عمر هشام ما أود أن أعرفه هو لماذا تحتفظ الشبكة المعطوبة للذاكرة بأشياء معينة دون سواها؟ إيتالو كالفينو «الطريق إلى سان جيوفانى» كان ذلك اليوم الرهيب هو اليوم الأخير للطفل أحمد فى دار السعادة لرعاية الطفل، والمعروف بين أهالى الشارع ب«حضانة هويدا». فى الأيام الماضية حاولت الأم أن تمهد لطفلها عملية الانتقال بسبب التطور المفاجئ فى عمل الأب، الدكتور محمود يوسف. تسبب الشجار فى مستشفى الساحل العام بين الطبيب الشاب وأهالى أحد المرضى الخطرين فى صدور أمر النقل «المهين» إلى محافظة البحر الأحمر. تزوج الدكتور محمود من بنت خالته نوال بعد الانتهاء من الماجستير فى طب الأطفال بما أنه لم يقع فى الحب أبدا، اضطرت أمه للتدخل فى حياة ابنها العاطفية ورشحت «أمل» التى تثق بها وتعرفها أكثر من نفسها. وافقت أمل على الفور لأنها رأت حينها أنها لن تجد أفضل من ابن خالتها الدكتور. على الرغم من أنها لا تعرف عنه شيئا تقريبا منذ دخوله للمرحلة الثانوية، وانشغاله بحلم أن يصبح طبيبا. وقتها كانت أمل فى الشهادة الإعدادية. لم يفهم أحمد الصغير على وجه الدقة لماذا سيغادر الشارع والحضانة ، لكنه غضب عندما تأكد أنه لن يرى الطفلة التى تجلس بجانبه كل يوم وتشاركه طعامها اللذيذ الممتلئ بالسكريات، فاطمة. تأتى هويدا كل يوم فى تمام الساعة السادسة والنصف صباحا لاصطحاب الأطفال إلى الحضانة هويدا العاملة السمراء فارعة الطول لم تكن تحب الانتظار أبداً وتوبخ الأطفال المتأخرين دائماً. آمنت هويدا إيماناً شديدا بالشعارات التى تعلمتها فى المدرسة قبل أن يكتفى أبوها بهذا القدر من تعليمها ظلت هويدا – التى تحتفظ حتى الآن بشهادتها الابتدائية فى صندوق ذهبها الذى لا يحتوى سوى على دبلة زواجها وإسورة من والدها الغالى -حتى وفاتها تصدق أن كل العمل شرف وأن كل من يعمل يساهم فى رفعة المجتمع كما كانت تنشد الأبله سعاد يومياً فى طابور الصباح. تنتظر الأطفال كل يوم على مدار خمسة وأربعين عاما واصلت فيها إنكار كل نظرات الاستعلاء من الأهالى، وهى تتذكر كلام الوالد العزيز بأن كل الناس متساوون - تحت قدميها - طالما لا يقدمون لها الطعام. فى تمام السابعة صباحا يدخل الطفل أحمد إلى «دار السعادة لرعاية الطفل» الشهير ب«حضانة هويدا» ويجلس بجوار فاطمة أو «طماطم» كما تطلق عليها المعلمات. هل يتذكر أحمد الآن بعد أكثر من ثلاثين عاما لماذا تجذبه بالتحديد رائحة صابون زيت الزيتون دوناً عن غيره فى النساء؟ الدماغ البشرى مذهل عندما يحتفظ بهذه النوعية من الذكريات ويترجمها إلى رغبات. كانت فاطمة تُفضل أحمد عن باقى الأطفال لأنه هادئ ويمتلك ضحكة مميزة تجعلها تنسى للحظات آلام الاستيقاظ مبكراً. ظلت طوال أيام الأسبوع تتبادل معه السندويشات والعصائر. عرفت فاطمة أين يسكن أحمد بالتحديد عندما سألته فى أحد الأيام عن البقالة التى يأتى منها بالجبن الرومى، فعرفت أنه يسكن فى شارع حسن الحلوانى، شارعها، ويبعد عنها عدة بيوت فقط لأنه فى البيت المقابل لمحل بقالة شريف العراقى. ماذا لو تأخرت أمى اليوم فى اصطحابى إلى المنزل. كم سيكون رائعا لو تعطل أتوبيس العمل لألعب مع فاطمة لدقائق أطول. لماذا تغادر فاطمة الحضانة متأخرا؟ فى هذه اللحظات قرر أحمد أنها فرصته الأخيرة، سيُقبل فاطمة على خدها مثلما يفعل أبوه مع أمه فى صباح كل يوم. لا تعرف أمل شيئا عن رغبات ابنها. تعيش فى قلق يومى أن تتأخر على صغيرها وتناشد عم فتحى السائق أن يبذل كافة جهوده لتصل إلى شارع جسر البحر قبل أن تدق الساعة الثالثة بعد الظهر، لتمشى إلى شارع حسن الحلوانى وتصطحب «حمادة» إلى المنزل. أمل حزينة لأنها ستغادر فجأة من أجل أن تعيش حياة مجهولة فى الغردقة. عندما طلب منها الدكتور محمود ألا تسافر معه منذ البداية رفضت رفضا قاطعا. بعد سنوات طويلة وهى تراجع الأحداث الهامة فى حياتها لن تندم على ذلك بالتحديد، لأن أمها ربتها على الذهاب مع زوجها حتى ولو إلى «جهنم». كما كان تحذير زميلاتها من السائحات الروسيات فى الغردقة فى محله وسترى ذلك بنفسها وهى مصدومة من عدد الأطباء الهاربين إلى روسيا من أجل الحب والماجستير زهيد الثمن والمغامرة. ستكون الغردقة هى العالم الذى ستتعلم فيه هذه السيدة الصغيرة الساذجة أن الدنيا ليست كما كانت ترويها جدتها فى حكايات قبل النوم وأن الكون أوسع بكثير من حدود شبرا مصر. اليوم ستتأخر أمل عشر دقائق فقط. ستظل تلوم نفسها على هذا التأخير طوال حياتها، وسيظل أحمد سعيداً بهذا التأخير طوال حياته. اليوم الإثنين، الثانى عشر من أكتوبر عام1992 ، وفى تمام الساعة الثالثة وتسع دقائق من بعد الظهر سيضرب القاهرة زلزال هو الأعنف فى تاريخها المعاصر. ستبدأ الهزات العنيفة فى نفس اللحظة التى تلامس فيها شفاه الطفل أحمد وجه فاطمة وستستمر لثلاثين ثانية هى الأطول فى حياة سكان المدينة. بعد ثلاثين عاما سيضحك أحمد من نفسه عندما يتذكر أنه ظل طوال طفولته مقتنعا بأن الزلزال قد حدث بسبب تقبيله لهذه الطفلة. هل كان ينزعج -بعض الشىء- لأنه كلما كان يُقبل أية فتاة عرفها بعد ذلك سيتذكر الزلزال الذى دوماً ما كان يسبب له مواقف حميمية محرجة لم يكن يعرف كيف يخرج منها (لم يحب أحمد الثرثرة أبداً ومع صعوبة تحدثه إلى الأغراب كان من المستحيل أن يحكى قصة الزلزال إلى الفتيات العابرات). لا يتذكر أحمد ذلك اليوم البعيد الآن على وجه الدقة لكن يتذكر الطريق من الحضانة إلى البيت بصحبة أمه وحالة الذعر الشديد بين الأهالى والعقارات المتصدعة وبداية أعمال البحث عن الأحياء تحت الأنقاض التى ستستمر لأكثر من يومين. سيتذكر أيضاً نظرات فاطمة وهى تحاول التشبث بيد أبيها الذى جاء وهو يرتجف ليصطحبها فى أطول طريق للعودة عرفته طوال حياتها فى ذلك اليوم. ولكن بعد عدة سنوات من الإقامة فى أمريكا وبالتحديد فى نيويورك سيتذكر الطفل