حزب الجبهة الوطنية يعلن تشكيل أمانة العمال المركزية    «التنظيم والإدارة»: مسابقات للتعيين والتعاقد ب5 جهات خلال الفترة المقبلة    الإعلان عن قبول دفعة جديدة بالأكاديمية العسكرية المصرية    30 يونيو.. اقتصادياً    «البحرين المركزي»: تغطية أحد إصدارات أذون الخزانة الحكومية ب 70 مليون دينار    ارتفاع أسعار الذهب اليوم الإثنين بالمعاملات المسائية    الجيش الروسي يحرر أراضي جمهورية لوجانسك بالكامل    الاتحاد الأوروبي يتجه شرقاً.. تحالف تجاري جديد لمواجهة تهديدات ترامب    فيديوجراف| استخبارات أوروبية تصدم ترامب حول تأثير الضربة الأمريكية على إيران    رياضة ½ الليل| الأهلي يتمسك بلاعبيه.. الزمالك يفرط.. "بديل" فاركو للأبيض.. فيريرا جديد.. واجتماع الخطيب العاصف    أشرف نصار يحفز فريق الكرة النسائية بالبنك الأهلي: العمل الجاد والمنافسة على الألقاب    مباشر كأس العالم للأندية - إنتر (0)-(1) فلومينينسي.. فرصة لا تهدر    سيدات بتروجت يحققن لقب الدوري الممتاز لتنس الطاولة    كرة سلة - بمشاركة منتخب مصر.. مواعيد مباريات البطولة العربية للسيدات    أديب: رجل أعمال يتبرع ب38 مليون جنيه لأُسر شهداء حادث الطريق الإقليمي    الأولى على إعدادية المنوفية: كنت بذاكر أول بأول    تجارة المخدرات تقود سائق وعاطلين للسجن المشدد 6 سنوات بكرداسة    التضامن والعمل تنهيان إجراءات صرف وتسليم تعويضات ضحايا ومصابي حادث المنوفية    زواج صادم وحمل مفاجئ.. تطورات مثيرة في الحلقة 2 من «مملكة الحرير»    كراهية القَص والحكايات غير المحكية فى ألف ليلة وليلة    وزير السياحة يشهد مناقشات مع الطلاب وأساتذة الجامعات حول القاهرة التاريخية    مراسلة "القاهرة الإخبارية": زيارة ديرمر إلى واشنطن تهدف لمناقشة صفقة التبادل    رحمة محسن تتألق بأولى فقرات احتفالية فى حب مصر احتفالا بثورة 30 يونيو    دينا أبو الخير توضح حكم صلة الرحم في حالات الأذى والحسد    بالمنطق    محافظ أسوان: تحقيق الجاهزية الكاملة لإنجاح منظومة التأمين الصحي الشامل    إصابة 5 أشخاص إثر تسرب غاز داخل مصنع ثلج في الشرقية    «يهدف لحل الإشكاليات».. وزير الإسكان يعلق على مشروع قانون الإيجار القديم    وزارة الخارجية تطلق خطة الاستجابة للاجئين ودعم القدرة على الصمود في مصر لعام 2025    الاتحاد السكندري يعلن تعاقده مع الحارس محمود جنش    توتر دبلوماسي بين موسكو وباكو بعد مداهمة مكاتب وكالة سبوتنيك الروسية في أذربيجان    فنانين خالدين في وجدان يحيى الفخراني.. تعرف عليهم    خلاف ميراث ينتهي بجريمة قتل مأساوية في زراعات الموز بقنا    دعاء الصباح مكتوب وبالصور.. ابدأ يومك بالبركة والسكينة    بعد شهادات الجنود.. قادة بالجيش الإسرائيلي يقرون بقتل المجوعين في غزة    رايات حمراء وصفراء وخضراء.. إقبال ضعيف من المصطافين على شواطئ الإسكندرية    قبول دفعة جديدة بالأكاديمية العسكرية المصرية والكليات العسكرية للطلبة من حملة الثانوية العامة والأزهرية وخريجي الجامعات.. الشروط ومواعيد التقديم    «ترابي وناري ومائي».. تعرف على لغة الحب لكل برج حسب نوعه    رئيس الجالية المصرية في النرويج: ثورة 30 يونيو بداية عهد جديد من العمل الجاد والتنمية الشاملة    متى يتم المسح على الخفين والجوارب في الوضوء؟.. عضو مركز الأزهر توضح    سيامة دياكون جديد بالكنيسة المرقسية بالأزبكية    بقيمة 103.5 مليون يورو.. مجلس النواب يوافق على اتفاقية تعاون مع ألمانيا    مدبولي: التعاون الإنمائي الدولي بات أمرًا ضروريًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030    ما هو حق الطريق؟.. أسامة الجندي يجيب    البلجيكى يانيك فيريرا الأقرب لقيادة الزمالك.. ومدرب آخر يعطل التوقيع    على إيقاع الطبيعة الساحرة.. هكذا يمارس السائحون الرياضة في جنوب سيناء    وجه الشكر للأطقم الطبية.. وزير الصحة: 300 مستشفى لاستقبال مصابي غزة للعلاج في مصر    انطلاق القوافل الطبية العلاجية بالجيزة غدا- تفاصيل    ماذا يحدث للجسم عند تناول ماء الكمون مع الملح الاسود؟    