من خلال «صوت الجامعة» فى الفترة من 73/75 بدأ ارتباطى وتعلقى بالبرلمان والحياة السياسية، فالبرلمان هو المطبخ السياسى الذى لابد أن تعيش فيه لتعرف كواليس السياسة. أكبر خطأ ارتكبته فى حياتى المهنية أننى لم أدون يوميات أو مذكرات متفرقة عن أهم الأحداث التى مررت بها والشخصيات التى أثرت فىّ.. والآن بعد 50 عامًا قضيتها فى بلاط صاحبة الجلالة «وهو الوصف الذى تشتهر به الصحافة» سبقتها ثلاث سنوات مارست فيها العمل الصحفى أثناء دراستى بكلية الإعلام جامعة القاهرة فى تجربة ثرية غير مسبوقة فى الجامعات المصرية وأعنى بها صحيفة «صوت الجامعة» التى كنا نصدرها لتغطية أخبار الجامعات والمعاهد. الآن فقط وبعد مرور كل هذه السنوات «53 عامًا» اعترف بالخطأ الذى ارتكبته وأحاول تداركه بالاستجابة لمحاولات زملائى المستمرة برواية بعض الأحداث التى مرت بى ولو فى صورة حكايات ولتكن البداية ب»صوت الجامعة»، التى كان صاحب فكرتها والمشرف على تنفيذها أستاذنا وقدوتنا الكاتب الكبير الراحل جلال الدين الحمامصى.. لا أنسى أبدا صدور أول عدد من «صوت الجامعة» يوم الاثنين 18 ديسمبر 1972 عندما نشر اسمى لأول مرة فى حياتى مسبوقا بكلمة كتب.. هذا التاريخ كان فى بداية دراستنا فى السنة الثانية ودربنا أستاذنا جلال الحمامصى على أن تتحمل مسئولية العدد بالكامل من الألف إلى الياء.. من التخطيط للعدد والموضوعات التى سنتصدى لها وكيفية تنفيذها ثم عملية تجهيز الصفحات فى مطابع أخبار اليوم.. حيث كان الحمامصى فى ذلك الوقت أحد رؤساء التحرير فى جريدة «الأخبار» بينما كان رئيس التحرير التنفيذى الكاتب الكبير موسى صبرى.. وبعد الطبع كانت تأتى عملية التوزيع التى كنا نتحمل مسئوليتها بالكامل من خلال فرق تنتشر فى جميع الجامعات والمعاهد لتوزيع العدد الجديد يوم الاثنين من كل أسبوع. المجموعات التى تحملت هذه المسئولية أتيحت لها فرصة تاريخية لتدريب عملى على مستوى عال جدا جعل منا «والحمد لله» دفعات متميزة مهنيا منذ اللحظة الأولى التى خضنا فيها تجربة العمل الصحفى اليومى بعد التخرج وذلك بشهادة أساتذتنا ورؤسائنا.. لقد صعدنا السلم من أول درجة خاصة فى المطبعة.. بدأنا من توضيب الصفحات عن طريق جمع المادة الصحفية مجرد سطور متتالية من الرصاص يجمعها عامل متخصص يقوم برصها فى إطار حديد كبير يمثل صفحة فى الجريدة ويتم توضيبها وكتابة العناوين ووضع الصور وفقًا للماكيت الذى يضعه سكرتير التحرير.. وبعد أن ينتهى من عمله يعلو صوته وهو ينادى «عربية» تأتى عربة تجر بالأيدى تحمل الصفحة بعد توضيبها إلى المطبعة حيث تمر بعدة خطوات تخرج بعدها صفحات مطبوعة على ورق الصحف المتعارف عليه وتدور الماكينات لتخرج الأعداد تباعًا ويتم رصها فى «رزم» تأخذ طريقها إلى سيارات التوزيع. رائحة الحبر والرصاص صوت العمال العالى