الذى أصبح رجلا وحيدا اليوم أن أغنية «دى دى» كانت تذاع على الراديو أثناء مروره بدكان شريف العراقى وتجمع سكان الشارع خوفا من «التوابع» حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالى. فى ذلك الوقت، كانت «دى دى» بدورها زلزالا مدمرا فى عالم الأغنية يأتى من غرب الجزائر، البلاد التى لا يعرف المصريون عنها سوى مساندة مصر لثورتها وصعوبة مباريات كرة القدم مع فريقها الوطنى. تذكر أحمد الأغنية بسبب جيرانه الجزائريين فائقى النشاط، الذين يستيقظون كل يوم على ألحان صاخبة وكلمات غير مفهومة للشاب الذى يأتى من شبرا، لكن مع تكرار نغمات «دى دى» وتحسن علاقته بجاره فوزى المسعودى الذى يعمل فى تنظيف الحدائق العامة المجاورة لمقر عمله تذكر أن هذه الأغنية ظل يطلق عليها «أغنية الزلزال» طوال سنوات طفولته. منذ انتقاله إلى وظيفته الجديدة كعامل فى إحدى سلاسل السوبر ماركت العملاقة فى نيويورك يتذكر أحمد البقال شريف العراقى. يسأل أمه عن أخبار الرجل أثناء المكالمة الأسبوعية (فى معظم الأحيان تنتهى هذه المكالمة بشجار عنيف بسبب طلب الأم من ابنها العودة إلى مصر والتفكير فى صلح نهائى مع الوالد. هل يُعقل أن يعيش ابن طبيب هكذا؟ هل هذا هو مستقبل ولدها الوحيد؟ وظائف متواضعة مؤقتة فى بلد بعيد جداً بلا زوجة؟ ومن أجل ماذا؟ حتى لو كان أبوه ارتكب خطاً لا يُغتفر فى حقه بسبب سرعة غضبه لكن فى النهاية هو أب، ولم يعد الجسد الضخم الذى يتحمل الزمن والأمراض كما هو بعد التقاعد وهجرة الابن. لكن أحمد يرفض النقاش وينهى المكالمة فور سماع سيرة الوالد) تظل الأم تخفى خبر مقتل شريف العراقى بشكل غامض فى شقته حتى لا تزيد هموم ابنها. الرجل الذى اكتسب لقبه بسبب عمله لسنوات طويلة فى العراق. عاد شريف من العراق خالى الوفاض بسبب تبعات غزو الكويت وضاع كل ما كان يكتنزه بعد سنين الشقاء. تدخل أشقاء زوجته واستأجروا له دكاناً صغيراً وتعهدوا بتوريد كافة المواد الغذائية التى يشتهر بها بلدهم دمياط، على شرط مشاركته فى الأرباح والتوسع المشترك. لهذا السبب راجت تجارته سريعاً واشتهر بالجبن الرومى «البطارخ» فى كل شبرا. يسمع أحمد خبر مقتل الرجل ويسكت لدقائق ثم يغير دفة الحديث سريعاً دون أن يعلق أو يترحم! الآن أحمد يجلس وحيدا أمام المحيط بعد وردية عمل مرهقة وقاسية فى أعياد الميلاد وافق أحمد دائما على تبديل وردياته مع زملاء العمل حتى يستطيعوا قضاء الأعياد مع أسرهم، أما هو فوحيد ولعل الحفنة الزائدة من الدولارات تجعله سعيدا وتذكره بالسبب الذى جاء إلى أمريكا من أجله. يجلس أحمد على الكنبة الخشبية كالجنين بسبب شدة البرودة ورذاذ مياه المحيط يذكره بطعم الجبن الرومى فى دكان شريف العراقى. ولكنه منزعجا من شىء واحد فقط، عدم قدرته على تذكر اسم الفتاة التى كانت تجلس بجانبه فى دار السعادة لرعاية الطفل، المعروف شعبيا لأهالى الحى «بحضانة هويدا».