كشف ملابسات أحد الأشخاص وزوجته بالتعدى على نجلهما بالضرب في الشرقية    محافظ القاهرة يجري مقابلات شخصية للمتقدمين لعدد من الوظائف    أسما إبراهيم تدافع عن شيرين عبدالوهاب: «كلنا بنغلط وبنمر بظروف لكن الأهم إننا نرجع أقوى»    الرقابة المالية توافق على تأسيس "صندوق استثمار عقاري ومعادن"    دورتموند يتحدى مفاجآت مونتيري بدور ال16 بمونديال الأندية    السيسي: مصر تبذل أقصى جهودها لدعم الأمن والاستقرار في ليبيا    عماد الدين حسين: أداء الحكومة في التعامل مع حادث الطريق الإقليمي يأخذ 4.5 من 10    ما فضل صيام يوم عاشوراء؟.. أجرٌ عظيم وتكفيرٌ للسنة الماضية    ترامب يتهم جيروم باول بإبقاء معدلات الفائدة مرتفعة بصورة مصطنعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كراهية القَص والحكايات غير المحكية فى ألف ليلة وليلة

لطالما كان هناك حذر، يصل أحيانًا حد الكراهية، من القص والقُصاص فى التراث الإسلامى. ولقد رأى كثيرون أن المتطوع بفعل القص شخص مراءٍ لا يعتد به ولا تُقبَل شهادته، استنادًا إلى حديث: «لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مراءٍ.»، أو فى رواية أخرى: «القُصّاص ثلاثة: أمير أو مأمور أو مختال»، والمأمور فى هذا السياق هو من يقيمه الإمام خطيبًا، فيعظ الناس ويقص عليهم. والمختال الذى نصَّب نفسه لذلك من غير أن يؤمر به. فهو يقص على الناس طلبًا للرياسة. فيرائى بذلك ويختال.
وثمة كتب عديدة خُصصت لهذا الموضوع، من بينها «تحذير الخواص من أكاذيب القصاص» لجلال الدين السيوطي، و»الباعث على الخلاص من حوادث القصاص» للحافظ العراقي، أما أشهرها فكتاب «القُصَّاص والمذكرين» لابن الجوزي، وفيه يقسم القائم بفعل القص إلى ثلاث فئات: قاص ومذكر وواعظ.
القاص هو الذى يتبع القصة الماضية بالحكاية عنها والشرح لها. وهذا فى الغالب عبارة عمن يروى أخبار الماضين. وهو لا يُذّم لنفسه، لأن فى إيراد أخبار الماضين «عبرة لمعتبر، وعظة لمزدجر، واقتداء بصواب لمتبع».
أما التذكير فهو تعريف الخلق نعم الله –عز وجل- عليهم وحثهم على شكره وتحذيرهم من مخالفته. وأما الوعظ فهو تخويف يرق له القلب وهذان محمودان.
وتم تقسيم القَص إلى: قصص للخاصة وقصص للعامة، أى قصص رسمى وقصص تطوعى شخصى، وقصص دينى محمود وقصص شعبى مذموم.
ومهما اختلفت أسس التقسيم، غنى عن القول إن ألف ليلة وليلة كانت تقع، وفق تلك الرؤية، فى جانب القصص المذموم، المهدِّد غير الممتثِل للقواعد الأخلاقية المحددة مسبقًا.
ومن السهل استنتاج سبب كراهية القَص والخوف منه، بالنظر لتأثير القصص الكبير على قلوب العوام، واستهانة القُصَّاص بالمرجعية الدينية واستحواذهم على سلطة معنوية مهددة للسلطة الدينية من خلال تواصلهم المباشر مع العوام وتأثيرهم الكبير عليهم.
هذا بخلاف أن هناك من القُصَّاص الدينيين مَن نقلوا عن الإسرائيليات وأدخلوا فى قصصهم ما يفسد قلوب العوام وفقًا لابن الجوزي، الذى رأى أيضًا أن التشاغل بالقص قد يلهى عن المهم من قراءة القرآن ورواية الحديث والتفقه فى الدين.
وهنا نلاحظ أن الخوف من القُصَّاص والتحذير من فعل القص، وإن حمل كراهية فإنه يضمر فى الوقت عينه إدراكًا لأهمية القِصص واعترافًا ضمنيًا بقدرتها الهائلة على التأثير فى النفوس وإمتاع الخيال.
ومن اللافت للنظر، أنه رغم تلك المعاداة للقَص والقُصَّاص البعيدين عن سطوة المحددات الدينية، فقد أنتجت الثقافة العربية بعض ألمع النصوص القصصية فى التراث الإنساني، مثل «ألف ليلة وليلة»؛ الذى اتخذ صيغه النهائية فيها وأضافت إلى أصوله الفارسية وحفظته من الضياع، كما أنتجت مجموعة متميزة من السير الشعبية والملاحم، ولن أبالغ لو قلت إن القصص العجيبة والغريبة أينعت فى كل مكان يمكنها أن تجد لنفسها موطئ قدم فيه داخل تراثنا، بما فى ذلك بعض نصوص الأدب الجغرافى القديمة التى يسهل إيجاد نقاط التقاء عديدة بينها وبين المخيلة التى ابتكرت حكايات الليالى.
