في خضم الأحداث الساخنة التى يشهدها العالم، والتى تبدو روسيا فى بؤرة الكثير منها، ربما يعتقد البعض أن أهم ما تعانى منه الدولة الروسية هو الحرب أو التنافس مع الغرب أو بالأحرى حالة العداء المتأصلة لدى الغرب تجاه الدولة الروسية ونظرة الشك التى تحتفظ بها الكثير من دول الغرب لكل ما هو روسي، ولكن الواقع هو أن أهم مشكلة تخشى منها روسيا هى مشكلة داخلية بحتة تمس فى المقام الأول الحفاظ على التطور الطبيعى للسكان فى هذا البلد. الحقيقة، أنه لو تابعنا كلمات الرئيس الروسي، التى يتوجه بها للشعب فى نهاية كل عام سنجد أنه يفرد مساحة خاصة فى حديثه عن التحديات التى تواجه ليس فقط حاضر الأمة بل ومستقبلها وإمكانية استمرارها، وهذه المساحة تخص فى المقام الأول ضرورة العمل على مواجهة التناقص السكانى وضمان الزيادة الطبيعية للسكان، وانطلاقًا من تفهم الدولة الروسية سواء على مستوى القيادة أو الشعب للخطورة الشديدة لهذه المشكلة، تسعى روسيا دائما لوضع البرامج والتدابير المختلفة التى تؤدى إلى تحسن الأوضاع، سواء على مستوى تحسين الصحة العامة وبالتالى متوسط أعمار المواطنين، أو على مستوى تحفيز السكان على الإنجاب، حبذا ولو كان ذلك بشكل طبيعي، أى من خلال ما تؤكد عليه القيادة الروسية من تحفيز القيم التقليدية فى مجال إقامة الأسر عن طريق الزواج وبالتالى الإنجاب بشكل طبيعى ومُتكرر. ومنذ أن بدأت روسيا فى صياغة البرامج العلمية والطموحة لتحسين الوضع الديموجرافى؛ وهى البرامج التى بدأت تتبلور بشكل واضح وعلمى وعملى مع تولى فلاديمير بوتين للسلطة فى هذا البلد، طرأت تغييرات ملموسة فى كافة اتجاهات تحسين الوضع الديمغرافى سواء على مستوى زيادة متوسط الأعمار أو تعزيز الصحة العامة للسكان أو زيادة معدل المواليد، وعلى الأخص فى إطار مؤسسة الأسرة التقليدية، ولكن على الرغم من ذلك إلا أنه على ما يبدو أن الأحداث التى تشهدها الدولة الروسية، أو بالأحرى التى تعتبر الدولة الروسية طرفا فيها قد أدت إلى تغييرات سلبية ربما تكتسب الطابع المؤقت فى هذا المجال فى الفترة الأخيرة. ◄ تناقص السكان أشار التقرير الأخير لهيئة الإحصاء الروسية، إلى أن التناقص الطبيعى لعدد السكان فى روسيا قد زاد فى العام الماضى بنسبة 20% ليصل 596.2 ألف نسمة، والمقصود بالتناقص الطبيعى هو الفارق بين عدد المواليد وعدد الوفيات فى الدولة، وبما يرى البعض أن هذا الأمر ينطوى على كارثة ولكن لو وضعنا فى الاعتبار أن هذا الرقم فى عام 2021 كان يمثل 1.04 مليون نسمة، وذلك بسبب ظروف انتشار فيروس كورونا، لوجد أن الأمر ربما ينطوى على مشكلة ولكنه فى جوهره يعكس نجاح الدولة فى تدارك الأوضاع وتحسينها فى الوقت المناسب. الدولة الروسية تولى اهتماما من الدرجة الأولى لتحسين الوضع الديموجرافى من خلال عدة آليات بما فى ذلك آلية البرامج الصحية على مستوى الأفراد والمجتمع ، حيث كان من ضمن أهم هذه البرامج ما صدقت عليه الحكومة الروسية مؤخرا مما يعرف باسم «المرصد الاجتماعى للصحة العام»، وهو نوع من آليات الرصد على مستوى الأقاليم الروسية لمتابعة ما يحققه كل إقليم من إنجازات فى مجال الصحة العامة، وذلك فى إطار سياسة الدولة فى مجال الحد من نقاط بيع المشروبات الكحولية وتوفير الوسائل والمعدلات اللازمة لتربية الأطفال، وتوفير الاستشارات الضرورية للسيدات، وكذلك انتشار المراكز الطبية والصحية المرتبطة بصحة المرأة والطفل . المعلومات التى سترد إلى المرصد