كانت الموسيقى أكثر من مجرد فن؛ إنها لغة حضارية سامية عبّرت بها الشعوب عن مشاعرها وطقوسها وأفراحها وأحزانها. وقد كان للمصريين القدماء فضل الريادة في هذا الفن، حيث صاغوا بأوتارهم ونغماتهم سيمفونية خالدة لا تزال أصداؤها تتردد في أروقة المعابد وجدران المقابر. وفي اليوم العالمي للموسيقى، نفتح نافذة على حضارة اعتنقت الموسيقى روحًا وفكرًا وممارسة، وخلّدتها في الحجر والنقش. ◄ مشاهد حيّة الموسيقى في مصر القديمة لم تكن ترفًا أو لهوًا عابرًا، بل كانت جزءًا أساسيًا من النسيج اليومي والديني والاجتماعي، فقد لعبت دورًا محوريًا في مختلف مناحي الحياة، بدءًا من المعابد والطقوس الجنائزية، وصولًا إلى الحفلات الخاصة والولائم الملكية، وحتى داخل المنازل العائلية. وتوثق الجداريات المصرية مشاهد حيّة لعازفين وعازفات يجلسون أو يقفون في صفوف، يحملون آلاتهم بإتقان، تتنوع بين آلات وترية ك"الكنارة" وال"لوت"، وآلات نفخ ك"الناي" و"المزمار"، وآلات إيقاعية ك"الطبل" و"الصاجات"، وقد أظهرت هذه المناظر تدرجًا واضحًا في مستويات العزف، من محترفين في بلاط الملوك والمعابد، إلى هواة يشاركون في جلسات الأنس والأفراح. ◄ الطقوس الجنائزية ولم تكن الموسيقى حكرًا على الرجال، بل شاركت النساء أيضًا بفاعلية في هذا الفن، كما ظهر في مشاهد لفرق نسائية تعزف وتغني، وبعضهن كان لهن مكانة خاصة كمغنيات في المعابد، يخدمن الطقوس الدينية من خلال الأناشيد والتراتيل المقدسة. اقرأ أيضا| حكايات| "مصر القديمة ومهد الموسيقى" في اليوم العالمي للموسيقى... إرث حضاري ينبض بالألحان وقد ارتبطت الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بالروحانيات والطقوس الجنائزية، إذ كانت تُستخدم لتهدئة الأرواح، ومرافقة النصوص المقدسة في طقوس "فتح الفم" الشهيرة، لضمان خلود المتوفى في العالم الآخر. كما وُجدت نقوش تشير إلى استخدام الموسيقى لتهدئة المرضى وطرد الأرواح الشريرة، مما يعكس إيمان المصريين القدماء بقدرة النغم على الشفاء. وتُظهر برديات كثيرة تدوينات موسيقية بدائية، ما يشير إلى معرفة دقيقة بالنوتة الموسيقية وتدرج الأصوات، بالإضافة إلى مقاطع غنائية استخدمت في المسرحيات الدينية والاحتفالات العامة، مما يُبرهن على عمق الفكر الفني لدى المصري القديم. وفي زمن كانت فيه الموسيقى حاضرة في كل طقس وكل بيت، استطاعت الحضارة المصرية أن تؤسس تراثًا موسيقيًا متكاملاً سابقًا لعصره، يتجلى في أناقة الآلات وعمق الأداء وتقديس النغم، كما أن استمرارية بعض الآلات الشعبية المستخدمة حتى اليوم في صعيد مصر والدلتا، هي دليل آخر على الامتداد الطبيعي لهذا الميراث الموسيقي. ◄ الوجدان الجمعي وأن الموسيقى في مصر القديمة لم تكن فقط للتسلية، بل كانت أداة تواصل مع الإله، ووسيلة تعبير عن الوجدان الجمعي، وجسرًا بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء. وفي اليوم العالمي للموسيقى، لا يسعنا إلا أن نُحيي ذاكرة تلك الحضارة، التي سبقت غيرها في تحويل النغمة إلى فلسفة، والصوت إلى أثر لا يُنسى.