وهم ينادون عربية ما زال يرن فى أذنى.. ما أجمل هذه الأيام التى انتهت مع إدخال نظام الجمع الإليكترونى للمادة الصحفية والتوضيب على الشاشات وما زال التطور مستمرًا ومرحبًا به بالطبع لكنه تطور يفتقد رائحة الحبر والرصاص الخام التى تربى عليها عمالقة الصحافة مصطفى وعلى أمين اللذان أسسا دار «أخبار اليوم» 1944 وكان ثالثهما جلال الحمامصى الذى ودع دراسته للهندسة وتفرغ للصحافة حتى أطلق عليه «مهندس الصحافة» خاصة عندما كان يبدع فى رسم الصفحات. درس لنا جلال الحمامصى ثلاثة كتب هى «الصحيفة المثالية» و»المندوب الصحفى»، و»من الخبر إلى الموضوع».. وما زالت هذه الكتب من أهم ما تضمه المكتبة العربية من كتب عن الصحافة. لجلال الحمامصى كتب أخرى مهمة هى صالة التحرير ووكالات الأنباء والمخبر الصحفى والأخبار فى الراديو والتليفزيون.. أما الكتاب الذى أثار أكبر جدل كان «حوار وراء الأسوار» الذى تضمن حوارًا نقديًا للحقبة الناصرية تسبب فى اعتراضات عديدة من الناصريين. الوفاء للمعلم والقدوة تأثير جلال الحمامصى علينا لا يمكن إنكاره أو التقليل منه وربما تواصلنا مع أسرته وخاصة نجله المهندس كامل الحمامصى وزيارة مجموعة منا منزل الأسرة فى ذكراه السنوية فى 20 يناير من كل عام هى عادة أيضًا غير مألوفة أو معتادة رغم مرور 37 عامًا على وفاته لكنه الوفاء للمعلم والقدوة.. صفات نتمنى أن تعود لمجتمعنا ويعرف قيمتها شبابنا. خلال السنوات الثلاث التى أمضيناها بالكلية ونحن نصدر «صوت الجامعة»، كنت أقدم أسبوعيًا زاوية عن نشاط لجنتى التعليم والشباب بمجلس الشعب الأمر الذى أتاح لى دخول البرلمان والتمتع بحرية الحركة بين لجانه خاصة لجنتى التعليم والشباب.. وكذلك كان مسموحًا لى بمتابعة جلسات المجلس من شرفة الصحافة.. حدث هذا خلال السنوات من 73،75 ومن هنا بدأ ارتباطى وتعلقى بالبرلمان ونشاطه والحياة السياسية بصفة عامة، فالبرلمان هو المطبخ السياسى الذى لابد أن تعيش فيه لتعرف كواليس السياسة.. لكننى وقبل أن أغادر هذه الفترة أتذكر جيدا «وربما هذه ليست المرة الأولى التى أذكر فيها هذا الحدث» أذكر الحديث الذى أجريته مع المهندس سيد مرعى رئيس مجلس الشعب فى ذلك الوقت وشاركتنى فيه د. ليلى عبدالمجيد التى كانت طالبة بالسنة الأولى بالكلية فى ذلك الوقت ثم أصبحت فيما بعد عميدة الكلية.. كان ذلك عام 1973. لا أنسى أبدا استقباله الودود لنا بمنزله فى شارع شجرة الدر بالزمالك وقتها كان السياسيون الكبار يقيمون فى شقق وليس ڤيلات أو قصور كما حدث بعد ذلك!! وعلى مدى أكثر من ساعة فتح لنا قلبه ومنحنا الفرصة لإجراء حوار صحفى متميز معه لا أنساه أبدا. أول مسئولية فى «الأخبار» فى العاشر من يونيو 1975 ظهرت نتيجة البكالوريوس وبسرعة ألحقنا أستاذنا جلال الحمامصى كمتدربين فى «الأخبار» وكانت أول مسئولية