ونحن هنا أمام احتمالين، أولهما أن كراهية القص تلك قد حفزت المخيلة، عملًا بمبدأ: كل ممنوع مرغوب، فازدهر ولبى احتياجات عوام الناس على نحو لم يمكن معه تحجيمه. وثانيهما أن ذلك الاتجاه المعادى جاء ردًا على انتشار القص وسطوة القُصَّاص على عقول الناس ووجدانهم. أو ربما الأمر مزيج من الاحتمالين معًا.
بالعودة إلى «ألف ليلة وليلة»، فحين نقرأها فى ضوء هذه الرؤية المعادية للقَص والقُصّاص، فستبدو لنا كأنها أخذت هذا الكلام وتلاعبت به ولعبت معه.
فإن كان أخذ العبرة والعظة هدفًا أساسيًا للقصص المحمود والمرضى عنه، فليكن هذا أيضًا هدف حكايات الليالى ومبرر وجودها. ولنتذكر معًا إحدى العبارات المفتاحية الأشهر فى «ألف ليلة وليلة»، وأقصد بها عبارة: «حكاية لو كُتِبَت على آماق البصر، لكانت عِبرة لمن اعتبر». فهدف الحكايات بامتداد الليالى أن يُعتبَر بها أو أن تمنح السلوى والعزاء.
تقدم الليالى العبرة بالفعل وتجعلها مبرر وجود الحكايات، لكنها تفعل هذا وفق مقتضيات الفن لا وفق المقتضيات المحدَّدة من جانب رجال الدين، وهذا معناه أن الوصول إلى جنة ما قد يكون عبر الخوض فى الجحيم.
وهى مثل الفن ماكرة لعوب تسخر من القواعد والقيود، وحتى إن تظاهرت بالامتثال لها، تأخذها إلى نقيضها لا لشيء إلا لتحقيق المتعة الفنية.
فى مقابل كراهية القص والقُصَّاص من جانب البعض، تبدو الليالى كأنما ترد على هذه الكراهية بعرض مظاهر الافتتان بالحكايات والولع بحكيها والاستماع إليها.
يتبدى هذا فى كثير من حكايات «ألف ليلة وليلة»، نجده على سبيل المثال لا الحصر فى حكاية «الحمال والثلاث بنات»، فكل من حكى حكايته وأنقذ نفسه بها فأُطلِق سراحه، رفض الخروج من البيت سوى بعد أن يسمع حكايات الآخرين، حدث هذا مع الحمال والقرندلية الثلاثة، كأن لذة الحكايات تتفوق على الحرية وغريزة البقاء.
وفى حكاية «حاسب كريم الدين» أيضًا تنتصر الحكاية وشهوة الاستماع لها على غريزة البقاء والرغبة فى النجاة، فرغم توسل حاسب لملكة الحيَّات كى تعتقه وتطلق سراحه، فإنها ما إن توافق على إطلاق سراحه حتى يطلب منها أن تحكى له أولًا حكاية الشاب الذى قعد عنده بلوقيا.
وإن كان القص المحمود لا يضطلع به سوى أمير أو مأمور؛ فإن شهرزاد تحكى بإذن من الملك شهريار، أى أنها مأمورة –ظاهريًا على الأقل- بالحكي، ورواة الحكايات الفرعيين بامتداد الليالى يحكون فى معظمهم بأمر أو بإذن ممن هم أعلى منهم منزلة؛ حاكم أو جنى أو شخص بمقدوره الحكم عليهم بالهلاك، وتأتى الحكاية كافتداء للنفس أو لآخر يفتديه الحكاء كما فى حالة الشيوخ الثلاثة فى حكاية «التاجر والجنى».
فى معظم الأحوال، الضحية أو شخص من طرفها هو من يحكى للإنقاذ، لكن أحيانًا يحكى الطرف القوى المهدِّد، ففى حكاية «الصيَّاد والعفريت»، يحكى العفريت ويطلب من ضحيته الصيَّاد الاستماع إليه. فيقول له الأخير: (قل وأوجز فإن روحى وصلت القدس). كأن الاستماع يمنح سلطة ما حتى لو كان المستمع هو الطرف الأضعف. وهذا أمر يمكن تفهمه فى ضوء أن هدف أى حكاء يتمثل فى نيل استحسان مستمعيه وإغوائهم للإنصات له والتأثير على نفوسهم، وهذا بطبيعة الحال يمنحهم سلطة رمزية عليه.
ربما لهذا السبب تحديدًا، نجد أن الملوك فى «ألف ليلة وليلة» يظهرون غالبًا فى وضعية المستمع للحكاية، فهم مَن يعطون الإذن بالحكي، ويستمعون إلى ما يُحكَى لهم ويكافئون صاحب الحكاية البارعة إما بإبقائه على قيد الحياة أو بمنحه مكافأة مادية، وإن كانت الحكاية فريدة نالت حظوة أن تُدوَّن وتُحفَظ فى الخزائن كالدرر الفريدة، حتى حين يتنكر هارون الرشيد بصحبة وزيره جعفر ومسرور فى حكاية الحمال والثلاث بنات، ومع أنه يقدم نفسه فى هذه الحالة كتاجر موصلى وليس كحاكم، فإن من يتصدى لحكى حكايتهم المخترَعة هو الوزير جعفر.
