إحساس صعب أن نري ملائكة الأرض يتألمون داخل صندوق زجاجي لا يرحم اسمه( الحضانة).. يعيشون فيه ساعات وأياما وخراطيم جهاز التنفس والمحاليل تخترق أجسامهم الصغيرة الضعيفة دون رحمة.. لا يصرخون من الألم ولا يبكون.. فقط أعينهم شاخصة للسماء, ربما انتظارا لساعة الأجل أو إرسال نداء خفي لرب العالمين بأن مسهم الضر وهو أرحم الراحمين.. حين يدخل الطفل إلي الحضانة- إن حالفه الحظ ووجدها- يتسلل الخوف والرعب للوالدين من النتيجة, عندما تستدعي الذاكرة حوادث الإهمال وعدم الخبرة في التعامل مع أطفال الحضانات, مثل حادث وفاة عدد من المواليد المبتسرين داخل إحدي الحضانات إثر انقطاع التيار الكهربائي, وموت أطفال نتيجة إهمال وعدم دراية أطقم التمريض بأساسيات التعامل مع أجهزة الحضانة المساعدة. بداية تضع الدكتورة ناهد فهمي هلال, أستاذ طب الأطفال وحديثي الولادة ورئيس قسم الحضانات بمستشفي أبو الريش الجامعي, يدها علي أصل المشكلة مؤكدة أن نقص الحضانات ليس هو المشكلة الأساسية, بل نقص القوي البشرية والكوادر المدربة علي التعامل مع هذه الحالات, حيث يتطلب ذلك وجود ممرضة علي كفاءة عالية وتدريب جيد, وكذلك طبيب متخصص, وبسبب هذا النقص هناك حضانات كثيرة حكومية تعمل بنصف طاقتها إن لم يكن أقل.. فالتمريض كقوة بشرية غير موجودة, يعني كليات التمريض والمعاهد تخرج سنويا أعدادا قليلة وناقصة التدريب; يعجزون عن تغطية التخصصات الطبية الدقيقة في مجال الطب ككل, وليس حديثي الولادة فقط, ووصل الأمر إلي أن بعض المستشفيات الخاصة تستورد ممرضات أجانب من الصين والفلبين وماليزيا, وتنبه د.ناهد إلي أن نقص الكوادر البشرية مشكلة بالغة الخطورة, يواجهها العالم كله لكنها مستفحلة في مصر, ففي رعاية أطفال الحضانات من المفروض أن تكون الممرضة مسئولة عن ثلاث حالات فقط, لكن لقلة أعداد الممرضات نضطر إلي أن تتابع كل ممرضة خمس حالات في الوردية وأحيانا أكثر, وهذا مجهود صعب, ولا يمكن أن تعطي الممرضة كل طفل الرعاية المطلوبة; ونظرا لهذا النقص المتزايد في التمريض يكون لدينا حضانات خالية ولا نقبل أطفالا, وهذا يحدث في مستشفيات كثيرة جدا علي مستوي الجمهورية; إن الحضانة موجودة وخالية لكن لا تستطيع استقبال أطفال لعدم وجود تمريض, وهناك إحصائية من وزارة الصحة تقول إن60% من حضانات الوزارة تعمل و40% متوقفة لعدم وجود تمريض! بروتوكول لا ينفذ وعن دور وزارة الصحة في مشكلة الحضانات وكيفية الحد من نسبة الوفيات في الأطفال حديثي الولادة تقول د.ناهد: هناك كنز وثروة كبيرة جدا من المعلومات موجود داخل وزارة الصحة اسمه( بروتوكول الحضانات), يحتوي الأسلوب العلمي السليم الذي يتم به إنشاء وحدة الحضانات, وهو معتمد منذ2002 وموجود في الوزارة, ومن المفترض أنه تم توزيعه علي كل المديريات والمستشفيات الحكومية والخاصة, وبرغم ذلك لم يطبق ولا يسأل فيه أحد, وجميعهم مخالف ولا يقدمون رعاية صحيحة للطفل; لذلك نسبة وفيات الأطفال مرتفعة في مصر, حيث يولد280 ألف مبتسر سنويا يتوفي منهم100 ألف تقريبا, وتعد حضانات بير السلم سببا في ارتفاع هذه النسبة; لأنها تتخذ الحضانات( سبوبة) للربح وليست للعلاج, فقواعد تأسيس وحدة رعاية أطفال حديثي الولادة مفقودة تماما, خصوصا في القطاع الخاص, ولا توجد رقابة عليها, والناس تدفع دم قلبها لإنقاذ أطفالهم ولا يعلمون أن هذه المراكز مخالفة لشروط الرعاية السليمة.. القطاع الخاص يقبل الطفل دون كشف عليه وإجراء تحاليل وأشاعات وتحديد ما هو المطلوب لعلاجه.. هم فقط يضعونه في الحضانة, والحضانة تقوم