منذ ما يقرب من نصف قرن، وبالتحديد فى صيف 1981، حلّقت الطائرات الإسرائيلية على ارتفاع منخفض لتقصف مفاعل تموز فى بغداد، معلنة أنها تفعل ما تريد وقتما تريد، ولا صوت يعلو فوق صوت التفوق الإسرائيلى. لم تكن الضربة مجرد عمل عسكرى ناجح، بل كانت رسالة سياسية مفادها: «أننا لن نسمح بأى مشروع نووى عربى، حتى ولو كان سلميًا، وأن مجرد التفكير فى الخروج من الحيز الذى تريده إسرائيل لتلك البلدان، سيُقابَل بنفس المصير ولن يدعمها أحد.» وبعد عقود، يتكرر المشهد المؤلم فى طهران ونطنز وأصفهان، وإن بوسائل أكثر تطورًا وخطورة، «اغتيالات سياسية وعلمية، هجمات سيبرانية، طائرات مسيّرة ومقاتلة، عمليات استخباراتية دقيقة» كلها نُسبت لإسرائيل أو تُركت دون تبنٍ واضح، إلا أنها حملت نفس البصمة القديمة، ونفس الرسالة تقريبًا، التى أكدت ولا تزال: «أن المشروع الصهيونى باقٍ، والتفوق ينبغى أن يستمر لإسرائيل فقط.» فى كلتا الحالتين – تموز وأصفهان – كانت الصواريخ تتحدث بصوت عالٍ، بينما العرب صامتون. فى العراق، كانت الأمة العربية منشغلة بخلافاتها وصراعاتها وانقساماتها، بين من يرى ضرورة ترك صدام لوحده فى الساحة كى لا يمتلك مفاعلًا نوويًا يهدد به جيرانه، ولا يقدر على التحكم فى زمام المبادرة، ومن يرى أن امتلاك العراق لمفاعل نووى بمثابة امتداد للتيار العروبى المقاوم لإسرائيل. وفى المجمل، لم يصدر أى تحرك حقيقى، كما لم يتبلور موقف حقيقى، بل اكتفت العواصم العربية ببيانات خافتة أقرب للمجاملة منها إلى الموقف. وفى الحالة الإيرانية، فالوضع أكثر فجاجة، فهو ليس فقط صمتًا، بل ربما رضا مكتوم من بعض الدول الخليجية التى ترى فى إيران تهديدًا وجوديًا لها، لذلك غضّت الطرف حتى تصل إسرائيل لمبتغاها، الأمر الذى يؤكد أن الليلة لا تختلف مطلقًا عن البارحة، والسكوت عن ضرب إيران اليوم، هو نفسه الذى سمح بضرب العراق بالأمس، وهو ما قد يفتح الطريق غدًا لاعتداء إسرائيل على أى طرف آخر يخطط لتجاوز ما تسمح به إسرائيل. ما يزيد المشهد ظلامًا، أن الرئيس الأمريكى وقت الضربتين، لم يكن محايدًا فى أية لحظة، فقد اكتفت إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق «رونالد ريغن» بالإدانة اللفظية لما ارتكبته إسرائيل ضد المفاعل النووى العراقى، بينما تغاضت لاحقًا عن استمرار التفوق العسكرى الإسرائيلى. أما اليوم، فالتواطؤ لم يعد خفيًا، بل معلنًا فى تصريحات ترامب من نوع: «لن نسمح لإيران بامتلاك سلاح نووى، وعليها القبول والإذعان لما تراه واشنطن، وكل الخيارات على الطاولة». وهى تصريحات تؤكد أن واشنطن لا تقف فى المنتصف، وإنما تنحاز لإسرائيل، وتدعمها استخباراتيًا، وتغطيها سياسيًا، وتحميها عسكريًا وأمميًا. رغم هذا الوضوح الصارخ، يظل الموقف العربى باهتًا، ضعيفًا، مفككًا، لا أحد يتحرك، ولا أحد يُحاسب أو يُتوقع أن يُحاسب. والأسوأ والأدهى أن الأموال تُضخ بالمليارات لواشنطن، من خلال صفقات استثمارية وتسلحية ضخمة، يعلم أصحابها – قبل غيرهم – أنها لن تُصرف لحماية «مكة أو القدس أو...»، بل ستنتهى لمصانع الأسلحة التى تحفظ لإسرائيل قوتها وتفوقها العسكرى، وترهن عموم البلدان العربية والإسلامية لإرادة البيت الأبيض. ما بين قصف بغداد وقصف أصفهان، لم يتغير شيء سوى أسماء الضحايا. أما الفاعل فواحد، والراعى واحد، والمشاهدون هم نفس المشاهدين، والصامتون لا يزالون صامتين. لم يحاول العرب استيعاب الدرس، وبقوا فى موقع «المفعول بهم» إيثارًا لسلامة لن ينعم بها الحكام أو الرعية، ليبقى السؤال: إلى متى سيظل القرار العسكرى الإسرائيلى مرتبطًا فقط بتوقيت القادة فى تل أبيب وواشنطن؟! وإلى متى تنتظر الشعوب العربية من يُضرب تاليًا، بدلًا من أن تسأل نفسها: لماذا لم نمنع الضربة الأولى؟! لقد بات من المؤكد أن ما فشلت فيه الأمة العربية بالأمس، لا تزال فاشلة فيه اليوم، وما بين ضرب المفاعل النووى العراقى والمفاعلات النووية الإيرانية، يبقى المشروع الصهيونى منتصبًا، مزودًا بسلاح الغرب، وبصمت وهوان الموقف العربى.