وما حكاه جعفر ممل واعتيادى ولا يرقى بأى حال لكونه حكاية منقذة من الموت، لهذا طلب القرندلية من صاحبة البيت أن تهبهم هؤلاء الثلاثة ولا تأمر بقتلهم، لأن القرندلية أدركوا أن حكاية عادية كتلك غير جديرة بإطلاق سراح التجار الموصليين المزعومين.
ووفقًا لعبد الفتاح كيليطو، لا يحكى من الملوك فى الليالى إلّا مَن فقد مُلكه وهذه القاعدة تنطبق على القرندلية الثلاثة فى حكاية «الحمّال والثلاث بنات، فهم أبناء ملوك فى الأصل، لكنهم فقدوا مكانتهم وضاع مُلك آبائهم وتنكر لهم الحظ فتاهوا فى الأرض ورأوا العجائب، ومِن ثم صار لديهم ما يؤهلهم لامتلاك حكاية مُنقِذة، تصادف أنها حكايتهم الشخصية.
وما نستخلصه هنا أن الاكتواء بنار التجربة شرط لامتلاك حكاية كهذه، وهو أمر ينطبق على معظم حكائى «ألف ليلة»، باستثناءات قليلة أبرزها شهرزاد، فحكاياها ليست وليدة التجربة الشخصية، إنما هى ثمرة القراءة والمعرفة المختزنة فى بطون الكتب. أما الملوك فى الليالي، فإنهم فى معظمهم لم يكتووا بنار التجربة على النحو نفسه، وهم فى الغالب ليسوا متبحرين فى العلم، باستثناءات قليلة أيضًا، لعلنا نصادف أهمها فى حكاية «حاسب كريم الدين». ما الذى قد يحكيه ملك يعيش حياة مرفهة لكنها خالية من المغامرات والتجارب الاستثنائية؟! هذا بخلاف، أن الحكَّاء بالضرورة والتعريف يطمح، كما سبق وأشرنا، إلى نيل استحسان المستمع والتأثير عليه، وهو بهذا يضع نفسه تحت السلطة الرمزية لأهواء هذا المستمع وأمزجته، وهو أمر لا ينسجم مع السلطة الفعلية لملك حرى به أن يأمر فيُطاع.
لكن هل حقًا لا يحكى الملوك فى «ألف ليلة وليلة» إلّا حين يفقدون ملكهم؟
تكاد تكون هذه هى القاعدة السائدة بالفعل فى طبعة محسن مهدى باستثناءات نادرة، تندرج فى خانة الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. ففى حكاية «الملك يونان والحكيم دوبان»، يحكى الملك يونان للوزير الحاسد حكاية «الملك السندباد»، لكن يجب عدم إغفال أنه يحكى لوزير؛ أى لأحد ممثلى السلطة، ويفعل هذا من باب الحِجاج وليس طمعًا فى الإنقاذ أو نيل الاستحسان.
والملاحظ أن هذه الحكاية -المحكية على لسان الملك- تتمحور حول التحذير من القيام بفعل يستوجب الندم لاحقًا مثلما ندم الزوج الغيور؛ بطل الحكاية على قتل ببغائه بسبب كيد زوجته الخائنة، وفى تيمة الخيانة وكيد النساء ما يحيلنا إلى الحكاية الإطار.
هذه الحكاية الواردة على لسان الملك يونان هى كما ذكرنا من الاستثناءات النادرة فى طبعة محسن مهدى، لكن طبعة بولاق فيها استثناءات أكثر لملوك يحكون دون أن يفقدوا ملكهم، حيث سنجد أن الملك يونان يحكى لوزيره حكاية «الملك السندباد» فى هذه الطبعة أيضًا، لكن حكايته فيها مختلفة عنها فى طبعة محسن مهدى، إذ رغم تمحورها هى الأخرى حول الندم على قتل طائر، إلا أنها تتناول ندم الملك السندباد على قتله الباز بسبب تسرعه الناتج عن سوء الفهم. إذ أنقذه الباز من تناول سم حية متساقط من فوق شجرة، فيما ظن هو أن الباز حرمه من الماء وهو فى أمس الحاجة للشرب.
وفى حكاية «حاسب كريم الدين» وهى إحدى الحكايات المضافة التى يبلغ فيها الافتتان بفن الحكى درجة عظيمة، تحكى ملكة الحيَّات حكايتها لحاسب كريم الدين، ونلاحظ أنها لم تكن فى موقف يتطلب إنقاذًا، على العكس، هو من وجد نفسه قبلها مباشرة فى موقف صعب وحكى لها حكايته. وكذلك يحكى الملك صخر، فى الحكاية نفسها، لبلوقيا عن طبقات النار.
