في الوقت الذى كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يستعد للقاء ثالث هذا العام مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى البيت الأبيض، كان قد وجّه فريق المفاوضين الإسرائيليين بالتوجّه إلى الدوحة لمباشرة محادثات قد تفضى إلى اتفاق هدنة يستمر 60 يومًا. وبغض النظر عمّا ستُسفر عنه المفاوضات، فإن ما مضى من وقت أثبت أن نتنياهو يتلاعب بجميع الأطراف، ويمنح كل طرف ما يرغب فيه، بينما يضمن لنفسه ما يريد. ◄ إقامة المزيد من المستوطنات ومد الطرق يزيد الضفة انقسامًا ◄ نتنياهو يريد القتال المستمر حتى دون هدف واضح ◄ «هاآرتس»: إسرائيل تقود نفسها إلى حرب لا نهاية لها أما الرئيس الأمريكى، وعائلات الأسرى، فيرغبون فى هدنة تؤدى للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين فى قطاع غزة. فيُقرّر لهم نتنياهو بين وقت وآخر إرسال المفاوضين، وكأن مجرد إرسالهم هو علامة على رغبته فى وقف الحرب. وفى حين يرغب ائتلافه اليمينى المتطرف فى مواصلة القتال، يؤكد نتنياهو أن إسرائيل ماضية فى حربها، بهدف معلن يتمثل فى استعادة الأسرى والقضاء على حماس. وعندما أصرّ جيش الاحتلال، سرًا وعلانية، على وجود خطة سياسية تُكمل ما بدأه فى القطاع وتُقدّم تصورًا لليوم التالى، عمد نتنياهو إلى تغيير القادة الأمنيين للتخلص من هذه الانتقادات والضغوط. أما ما يريده شخصيًا فهو استمرار القتال، حتى دون هدف واضح أو ملموس يمكن تحقيقه. ورغم كل الانتقادات الداخلية له على ألسنة زعماء المعارضة، لم تتعرض حكومة نتنياهو حتى الآن لتصويت واحد بسحب الثقة. وهو ما يعنى أمرين: أولًا، أن دعائم حكومته اليمينية قوية بما يكفى لحماية بقائها وبقائه فى رئاسة الوزراء؛ وثانيًا، أن المعارضة، رغم اختلاف أطيافها، أضعف من إزاحته، أو ببساطة لا ترغب فى خوض معركة «إنقاذ إسرائيل» حاليًا، وتكتفى بتوجيه التهم فى إطار دعاية انتخابية مبكرة للانتخابات العامة المقبلة. وهناك احتمال ثالث، وهو أن الجميع حكومة ومعارضة يرى أن ما يحدث، رغم الخسائر التى تكبدتها إسرائيل حتى الآن، يخدم مصالحها على المدى الطويل. وكيف لا؟ وما يحدث فى الضفة الغربية خير مثال. فبينما ينشغل العالم بعدوان إسرائيل على غزة، تبدو الضفة منسية تمامًا، وتُستباح أراضيها من قِبل جيش الاحتلال والمستوطنين دون أى رادع. ◄ حرب الضفة تشهد مدن الضفة الغربيةالمحتلة تصعيدًا ممنهجًا فى وتيرة الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، مع استمرار حملات الاعتقال والاقتحام اليومية من قوات الاحتلال. وبحسب بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، أدت اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال إلى تهجير نحو 30 تجمعًا فلسطينيًا منذ بدء عدوان إسرائيل المتزامن مع الحرب على غزة، ويقطن فى كل تجمع مئات الفلسطينيين. وقبل يومين، نقلت إذاعة «مونت كارلو» الفرنسية تقريرًا أفاد بحدوث نزوح شبه كامل من مخيم جنين، يُقدَّر ب100% من السكان، أى نحو 20 ألف شخص. ومن مخيمات طولكرم، نزح نحو 30 ألفًا آخرين، موزعين