أتولاها هى تغطية نشاط وزارة الرى ومجلس الدولة وذلك اعتبارا من 30 يونيو 75 أى بعد أقل من شهر من تخرجى.. فى هذا اليوم قدمت خبرا «بعد زيارة لمجلس الدولة» نشر على عمود فى الصفحة الأولى حول بدء العطلة القضائية اعتبارا من أول يوليو 1975.. وبمرور الأيام تعودت المرور على مجلس الدولة ووزارة الرى التى كانت ملاصقة لمجلس الشعب على ناصية شارع الشيخ ريحان.. كان وزير الرى فى ذلك الوقت المهندس عبدالعظيم أبو العطا رحمة الله عليه.. طلبت مقابلته وقدمت له نفسى وبدأت العمل بالتعرف على وكلاء الوزارة وقطاعاتها المختلفة.. زرتهم فى مكاتبهم وسألتهم عن طبيعة العمل فى كل قطاع. وبعد أسابيع قليلة جاءتنى أول فرصة للسفر مع وزير الرى فى جولة طويلة شملت جميع محافظات الوجه القبلى رافقنا فيها المهندس وليم نجيب سيفين وكيل أول الوزارة الذى كان يتمتع بموهبة كتابة وإلقاء الشعر بالإضافة إلى خفة ظل غير مسبوقة.. ما لا يمكن أن أنساه فى هذه الجولة تلك الأبيات من الشعر التى كان يلقيها المهندس وليم نجيب سيفين فى كل محافظة نزورها وخلال اللقاء مع المحافظ والقيادات الشعبية والتنفيذية بها.. براعة المهندس وليم نجيب سيفين كانت فى صياغة شعر يربط بين طبيعة المحافظة ومشاكلها الخاصة بالرى وما يمكن أن يقدمه لها الوزير من خلاله. كان المهندس عبدالعظيم أبو العطا وزيرا محترما على درجة عالية من الخبرة بقطاع الرى ومشاكله.. كان مهتما بالصحفيين المرافقين له ويطمئن بنفسه يوميا على أنهم «أكلوا كويس ومرتاحين فى الإقامة» لمسات بسيطة لكنها تركت أثرًا طيبًا فى نفوسنا. المفاجأة أذهلتنى وبعد مرور شهر من بدء مهمتى فى وزارى الرى فوجئت بمدير مكتبه يقدم لى ظرفا ويقول لى «هذه مكافأة بسيطة من الوزير تقديرا لجهودك» التصرف أذهلنى فى بداية حياتى العملية فاعتذرت له لكنه أكد لى أن هذا تقليد طبيعى معمول به فى الوزارة منذ سنوات فقلت له إننى لم أفعل أكثر من أننى أديت واجبى الذى كلفتنى به «الأخبار».. بعدها توقف مدير مكتب الوزير عن محاولة تقديم هذه المكافأة لى مرة أخرى! تعليق لا أنساه علاقتى بالمهندس وليم نجيب سيفين تحولت إلى صداقة حتى بعد أن انتقلت لتغطية البرلمان.. كان فعلا «رحمه الله» رجلا لطيفا جدا وخفيف الظل.. وشاءت الأقدار أن يعين وزيرًا للهجرة بعد ذلك بسنوات وظلت علاقتنا قوية وصداقتنا ممتدة لكننى لا أنسى أبدا عبارة قالها لى بعد ما ترك الوزارة وسألته وقتها «لماذا خرجت من الوزارة؟» فقال لى «لما أعرف أنا دخلت الوزارة ليه أبقى أقولك أنا خرجت ليه»! ما قاله المهندس وليم نجيب سيفين هو تعبير صادق كما يحدث غالبا فى تشكيل الوزارات بدول العالم الثالث.. ولا أعتقد أن هذا القول الساخر ينتقص من قيمة وقدر المهندس وليم نجيب سيفين بأى شكل من الأشكال فله منى دائما كل التقدير والاحترام .