الموقف من الليالى
إذا كان الفقهاء الذين تناولوا القص والقُصّاص قد وضعوا محددات للقَصص المحمود ومن بينها إلمام القاص بالفقه والقرآن والحديث وعلوم الدين والإتقان التام للغة العربية؛ لغة القرآن؛ فإن تأمل لغة الليالى – مع ملاحظة اختلافات مستوياتها بين الطبعات المختلفة- يُلاحظ منه أنها لغة خارجة عن الإطار اللغوى القويم وفق هذا التصور، فهى لغة الجماعة الشعبية بصعاليكها وفقرائها ومهمشيها؛ باختصار مَن كان يُطلِق عليهم كُتَّاب ألفوا جنسًا أدبيًا نخبويًا مثل «مرايا الأمراء» الهوام أو تسميات أخرى مشابهة تخرجهم من حيز البشر العقلاء المفكرين وتدخلهم فى حيز الأنعام وما يشبهها. وعلى ذكر «مرايا الأمراء»، فقد كانت موجهة للحكام بحيث تقدم لهم النصائح فى كيفية الحكم وكيفية سوس الرعية، أى أنها تؤهلهم كى يكونوا حكامًا جيدين وتعلمهم كل ما يمكن تعلمه فى هذا الصدد، والمفارقة أن شهرزاد فى الليالى تعلِّم شهريار هى الأخرى، ليس كيف يحكم تحديدًا، ولكن كيف يكتسب الحكمة ويتحكم فى أهوائه ويتخلى عن رغبته المجنونة فى القتل والانتقام، وهى إذ تفعل هذا تفعله بطريقة فنية وغير مباشرة.
إضافة إلى خروج لغة الليالى عن الإطار اللغوى القويم، فالخيال فيها مشاكس جامح وعصى على السيطرة ولا يمتثل للضوابط الأخلاقية المتوَافق عليها دينيًا واجتماعيًا، وكل هذا أحالها إلى نص إشكالى قوبِل بالتشكك بل والعداء. وفى هذا يكتب جمال الدين بن شيخ فى كتابه «ألف ليلة وليلة أو القول الأسير»: «لم تعهد الثقافة العربية الإسلامية للحكايات خطابًا أخلاقيًا، وبحذرها الشديد من الطبيعة الأنثوية وضعف الذكور فقد أوكلت للثقافة العالِمة دور معالجة الهوى. وقد صنفت الحكايات فى صنف الهذيان لأنها وُجِدَت فى خطابات غير قابلة للمراقبة وأساليب للتفكير جد مؤذية. وهذا يتجاوز مجرد إجراء وقائي، وقد وصف الفقهاء نصًا منحرفًا بأنه تافه كى يبطلوا آثاره، وقد وقع كلام شهرزاد فى فخ جهاز ثقافى ذراه وأفرغه من المعنى».
لذا من الطبيعى أن نجد تسفيهًا ل «ألف ليلة وليلة» فى كتابات القدماء، وأبرز أمثلته أن ابن النديم يموقعها فى كتابه «الفهرست» ضمن «الأسمار والخرافات»، وبعد الإشارة إلى أن الفُرس هم أول من «صنَّف الخرافات، وجعل لها كتبًا، وأودعها الخزائن»، يشير إلى الليالى باسمها الفارسى الأول «هزار أفسان»، ومعناه «ألف خرافة». وفى النهاية يصدر حكمه القاطع عليها قائلًا: «وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث».
الحكايات غير المحكية فى ألف ليلة
فى «ألف ليلة وليلة» حكايات غير مروية، وأخرى غير مكتملة، وفى بعض طبعاتها إشارات إلى حكايات وشخصيات موجودة فى طبعات أخرى بشكل مغاير.
ولعل أشهر الحكايات غير المروية هى قصة التمساح المشار إليها فى حكاية الملك يونان والحكيم دوبان، فحين أمر الملك بقتل الحكيم، قال له الأخير: «هذا جزاى منك؟ تجازينى مجازاة التمساح؟»، سأله الملك: «وما قصة التمساح؟» فقال الحكيم: «ما يمكننى بتها فى هذه الوقت الذى أنا فيه.»
لم يحك دوبان حكاية التمساح قبل قتله، وبالتالى هى حكاية أغفلتها الليالي، لكن عبد الفتاح كيليطو فى كتابه «العين والإبرة» يذكر أن فى كتاب «المستطرَف فى كل فن مستظرف» للأبشيهى إشارة إلى أن الأمر له علاقة بسلوك أحد التماسيح حيال طائر يخلصه من الدود الذى يجتاح فمه وما إن يتخفف منه حتى يطبق فكه على الطائر، لكن الأخير يخزه فيتألم ويطلقه.
وبالبحث فى عدد من كتب التراث نجد تفاصيل عديدة حول علاقة التمساح بطائر القطقاط أو الزقزاق، منها ما ورد فى كتاب «حياة الحيوان الكبرى» للدميرى: «ومن عجائب أمره أنه ليس له مخرج فإذا امتلأ جوفه بالطعام خرج إلى البر وفتح فاه، فيجيء طائر يقال له القطقاط فيلقط ذلك من فيه.
وهو طائر أرقط صغير يأتى لطلب المطعم، فيكون فى ذلك غذاء له وراحة للتمساح، ولهذا الطائر فى رأسه شوكة، فإذا أغلق التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه.»