بين بيوت أصدقاء، جمعيات، مدارس، أو عائلات، لكن فعليًا هم بلا مأوى وقد أجبروا على النزوح قسرًا. كما أنذر جيش الاحتلال مؤخرًا بهدم أكثر من مائة منزل فى طولكرم. ◄ ساحة الرعب أضاف التقرير، أن ما يجرى هو عمليات عسكرية واسعة تعوق حتى حرية التنقل، إذ يوجد حاليًا نحو 960 حاجزًا عسكريًا إسرائيليًا تعوق حركة الناس والصحفيين. وأشار إلى أن المستوطنين حوّلوا الضفة إلى ساحة رعب، تحت حماية الجيش الإسرائيلى. ويُسجل يوميًا اعتداءات على الطرق والمنازل، وحرائق فى الحقول والسيارات، وإطلاق نار بهدف الترهيب والتهجير وفرض واقع جديد. ومنذ 20 شهرًا، قتل المستوطنون 26 فلسطينيًا ونفذوا 5000 اعتداء، بينها عمليات حرق، أدت إلى تهجير نحو 1200 فلسطينى. ويشكّل المستوطنون خطرًا كبيرًا، إذ هم محميون من الجيش الإسرائيلى، وقد طالب نواب ووزراء من «الليكود» بضم الضفة الغربية رسميًا. وتعد معظم دول العالم المستوطنات فى الضفة الغربية التى تعزل المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض انتهاكًا للقانون الدولى. ومع إقامة المزيد من المستوطنات ومدّ الطرق، تزداد الضفة تقسيما، مما يقوّض الآمال فى أرض متصلة جغرافيًا يمكن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة عليها. وقد ازدادت جرأة السياسيين الإسرائيليين المؤيدين للاستيطان مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. ◄ كمائن الموت وبينما تواجه إسرائيل اتهامات وإدانات دولية متصاعدة، خصوصًا بسبب «كمائن الموت» عند مراكز توزيع المساعدات، فوجئ العالم بخبر «هجوم إرهابى»، كما وصفته الصحف العبرية، استهدف مركز مساعدات يديره الأمريكيون، وأسفر عن إصابة اثنين منهم. يصعب تفسير هذا الحادث ضمن الرواية العبرية وحدها، كما لا يمكن استبعاد تورط الموساد أو جيش الاحتلال فى تدبيره. وقد تسعى إسرائيل من خلاله إلى الادعاء بأن العنف فى مناطق توزيع المساعدات لا يصدر فقط عنها، بل هناك «هجمات مسلحة» تنفذها مجموعات فلسطينية. وقالت صحيفة «جيروزاليم بوست» إن مؤسسة GHF «حذّرت مرارًا من تهديدات موثوقة من حماس، بما فى ذلك خطط صريحة لاستهداف موظفين أمريكيين وعمال إغاثة فلسطينيين ومدنيين يعتمدون على مواقعنا للحصول على الغذاء». ومؤسسة GHF، أو Gaza Humanitarian Foundation، هى مؤسسة أمريكية-إسرائيلية لتوزيع المساعدات الإنسانية بغزة. تأسست فى فبراير 2025 وبدأت أنشطتها فى مايو، وتركز على توزيع الغذاء والطوارئ. يقع مقرها الإدارى فى ولاية ديلاوير الأمريكية، وتدعمها ماليًا الحكومة الأمريكية وإسرائيل، بما فى ذلك 30 مليون دولار خصصتها USAID فى يونيو 2025. وتتعرض المؤسسة لانتقادات حادة من الأممالمتحدة ومنظمات إنسانية أخرى، إذ تُتهم باستخدام الغذاء كأداة سياسية، والتسبب بسقوط ضحايا فى مواقع التوزيع. وبحسب «جيروزاليم بوست»، فإن الهجوم يثير الجدل، خاصة بعد أن نُشرت تقارير إسرائيلية وأجنبية عن حوادث إطلاق نار قرب مراكز توزيع المساعدات أو المدنيين المتوجهين إليها. ◄ اليوم التالي وبينما يأمل كثيرون فى أن يؤدى التفاوض