة كيركجارد (يوكيم غارف، المدى 2019)، وتحديدًا الصفحات من 928 إلى 932، ولسوف يقرأ تفاصيل مروّعة يدمى لها القلب. فى عبارة من آخر من قال كيركجارد إلى أحد أصدقائه قُبيل موته نقرأ العبارة الآتية :
«أصلى إلى الله طالبًا المغفرة عن خطاياي، عسى القدير أن يغفر لى كل شيء، انقِلْ تحياتى إلى الجميع، أحببتهم كلهم كثيرًا، لست رجلًا مغرورًا أبدًا.. قل لهم إن حياتى معاناة كبرى، ومجهولة، ولا يمكن أن تُفسر للآخرين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.