سيكون لها الطابع الشفاف والعلني، بحيث يمكن لأى شخص الاطلاع عليها ومتابعتها، ومن خلال هذا المرصد سيكون هناك تقييم لكافة الأقاليم فى روسيا وذلك بناء على مجموعة من المعايير بما فى ذلك مستوى الخدمة الصحية المقدمة وسهولة الوصول إليها ومعدلات الإنجاب والوفيات، إلى جانب نوعيات الأمراض المنتشرة ومعدلات تناقص الإصابة بها، وغيرها من المعايير التى ستوضح مدى التقدم الذى أحرزه كل إقليم لتحسين الصحة العامة للسكان، ووفقا لتحقيق أفضل نتائج سيتم منح كل خمسة أقاليم حققوا أعلى نتائج فى كل اتجاه من اتجاهات المرصد حوافز إضافية للمزيد من تحسين الخدمات، وبطبيعة الحال سيدخل ذلك فى تقييم سلطات الإقليم المختلفة وسيكون ذلك هو الأساس للسماح باستمرارها فى السلطة من عدمه. والمعروف أن الرئيس الروسى لدى تعيينه لهذا أو ذاك من حكام الأقاليم فى روسيا يؤكد على خمسة معايير أساسية للحكم على مدى نجاح القائم على السلطة المحلية، وأهم اتجاهات هذه المعايير هو التقدم الذى تحرزه سلطات الحكم المحلى بمجال الرياضة العامة والصحة الجماهيرية والبيئة والتعليم والثقافة والبنية الأساسية المحلية. صحة الأمة وهنا يشير ليو بيكيريا، كبير أطباء جراحة القلب والأوعية الدموية فى وزارة الصحة الروسية، رئيس ما يعرف ب»منتدى صحة الأمة» إلى أن الهدف من هذا البرنامج أو المرصد ليس هو خلق مناخ من المنافسة بين الأقاليم وإنما دفع الأقاليم للتعاون بين بعضها البعض فى مجال وضع وتنفيذ برامج الصحة العامة وتحسين الأوضاع الصحية والبدنية للشعب؛ بما يحقق الهدف الأسمى الذى حدده رئيس الدولة فلاديمير بوتين من زيادة متوسط أعمار الشعب الروسى ليصل 78 عاما، ولكن وكما أشرنا من قبل فإن هذا الهدف وضع لعام 2024 ولكن لظروف الحرب والنزاعات التى تورطت فيها روسيا لم تحقق فى العام الماضى سوى متوسط يصل 72.6 عاما، ومن المنتظر أن يصل المتوسط هذا العام إلى 73 عاما، بحيث سيستمر العمل لتحقيق الهدف الموضوع وهو 78 عاما على مدار السنوات القليلة القادمة. الهدف من البرنامج ليس هو خلق مناخ من المنافسة بين حكام الأقاليم، خاصة أن من التقييم لمدى النجاح فى تطبيقه سينبع من القيادة العليا للدولة، لكن الهدف هو تحقيق أعلى مستوى من التكامل والتنسيق بين الأقاليم المختلفة، بحيث يصبح نجاح كل إقليم مثالا يقتدى به فى بقية الأقاليم، مع تعميم كل تجربة ناجحة على بقية الوحدات الإدارية للدولة. وكان ميخائيل موراشكو وزير الصحة الروسية قد أشاد ببعض الأقاليم فى روسيا، والتى حققت بالفعل نتائج طيبة فى مجال الحد من تعاطى المشروبات الكحولية، فى إطار السياسة العامة للدولة من حيث التحكم المركزى على المستوى الفيدرالى فى أسعار المشروبات الكحولية ومنافذ البيع ومنع بيع الكحوليات عن بعد، وتحديد مواعيد معينة للبيع ومنع بيعها فيما دون ذلك. ونوه الوزير على أن هناك أقاليم قد حققت نتائج مبهرة فى هذا المجال، بما فى ذلك إقليم فولجوجراد الروسى الذى حدد مواعيد لبيع الكحوليات، بحيث لا تباع إلا فى أيام العمل الأسبوعية ومن الساعة الثانية عشرة وحتى الرابعة عشرة ظهرا فقط، حيث أدى ذلك إلى تراجع عدد الوفيات المتصلة بالتعاطى بنسبة 41.2% فى مارس الماضى و18.2% فى أبريل. إلا أن إقليم ياكوتيا الروسى يعتبر الأبرز على هذه الخلفية، حيث إنه وضع قيودا على إمكانية شراء المشروبات الكحولية وتعاطيها منذ العقد الأول من هذه الألفية، وهو الأمر الذى أدى إلى تحقيق نتائج مبهرة حيث