في كل حجر نقش، وفي كل جدار من جدران المعابد سرّ من أسرار حضارة لا تزال تنبض بالحياة، وفي طيّات التاريخ نجد فصولًا نُقشت بأيدٍ مصرية خالصة، تحمل عبق الماضي وروح التحدي والإبداع. ومع كل اكتشاف أثري جديد، يأخذنا الدكتور مصطفى وزيري، عالم المصريات والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، في رحلة عبر الزمن، يكشف فيها الستار عن عظمة الفراعنة وما تركوه لنا من تراث خالد. من بين دهاليز المعابد وأروقة المقابر، ومن النقوش التي زينت جدران التاريخ، نروي حكاية جديدة، مليئة بالحركة والمهارة... إنها قصة "الموسيقى في مصر القديمة". في قلب أرض النيل، حيث وُلدت أولى شرارات الحضارة، لم تكن الموسيقى مجرد ترف أو زينة للحياة، بل كانت بمثابة نبض الكون ولغته الخفية منذ آلاف السنين. آمن المصري القديم بأن للموسيقى قوة روحية تسمو فوق الواقع، وأنها المفتاح السحري لتحقيق التوازن بين "الماعت" العدالة والنظام و"الإسفت"، رمز الفوضى والاختلال. بذلك، صارت الموسيقى أعمق من مجرد فن، بل ممارسة كونية وركيزة للعقيدة والتعبد. بين جدران المعابد وزخارف المقابر الغارقة في ألوان الأبدية، تسرح أنغام الآلات وتتمازج ترانيم الكاهنات مع إيقاعات السيستروم المقدسة، تلك "الشخشيخة" المصنوعة بعناية والموهوبة بقوة طرد الأرواح الشريرة وتهدئة غضب الآلهة. في معابد الإلهة حتحور، آلهة الجمال والفرح، لم تكن الموسيقى جزءاً من الطقس وحسب، بل كانت شرطاً لصحته وكماله، حتى أن الآلهة ذاتها صُورت أحياناً وهي تعزف أو تستمع باهتمام، كما في هيئة المعبود بس، حامي الأسرة والبهجة. تتجلى عبقرية المصري القديم في التنظيم الدقيق للفرق الموسيقية، كما توضح النقوش البديعة في معبد دندرة ومقبرة رع موزا. فهناك ترى الكاهنات في ملابسهن البيضاء يحملن آلات وترية كالقِيثارة والعود، ورياحاً عذبة تخرج من أنغام النّاي والمزمار، ويكتمل المشهد بدق الدفوف والطبول ورنين الأصوات النقية للمنشدات والمغنيين. أوركسترا صغيرة متكاملة، تعزف بإبداع وتناغم يضاهي أعرق الفرق الموسيقية في العصر الحديث، ما يعكس فهماً فريداً لقواعد الموسيقى الجماعية. لم تقتصر مكانة الموسيقى على المعابد والطقوس الدينية، بل امتدت لتغمر القصور الملكية وحفلات الزواج وأعياد الحصاد وتكريم الموتى. كانت الأغاني والألحان تصاحب المزارعين في الحقول، تبعث النشاط في نفوسهم وتنظم لحظات العمل مع شروق كل صباح. وفي حفلات العائلات، كما نرى في مقبرة نخت (TT52)، كان العزف والغناء رمزان للفرح والانسجام، وكل ذلك جعل من الموسيقى مهنة ذات شأن، يتوارثها الأجيال بكل فخر واعتزاز. ورغم ما بلغته الموسيقى المصرية القديمة من مكانة راقية، إلا أنه لم يتم العثور حتى اليوم على نظام تدوين موسيقي شبيه بالنوتة الإغريقية. فالمصريون القدماء اعتمدوا على إشارات وحركات رمزية نقشوها بعناية على الجدران، وعلى ألقاب رنانة ك"مغنية المعبد" تؤرخ لصُنّاع هذا الفن العظيم. أما أسماء الترانيم الدينية فوثقتها البرديات النادرة، مثل "بردية هاريس الكبرى"، حاملة أسرار نغمات في انتظار من يفك شيفرتها. هكذا، لم تكن الموسيقى في مصر القديمة مجرد ألحان عابرة، بل كانت لغة حضارة ونبض حياة ومرآة صافية لروح الإنسان. وبين معابد دندرة ورقعة الحقول على ضفاف النيل، ومن خلال الآلات المحفوظة والجداريات المزدانة، ما تزال أنغام الأجداد تهمس في أذن الزمن، تؤكد أن مصر لم تمنح العالم الأهرام والمعابد فحسب، بل أعطته أيضاً موسيقى الحياة الأولى، تلك التي حملت الإنسانية إلى ضفاف النور والخلود. اقرأ أيضًا | أصل الحكاية| الموسيقى لعبت دورًا حيويًا في حياة المصريين القدماء