بالتدفئة والعزل والملاحظة فقط ولا تعالج, وعندما تسوء حالة الطفل يسلمونه لأهله أو يحولونه لأحد مستشفيات الجامعة. حكاية سلمي مني الشريف( محامية) تروي معاناتها في وجود حضانة مزودة بجهاز تنفس صناعي لابنتها, تقول: بعد ولادة ابنتي(سلمي) لاحظ الطبيب أنها تتنفس بصعوبة ولونها يميل إلي الزرقة, وأخبرنا بأنه لابد من وضعها علي جهاز تنفس صناعي, وذهبنا بها إلي مركز خاص(استثماري) للحضانات, في البداية قالوا لنا لا يوجد غير جهاز تنفس واحد بالمركز وبه مولود, وبعد محايلات قبلوا أن يضعوها علي جهاز التنفس بالتبادل مع مولود آخر حتي تستقر حالتها, وأكدت لنا الممرضات أنه لا يوجد حل آخر, ولن يؤثر ذلك في علاجها... وتكشف أم سلمي لنا عن كارثة عدم الرقابة والمتابعة من الجهات المسئولة عن الحضانات الخاصة, والإهمال وعدم الدراية بكيفية التعامل مع الأطفال, فتقول: عند دخولنا الحضانة لاحظنا إهمالا في النظافة غير عادي, ونحن نسمع عن مدي نظافة مثل هذه الأماكن وتعقيمها, ولفت انتباهنا وجود سرير بجوار الحضانات عليه ملاءات ووسائد متسخة ومكتب عليه بعض فضلات الطعام, وأن الممرضتين ترتديان ملابسهما العادية وتجلسان داخل الحضانة بدون غطاء للرأس, أو قفزات طبية في اليدين.. وقبل دخول ابنتي الحضانة أخبرونا بأن الليلة ب500 جنيه, وأعطونا روشتة لصرفها من الصيدلية تكلفت175 جنيها, تتكرر كل8 ساعات, لم نعلق علي أي شيء, وكان شاغلنا الأول أن تعيش ابنتي( سلمي), ومر عليها يوم, وفي اليوم الثاني ذهب والدها بالروشتة وأعطاها لهم, وبعد عودته بساعة واحدة فوجئنا باتصال من مركز الحضانات يخبرنا بأن( سلمي) ماتت. مطلوب دعم الحضانات مشكلات الحضانات عرض مستمر تشكو منه أغلب المستشفيات, خاصة مستشفيات الجامعة التي لا تجد دعما حكوميا سواء ماديا أو بشريا, يقول د.شريف الأنوري, مدير وحدة الأطفال المبتسرين بمستشفي قصر العيني: نتغلب أحيانا علي مشكلة نقص التمريض بأن أعطي الممرضة وقتا إضافيا بأجر أعلي, برغم أنه لا يوجد دعم حكومي لهذا التخصص, ونعتمد علي التبرعات بنسبة80%, وبعض رجال الاعمال يقومون بمساندتنا بشراء أجهزة مساعدة للحضانات أو شراء حضانات, ويشير د. الأنوري إلي أن مستشفي أبو الريش الجامعي مثلا- يعمل بقوة52% من الحضانات و48% متوقف لعدم وجود تمريض, وإذا تم الضغط علي الممرضات لتشغيلهن فسوف يضربن عن العمل, وأحيانا نضطر إلي تشغيل الحضانات بممرضات من خارج المستشفي بنظام( نوباتجية) مدفوعة الأجر, يدفعها متبرعون بعد موافقتهم علي إعطاء رواتب للتمريض خارج التعيين, ويتم التعاقد مع كل( نوباتجية) بمبلغ محدد تتقاضاه عن كل وردية.. والكارثة أنه لو توقفت التبرعات ستتوقف الحضانات عن العمل; لأن حضانات مستشفيات الجامعة تعمل مجانا, في حين يتراوح سعر الليلة الواحدة في الحضانة الحكومية والخاصة ومراكز( بير السلم) بين500 و1500جنيه. فاتورة حضانة ب95 ألفا ويحكي د. شريف عن معاناة الناس في إيجاد حضانة أنه فوجئ بشاب في مقتبل العمر يقول إنه ذهب بابنه إلي حضانة خاصة كانت تأخذ منه من500 إلي700 جنيه في الليلة, ولو احتاج الطفل وضعه علي جهاز تنفس صناعي فإن الليلة الواحدة تكلفه أكثر من ألف جنيه, وفوجئت به يقول إنه باع الثلاجة وحجرة السفرة والصالون ليدفع ثمن علاج ابنه, ولم يتبق إلا حجرة النوم, وسألني بجدية هل أبيعها يا دكتور أم تقبلوا ابني في حضانة عندكم.. باع عفش بيته لإنقاذ ابنه وعندما نفدت فلوسه لجأ إلي مستشفيات الجامعة التي تعالج بالمجان.. وعن الحالات الصعبة والمؤلمة يقول د. شريف: جاءنا رجل يحمل ابنه ويريد أن يدخله حضانة, وكان يحمل في يده تقريرا وفاتورة حساب دفعها في أحد المستشفيات الخاصة قيمتها95 ألف جنيه, وعندما تفحصنا الفاتورة وجدنا أن ابنه ظل بالحضانة شهرين أي بمعدل1500 في الليلة, وبعد أن استدان من أيدي الناس وباع كل ما لديه لم يجد أمامه إلا اللجوء إلي مستشفيات الجامعة لإكمال علاج ابنه, ويقترح د.