تراجعت الوفيات المرتبطة بالتعاطى فى الفترة من 2005 وحتى 2023 بنسبة 42% وتراجع عدد الجرائم المتصلة بحالة السكر بنسبة 50.3%. ◄ الأسرة الطبيعية وإذا كانت روسيا قد حققت نتائج جيدة جدا فى مجال زيادة متوسط الأعمار والحد من معدلات الوفيات فمازال الهدف الأسمى لها هو زيادة عدد المواليد، لذلك فالمبادرة المشار إليها سوف تتكامل بشكل وثيق مع برنامج الدولة الذى يطلق عليه اسم «الأسرة»، والذى يهدف إلى زيادة معدلات الإنجاب، حيث أكد وزير الصحة الروسية أنه بمقتضى هذا البرنامج سوف يتزايد عدد المراكز التى تقدم المشورة اللازمة للمرأة بنحو عدد 300 مركز إضافى لما هو قائم بالفعل، كما سيجرى إقامة أكثر من 140 مركزا لتقديم خدمات ما قبل الإنجاب للمرأة، ناهيك عن إقامة عدد ضخم من مراكز ومستشفيات رعاية الأطفال. تقول يكاترينا شيريميتيفا طبيبة أمراض النساء والتوليد فى المركز الوطنى للأبحاث الطبية فى روسيا إنه حتى الآن للأسف الشديد أن 10% فقط من الأسرة الروسية الجديدة تقرر بشكل مسبق الإنجاب، وأن متوسط أعمار السيدات الراغبات فى الإنجاب لا يقل عن ثلاثين عاما وهذا المتوسط فى تزايد مستمر. لذلك تضع الدولة برامج تحفيزية للتشجيع على الإنجاب من حيث تقديم الخدمة الطبية المجانية إلى جانب منح الأسرة مبالغ مالية كبيرة عن كل طفل تنجبه، كما تقوم بعض الأقاليم بتقديم حوافز إضافية حيث يقدم إقليم فوجوجراد الروسى مكافئة خمسة آلاف روبل لكل طبيب يحافظ على الحمل حتى نهايته، إلى جانب 25 ألف روبل إضافية فى حال الولادة الناجحة، هذا الأمر أدى إلى تراجع عدد حالات الإجهاض فى الربع الأول من العام الجارى فى هذا الإقليم بنسبة وصلت 86.4%، وهى نسبة تؤهل هذا الإقليم ليصبح رائدا وسط بقية الأقاليم فى مجال رعاية المرأة فى طور الحمل. ◄ الحياة تستمر فى الظروف الاستثنائية مثل الحروب والنزاعات غالبا ما يتوقف التطور الطبيعى للحياة المدنية، وهو بالفعل ما نشهده فى بعض الدول الأطراف فى بعض الحروب ولسنا بصدد الإشارة إلى أسمائها، لكن فى حالات معينة مثل روسيا سنجد أن الدولة تحرص على ألا يشعر المواطن العادى بتبعات الحرب، بل يظل منخرطا فى العمل والإنتاج وبناء الدولة التى من جانبها تواصل هى الأخرى تنفيذ مختلف برامج تطوير الحياة بها، ففى مثال الدولة الروسية ومنذ نشوب النزاع فى أوكرانيا لم تنفك الدولة فى صياغة برامج التطوير سواء من ناحية استبدال المنتج المستورد بالمنتج المحلي، وتطوير مختلف قطاعات الإنتاج عن طريق التوسع بالوسائل التكنولوجية، والأكثر من ذلك ضخ الأموال اللازمة للتطوير والخروج بأنظمة تكنولوجية جديدة تحمل الشعار الروسي، وبالفعل حققت روسيا نجاحات مبهرة فى مجال الإلكترونيات والذكاء الصناعى ما كانت لتحققه لولا العقوبات الغربية وتضييق الخناق عليها. كما لا تدخر الدولة الروسية جهدا فى تطوير ليس فقط برامج الصحة العامة كما أشرنا من قبل ، بل وكذلك برامج التعليم والتطور التكنولوجى والبحث العلمي، ومؤخرا أخذ رئيس الدولة على عاتقه الإشراف على برنامج تطوير الثقافة العامة بما فى ذلك قطاع المسرح والإبداع الفني، وكل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أنه بينما يواصل الجندى الذود عن أرض الوطن وكرامته تظل الحياة فى الداخل تتدفق بشكل طبيعى وتقدم كافة السبل للشعب لكى يستمر فى الحياة والإبداع، والأهم من ذلك ضمان بقاء واستمرار هذا الشعب الذى يعد الركن الأهم من أركان كيان أية دولة.