وأورد الدميرى أيضًا مثلين مشهورين عن ذلك هما: «أظلم من تمساح» و«كافأه مكافأة التمساح.»، ومكافأة التمساح هنا هى التهام الطائر الذى ساعده؛ أى مقابلة الإحسان بالإساءة، تمامًا كما فعل الملك يونان مع الحكيم دوبان الذى عالجه من مرضه الخطير. حكاية التمساح هنا إذن، هى مرآة عاكسة لما جرى بين الرجلين، فلماذا لم يحكها الحكيم دوبان؟ ولماذا كان مبرره لعدم حكيها أنه لا يمكنه فعل هذا فى وقتٍ حياته مهددة فيه؟ أليس هذا هو دور الحكايات فى ألف ليلة؟ ألا تُحكَى وقت الخطر لإنقاذ راويها؟!
القصة الثانية غير المحكية والتى لا تقل شهرة هى قصة ما عملت أمامة مع عاتكة، التى كان من المفترض أن يحكيها العفريت للصياد بعد أن سمع منه حكاية الملك يونان والحكيم دوبان، لكنه لم يفعل بحجة أن «ما هذا وقت الحديث وأنا فى هذا السجن الضيق!»، وهى تكاد تكون نفس حجة الحكيم دوبان لعدم حكى حكاية التمساح، وفحواها أن وقت تهديد الحياة ليس ملائمًا للحكى! وفى هذا تناقض مع منطق الليالى كما أسلفنا، فالحكايات فيها هى فِعل حياة بامتياز، فهى وحدها الكفيلة بإنقاذ المهددين بالقتل. وثمة أمر لافت للانتباه هنا، أن العفريت وهو فى هذا السجن الضيق نفسه استمع بشغف من الصيّاد لحكاية «الملك يونان والحكيم دوبان»، ولم يعتبر مأزقه مانعًا من الاستمتاع بالاستماع إلى حكاية ولا قاتلًا لفضوله، كأنه عبر هذا يخبرنا أن الإنصات إلى حكاية بارعة أمتع وأسهل من حكيها.
هنا علينا أن نتساءل؛ لماذا لم يتم تضمين حكايتَى التمساح وأمامة وعاتكة فى «ألف ليلة وليلة»؟ فى حالة حكاية التمساح، أغلب الظن لأنها أشهر من أن تُحكَى كما سبق وأوضحنا، هذا بخلاف أنها تفتقر إلى البراعة الكافية، فهى مجرد عبرة مباشرة عن مجازاة الخير بالشر، وحتى لو اتسمت بالبراعة لما تغير رأى الملك يونان، فلو استثنينا حكايات شهرزاد التى تفتدى حياتها عبرها بالحيلة، فإن معظم الحكايات المنقذة فى الليالى تصبح كذلك نتيجة لعقد مسبق بين الراوى والمروى له يوافق بموجبه الأخير على العفو عن الشخص المهدد وإطلاق سراحه إن نالت الحكاية إعجابه، وهذا الاتفاق لم يكن واردًا فى الموقف الجامع بين الحكيم والملك.
لقد بدا الملك مصممًا على قتل يونان، وإن شاب سؤاله الفضول، فإنه لم يكن فضولاً كافيًا للعفو عن الحكيم، لذا ليس من الغريب أن يمتنع الأخير عن حكى الحكاية، لكن الغريب أن يرغب الملك فى الاستماع إليها فى موقف معقد كهذا، خاصةً أن مغزاها يبدو واضحًا من إشارة الحكيم لها.
وهنا يحضر سؤال: وماذا عن المستمعين لحكايات ألف ليلة وليلة و قرائها؟ ألن يشتعل فضولهم لمعرفة فحوى هذه الحكاية؟ المستمعون والقراء القدامى يعرفون الحكاية المقصودة بما أن ذكرها متكرر فى كتابات كثيرة، فإضافة إلى الدميرى والأبشيهى أشار إليها الجاحظ وابن الجوزى وغيرهما، ويكفى التذكير بأن «مكافأة التمساح» صارت مثلًا، والقراء الأحدث استخلصوا المراد منها دون حاجة لمعرفة تفاصيلها فى غمرة تشوقهم لمتابعة كيفية انتقام دوبان من جحود يونان.
هذا عن حكاية التمساح، ماذا عن حكاية ما فعلته أمامة مع عاتكة؟ من الوارد أيضًا أنها كانت قصة شائعة فى الماضي، ثم اختفى ذكرها حين لم ينتشلها التدوين من أدغال الحكى الشفاهى التى لا تضمن دائمًا النجاة لما تحتويه من كنوز، فيتلاشى منه ما يتلاشى بفعل الزمن. الأمر الثانى أنه بدا واضحًا فى هذه الحالة أيضًا أننا أمام حكاية يمكن اختزالها فى العبرة المستخلصة منها، لأن العفريت أشار إليها فى سياق الإحسان إلى من أساء، ومن خلال حواره مع الصياد نستنتج أن أمامة قد ردت على إساءة عاتكة بإساءة مماثلة أو ربما أكبر، فنتجت عن هذا عواقب ضارة، فهو يقول له وهو يطلب عفوه: «ولا تعمل كما عملت أمامة مع عاتكة». هذا كله يوحى بأن هذه الحكاية مثل سابقتها لا ترقى لأن تكون سببًا فى إنقاذه، فجاء الإنقاذ من باب آخر هو باب العهد والميثاق، إذ تعهد للصياد بأنه لن يؤذيه إن أطلق سراحه، بل سيكافئه مكافأة حقيقية وليس مكافأة التمساح.