إلى صفقة توقف الحرب نهائيًا، نشرت صحيفة «هآرتس» العبرية تحليلًا يحذر من أن إسرائيل تقود نفسها إلى حرب لا نهاية لها، دون رؤية سياسية، عبر قرارات عسكرية تُنتج مقاومة أشد وتزيد فوضى المنطقة. وهاجم المقال سياسة إسرائيل تجاه غزة، معتبرًا أنها وقعت فى فخ «السيطرة على الأرض» دون خطة سياسية أو مدنية لما بعد الحرب. وأشار إلى أن تركيز إسرائيل على اغتيال قادة حماس فى الخارج مثل خالد مشعل وخليل الحية ظنًا منها أن ذلك يُعجّل بصفقة تبادل الأسرى، هو تفكير خاطئ، فاغتيالات أكبر لم تُحدث اختراقًا. كما تتعرض قطر التى تحتضن بعض قادة حماس لضغوط، رغم أن تأثيرها على التنظيم محدود. لكنها تبقى وسيطًا محوريًا لأنها كانت الممول الرئيسى لغزة، بموافقة إسرائيل. والمفارقة، بحسب المقال، أن الولاياتالمتحدة، التى طالما رفضت التفاوض مع «منظمات إرهابية»، أصبحت تتفاوض مع حماس مباشرة، بعدما تحولت الحرب إلى «جحيم» لا يُحتمل. وتستند استراتيجية إسرائيل الحالية إلى تهجير سكان شمال غزة نحو الجنوب، بزعم تسهيل القضاء على حماس دون قيود مدنية. ومع أن الجيش يزعم سيطرته على 75% من القطاع، فإن المعارك لا تزال مستمرة، والرهائن داخل الأنفاق، والجنود يُقتلون، مما يطرح تساؤلات حول جدوى السيطرة المزعومة. وأشار التحليل إلى تناقض بين الأهداف: فاغتيال قادة حماس فى الخارج مرتبط بملف الأسرى، بينما السيطرة على الأرض تهدف نظريًا للقضاء على التنظيم. لكن فى الواقع، تتجاهل السياسة الإسرائيلية أن الخطر لا يكمن فى حماس وحدها، بل فى أكثر من مليونى فلسطينى يعيشون كارثة إنسانية غير مسبوقة: مجازر، دمار، مجاعة، أمراض، وفقدان أمل. ◄ الفخ.. والأوهام ولا تُحلّ الأزمة الإنسانية بشاحنات مساعدات تُدفع غزة ثمنها دمًا. فالمقاومة، مهما تغيّر اسمها، ستعود بأشكال جديدة، دون الحاجة لصواريخ بعيدة المدى، كما حدث فى أفغانستان والعراق ولبنان، فإن الاحتلال هو الجزء «الأسهل»، أما إدارة ما بعده فهى الفخ الحقيقى. أما أحلام «نقل» الغزيين إلى دول أخرى – كما طرح بعض المسئولين – فهى أوهام قد تُنهى مسار التطبيع مع دول فى المنطقة، وتُهدد اتفاقيات السلام مع مصر والأردن. وفى غياب خطة لإدارة غزة خلال وقف إطلاق النار أو بعد الحرب، ستبقى إسرائيل مسئولة عن مصير السكان، إذا ما قررت احتلال القطاع. أخيرًا، بينما يسعى نتنياهو للظهور بمظهر المفاوض مع واشنطن بشأن التهدئة فى غزة، تشير الوقائع إلى أنه يماطل ويتلاعب بجميع الأطراف. فهو يُرسل مفاوضين لإرضاء أمريكا وعائلات الأسرى، ويرضى اليمين المتطرف بإبقاء الحرب مشتعلة، وحتى حين طالب الجيش بخطة سياسية لليوم التالئ، أطاح بقياداته لتفادى الضغوط. وبالرغم من الانتقادات الداخلية، لم تهتز حكومته، مما يعكس هشاشة المعارضة أو تواطأها الضمني، وتحذّر تقارير من أن إسرائيل تمضى فى حرب لا نهاية لها، دون رؤية سياسية، مع تفاقم الكارثة الإنسانية فى غزة، واستمرار التهجير فى الضفة. وبينما تحلم إسرائيل بحل عبر التهجير، تبقى الحقيقة أن المقاومة ستعود، وقد يكون الاحتلال بداية مأزق أخطر لإسرائيل.