شريف توجيه دعم حكومي للحضانات والأطفال المبتسرين مثلما تدعم الدولة زراعة الكبد التي تتكلف من250 إلي400 ألف جنيه للحالة الواحدة, ومن الأولي أن يكون هناك دعم علاجي للطفل ورعايته. فهيمة عبدالحميد(ست بيت), قضت في الدور الثالث بمستشفي أبو الريش بقسم الحضانات39 يوما بجوار ابنها( عبدالله), تقول فهيمة: ولدت عبدالله في عيادة خاصة, وعند ولادته كان يبكي بشكل متصل, ولا نعرف لماذا يبكي فعرضناه علي طبيب أطفال, واتضح أنه يحتاج إلي دخول حضانة, وذهبنا به إلي حضانة خاصة الليلة فيها ب500 جنيه, ولولا مساعدة أهل الخير ما كنا استطعنا فعل أي شيء; فوالده تاجر بسيط ولا يستطيع تحمل مصاريف الحضانة, وبعد أن قضي عبدالله6 أيام في الحضانة الخاصة سعي أهل الخير في توفير حضانة له مجانا, والحمدلله وجدناها وقضي بها39 يوما, وقاطعت كلامها إحدي الممرضات المشرفات علي الحضانات قائلة: يعني يا أستاذ إذا حسبناها بأجر الحضانات الخاصة كان سيتكلف علاجه20 ألف جنيه علي الأقل.. يحمدوا ربنا إنهم وجدوا حضانة الفترة دي كلها, ثم انهت( أم عبدالله) حديثها بجملة بسيطة تلخص المعاناة: والله ولو بعنا( هدومنا) وكل ما لدينا لن يكفي علاجه, مستشفيات الجامعة نعمة كبيرة للناس الغلابة... حل علمي حذر المؤتمر ال31 للجمعية المصرية لرعاية الأطفال حديثي الولادة والمبتسرين من خطورة النقص الشديد, وعدم عدالة التوزيع في المستشفيات لحضانات الأطفال, وارتفاع تكلفة حجز الأطفال حديثي الولادة, وقال الدكتور جمال سامي, رئيس الجمعية: إن من8 12% من الأطفال حديثي الولادة في مصر يولدون مبتسرين, وهي نسبة عالمية ولا تخص مصر فقط, هناك حاجة ملحة لزيادة عدد تلك الحضانات وتجهيز كوادر بشرية مدربة لتشغيلها; ولعلاج أزمة ارتفاع نسبة الوفيات لدي الأطفال حديثي الولادة وإيجاد حل علمي لها وطبيب مدرب علي التعامل معها يطالب الدكتور جمال بضرورة استحداث برنامج قومي بجدول زمني محدد يعمل علي زيادة عدد الحضانات ووحدات الرعاية المركزة لحديثي الولادة, ووجود تخصص أكاديمي بكليات الطب, لطب الأطفال حديثي الولادة, بدلا من اعتماد الطبيب علي خبرته من الممارسة العملية في هذا المجال, بالإضافة إلي تدريب الأطباء والتمريض في هذا التخصص. أما بخصوص وزارة الصحة فقد صرحت د. عبلة مسلم, مسئول الطب العلاجي بوزارة الصحة, بأن متوسط نسبة الإشغال بالحضانات بالمستشفيات العامة والمركزية التابعة للطب العلاجي عام2012 هو56%, وأن عدد الوفيات في العام نفسه5 آلاف و818 طفلا; أي بنسبة5.7% وهذه النسبة لاتدخل فيها المستشفيات الخاصة والجامعية وهي أقل بكثير من النسبة العالمية, وحسب إحصائية وزارة الصحة لعام2012 يولد في مصر مليونان و400 ألف مولود سنويا, وأن إجمالي عدد الحضانات بالمستشفيات التابعة للطب العلاجي2639 حضانة, وبجميع القطاعات5 آلاف و849 حضانة( بدون حصر حضانات مستشفيات الهيئات الحكومية والنقابات), وللوصول إلي المعدلات العالمية مطلوب توفير3 آلاف و833 حضانة, وقد بدأت الوزارة فعلا بخطة لتوفير685 حضانة ب16 مستشفي بالقاهرة الكبري, المشكلة في توافر الأجهزة المساعدة مثل جهاز التنفس الصناعي والأيدي المدربة علي التشغيل.