الملاحظة المهمة هنا أن أشهر حكايتين غير مرويتين تضمهما حكاية رئيسية واحدة هى حكاية «الصياد والعفريت»، وهذا كفيل بإثارة الأسئلة فى أذهاننا: هل الأمر عائد إلى مصادفة بحتة؟ أم أنها خصيصة تختص بها هذه الحكاية دون سواها؟ لأن بقراءة الليالى، نلاحظ أنه مثلما توجد نقاط ارتباط بين حكايات الكتاب ككل، توجد كذلك سمات مشتركات وتيمات متكررة فى كل حكاية من الحكايات المهمة فيه؛ مثل حكاية «الصياد والعفريت» و«رحلات السندباد» و«حاسب كريم الدين».
الحكاية الثالثة غير المحكية نجدها ضمن إحدى الحكايات الفرعية المتولدة عن حكاية «الحمَّال والثلاث بنات»، وهى جزء من حكاية القرندلى الثالث، عجيب بن خصيب، حين يقابل الشبان العوران الذين يبكون ويلطمون ليلًا ويغطون وجوههم بالسخام، ويسألهم عن حكايتهم فلا يحكونها له مخبرين إياه «وأما نحن إن حكينا ما جرا لنا يطول شرحنا فإن كل واحد منا جرت له حكاية فى سبب قلع عينه اليمنى».
وبدلا من الحكى يتركونه يخوض التجربة بنفسه، فالتجربة خير برهان كما يقال. ثم يتعرف القارئ لاحقًا على حكايتهم عبر ما جرى للقرندلى الثالث، ويعرف أنها تكاد تكون حكاية واحدة متكررة، فجميعهم لم يقدر على مقاومة فضوله، وفتح الباب المحرم فتحه، فقاده ذلك إلى الطرد من فردوسه الأرضي، وجلب له الندم.
هى إذن حكاية غير محكية للقرندلى الثالث، لكنها مع هذا حكاية معلومة، أو تصبح كذلك حين يحكيها هو لصاحبة البيت فى حضرة رفيقيه القرندلى الأول والثانى والحمال والخليفة ومسرور والوزير جعفر.
امتناع العوران النادمين عن حكى حكايتهم فى هذا المثال لا يندرج فى خانة السهو أو الخلل الناتج عن تحويل حكايات شفاهية إلى نص مكتوب، لكنه وليد براعة راوٍ يعرف متى يصمت ومتى يحكى ومتى يدمج حكايتين أو أكثر معًا، فالأفضل أن يحكى القرندلى الثالث هذه الحكاية المشتركة بينه وبين العوران باعتبارها تجربته الخاصة دون أن يسمعها منهم أولاً.
لكن ما ينبغى أن يلفت النظر هنا، أن العوران النادمين، بعد تحذير أولى لعجيب بن خصيب من أن فضوله لمعرفة ما جرى لهم سيؤذيه، فضلوا أن يختبر ما اختبروه كى يعرف الرد بطريقة عمليه، مع أن حكى الحكاية بما تحتويه من عبرة لربما نجَّاه من مصير قاتم، تعاونوا هم على تسريع وصوله إليه.
ساعدوه كى يمر بما مروا به رغم إدراكهم أن فضوله سيوقعه فى الفخ نفسه الذى سبق لهم الوقوع فيه وقعوا هم فيه. هل نبع هذا من يقينهم بأنه كان سيختار خوض التجربة بنفسه أيًا كانت المخاطر؟ أم أنها رغبة دفينة منهم فى أن يصير مثلهم مطرودًا من فردوس أرضى وبعين واحدة؟ هذا أمر متروك لتأويل كل قارئ. ما يهمنا هنا أن رفض العوران حكى حكايتهم يضعها ضمن الحكايات غير المحكية، لكنها تختلف عن سابقتيها بأننا سنعرفها على أية حال حين تتكرر مع القرندلى الثالث.
فى المقابل توجد فى الليالى حكايات غير مكتملة. ففى حكاية التاجر والجنى مثلًا، ماذا حدث للشيخ الأول الذى شارك فى إنقاذ التاجر من الجنى بعد حكى حكايته؟ هل نجح فى الوصول لابنه؟ وهل ظلت زوجته مسخوطة فى هيئة غزالة أم عادت إنسانة؟ وماذا حدث للشيخ الثانى؟ هل نجح فى تخليص شقيقيه المسخوطين فى هيئة كلبين من السحر؟ لن نعرف أبدًا، لكن الامتناع عن تكملة الحكى هنا يُحسَب لليالي، لأنه يأتى لأسباب فنية، فدور هذين فى الحبكة البسيطة للحكاية يتمثل فى إنقاذ التاجر عبر حكاية عجيبة وهو ما فعلاه، أما ما سيقع لهما لاحقًا فمتروك لخيال كل متلقٍ لليالى.
أما الشيخ الثالث فى الحكاية نفسها، فما يخصه يقع فى خانة السهو المرافق لانتقال الليالى من مرحلة الشفاهة إلى مرحلة التدوين، ففى طبعة محسن مهدي، لم تُحكَ حكايته، تم فقط الاكتفاء بالإشارة إلى أنه حكى حكاية عجيبة مُنِح بها ثُلث دم التاجر، وفى طبعة بولاق أُضيفت له حكاية مختصرة ومكرورة مفادها أن البغلة التى ترافقه هى زوجته وأنها خانته مع عبد أسود وسحرته فى صورة كلب وأنقذته ابنة جزار تجيد السحر وساعدته فى مسخ زوجته فى هيئة بغلة ورغم هذا رآها الجنى كافية لمنحه ثلث دم التاجر.
أى أن طبعة محسن مهدى المعروفة بالطبعة الأصلية سهت عن هذه الحكاية، وحاولت طبعة بولاق ملء الثغرة الناتجة عن هذا السهو، باللجوء إلى تيمة متكررة كثيرًا فى الليالي، فبدت كأنما انتزعت تفاصيل واردة فى حكايات عِدة ولفقت منها على عجل حكاية للشيخ الثالث.
غايات الحكى فى ألف ليلة وليلة
تُحكى الحكايات فى الليالى للإنقاذ، كما سبق وأشرنا، لكن ليست كل حكايات الليالى منقذة، فثمة حكايات عديدة حُكيت فى مواقف لا تتطلب إنقاذ أحد.
ويجمع بين معظم حكايات الليالى أنها عجيبة، فكلما زاد منسوب العجيب والغريب فى الحكاية زادت أهميتها وتضاعفت قدرتها على الإنقاذ وعلى استخلاص العِبرة والموعظة منها، لكن ليست كل حكايات الليالى عجيبة، فبعضها منسوج من ركام الواقع اليومى ولا عجيب فيه إلا المصادفات وألاعيب القدر.
وقد تُحكَى حكاية فى فضاء الليالى لإشعار المحكى له بالندم على خطيئة ارتكبها ندمًا يدفعه للاعتبار، كما نجد فى حالة حكى الصياد لحكاية الملك يونان والحكيم دوبان للعفريت.
ثم يحاول العفريت إقناعه بالعفو عنه بالإشارة إلى حكاية أمامة وعاتكة كأن الحكايات فى عالم الليالى هى وسيلة الإقناع والحجاج الرئيسية، أو حتى كأن الحكاية هى اللغة الكفيلة بالتواصل الحقيقى بين شخصيات الليالي، ولا أهمية للكلام إن لم يكتسِ بكسوة الحكى.
وفى حكاية «حاسب كريم الدين» نجد أن الغالب على الحكايات المتضمنة فيها أنها لا تُحكَى بالضرورة لإنقاذ الحياة، بل للتعارف، كأن حكاية كل شخص هويته وبطاقة تقديمه إلى الآخرين.
وكذلك تحكى الحكايات للتسلية وتزجية الوقت. غير أن الغاية الأساسية والرابط الأشمل بين حكايات الليالى يتمثل فى انطوائها على عظة وعبرة ما، ما يعيدنا إلى العبارة المفتاحية فى الليالى: «حكاية لو كُتِبَت على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر».
والتفكير فى هذه العبارة يستحضر فى الذهن صورًا عن جروح لا تندمل ربما تقود للعمى، لكنه يثير إلى جانبها أسئلة من قبيل: نحن هنا بصدد أحد أشهر النصوص الشفاهية فى تاريخ الأدب، فما الذى يستدعى فِعل الكتابة إذن؟ هل يمكننا اعتبار أن المسكوت عنه هنا أن الكتابة هى طموح أى نص شفاهي؟ وهدفه المأمول؟ أمر آخر: هل لن تمثل الحكاية عِبرة لمن يعتبر إلا لو دونت؟ أهذا اعتراف من أمهر الحكائين الشفاهيين بأن الحكايات المكتوبة هى فقط ما يعول عليه؟ حكايات ألف ليلة وليلة نفسها نالت هذا الامتياز؛ دونت وحفظت بناء على أمر شهريار فى عالمها المتخيل، ورآها جامعوها الأوائل جديرة بالحفظ والتدوين فانتقلت من فضاء الشفاهة إلى ملكوت الكتابة، إلا أنها لم تخن أصلها الشفاهى واحتفظت بميزته الأهم المتمثلة فى التجدد والتنوع وأن تكون عصية على الخضوع لصيغة واحدة محددة محصورة بين دفتى كتاب.
هكذا نرى اختلافات وتباينات بين طبعاتها العديدة. وحتى عندما يُنظِّر دارسوها للطبعة الأصلية، تفاجئهم الطبعات المحتضِنة للحكايات المضافة بسحرها وقدرتها على نيل الاعتراف بجودتها وجدارتها بالانتماء لهذا السفر اللانهائى.
ألقيت المحاضرة فى مكتبة تكوين يوم 27 مايو الماضى بدعوة من المكتبة والمجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ضمن احتفالات الكويت عاصمة للثقافة العربية لعام 2025.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.