ميسرة صلاح الدين فى وقت يشكو فيه الكثير من المثقفين من تراجع الاهتمام بالتراث المصرى، تأتى مبادرة فردية جريئة لتعيد إلى الواجهة اسمًا لا يمكن أن يُنسى من الذاكرة الفنية والوطنية: سيد درويش، ذلك الفنان الاستثنائى الذى شكّل وجدان أجيال كاملة، وعكس بروحه المتمردة وعقله المبدع نبض المجتمع المصرى فى لحظة تحول تاريخى. لطالما ارتفعت أصوات تطالب بالحفاظ على رموز الثقافة والفن فى مصر، لكن تلك الأصوات كثيرًا ما جاءت متأخرة، بعد أن فُقدت معالم أو أُهملت رموز، ولم تُحْتَرَم سيرتها كما يليق. وبينما يستمر الجدل حول مسئولية الدولة والمجتمع فى هذا التراجع، تبرز بين الحين والآخر مبادرات فردية تذكّرنا بأن الأمل لا يزال ممكنًا، وأن هناك من يحمل شعلة الذاكرة ويأبى أن تنطفئ. لا يحتاج سيد درويش إلى تعريف طويل. هو ذلك العبقرى الذى وُلد فى الإسكندرية عام 1892، وعاش حياة قصيرة لم تتجاوز 31 عامًا، لكنها كانت كافية ليخلّد اسمه كواحد من أعظم الموسيقيين فى تاريخ مصر. لم يكن درويش مجرد ملحن ومغنٍ، بل كان صاحب مشروع فنى وثقافى واجتماعى، رفع الفن إلى مصاف التعبير الوطنى، وأدخل إلى الموسيقى المصرية لغة الشارع، وهموم البسطاء، وآمال الثوار. فى سنوات قليلة، تعاون مع كبار رموز المسرح المصرى مثل نجيب الريحانى، وعلى الكسار، وجورج أبيض، وترك بصمة واضحة على المسرح الغنائى متعاونا مع كبار الشعراء فى زمانه من أمثال بديع خيرى ويونس القاضى وغيرهم. لكن الأهم من ذلك أنه صار الصوت الفنى الرسمى والشعبى لثورة 1919، بأغنياته التى كانت تهتف باسم الحرية والكرامة، فأحبّه الشعب وكرهه المستعمر، وراح اسمه يتردد على الألسنة كرمزٍ لفن مقاوم. وبقيت روائعه الخالدة « قوم يا مصرى»، و«أهو ده اللى صار»، و«يا بلح زغلول» وغيرها شاهداً على نضال المصريين وإخلاصهم فى التضحية من أجل وطنهم واستقلاله. رغم هذا التاريخ العريق، ظلّ بيت سيد درويش فى حى «كوم الدكة» بالإسكندرية مهددًا بالنسيان. فعلى مدى عقود، بعد أن باعه الورثة الأصليون، تهدّم البناء تحت وطأة الزمن وضغوط الإهمال. ولم يتحوّل، بطبيعة الحال، إلى مزار أو متحف كما حدث مع منازل بعض الرموز الثقافية والسياسية فى الإسكندرية، مثل منزل الشاعر قسطنطين كفافيس، الذى أصبح مزارًا ثقافيًا تديره وتشرف عليه مؤسسة «أوناسيس» التابعة للجالية اليونانية بالإسكندرية، أو بيت الرئيس جمال عبد الناصر فى حى باكوس، الذى تم تحويله منذ سنوات إلى مركز ثقافى يتبع صندوق التنمية الثقافية. لكن هذه المعادلة بدأت تتغير مؤخرًا، بفضل مبادرة أطلقتها قوى من المجتمع المدنى يقودها الأستاذ مينا زكى، الباحث والناشط فى مجال التراث السكندرى، وصاحب مبادرة «سيرة الإسكندرية – الجولة»، التى تسعى إلى إحياء الأماكن المنسية واستعادتها من طيّات النسيان إلى الذاكرة الجماعية. بالتعاون مع الحاج على شتيوى، كبير العائلة التى تملك الأرض التى كان يقع عليها منزل سيد درويش، حيث تم توقيع عقد اتفاق لتحويل الموقع إلى متحف فنى يحمل اسم درويش، ويضم مقتنياته وصوره ومجموعة من الوثائق والمواد السمعية والبصرية التى تحكى سيرته الفنية والوطنية. وقد دعيت لحضور هذه المناسبة بشكل شخصى مع لفيف من المهتمين بالتراث والتاريخ السكندرى. اللافت أن المشروع سوف يتم تنفيذه بجهود ذاتية خالصة، بعيدًا عن التمويل الحكومى أو المؤسسات الرسمية، ما يجعله نموذجًا ملهمًا فى العمل المجتمعى والثقافى. مبادرة «سيرة الإسكندرية» هى تطور لمشروع «الجولة»، الذى أطلقه الباحث والناشط مينا زكى قبل سبع سنوات، فى محاولة لإعادة سكان المدينة، خصوصًا الأجيال الشابة، إلى ذاكرة مدينتهم وتاريخها الثقافى والمعمارى. بدأت الفكرة كمجهود فردى عقب تخرُّجه فى جامعة الإسكندرية، وسرعان ما تحولت إلى نشاط متّسع النطاق، نظّم خلاله أكثر من 100 جولة داخل الإسكندرية، إلى جانب رحلات توثيقية لمدن أخرى مثل الإسماعيلية وبورسعيد وكفر الشيخ وطنطا. تسعى «سيرة الإسكندرية» إلى استعادة ملامح المدينة المنسية وإبراز ثرائها التراثى، من خلال فعاليات ثقافية وجولات معرفية إلى معالم بارزة مثل المتحف القومى، ومتحف المجوهرات الملكية، ومقابر كوم الشقافة. ويؤمن مينا زكى بأن هذه المبادرات تتجاوز مجرد توثيق الأماكن، ويقول: «المكان مش بس متحف... ده رسالة حية بتقول إن الشعب ما بينساش مبدعيه». الخطوة التالية التى أضفت على مشروع متحف سيد درويش» طابعًا احترافيًا كانت انضمام المهندس المعمارى الشاب كريم الشابورى متطوعًا، وهو المعروف بخبرته فى تصميم المتاحف والمراكز الثقافية. سبق للشابورى أن صمّم متحف نجيب محفوظ فى القاهرة، إضافة إلى مشاريع مشابهة داخل مصر وخارجها. وقد أعد الشابورى تصورًا هندسيًا متكاملًا لمتحف سيد درويش، يراعى الطابع السكندرى للحى، ويجمع بين الجمال المعمارى والوظيفة الثقافية، ليكون المتحف فى النهاية شاهدًا حضاريًا يليق برجل صنع وجدان أمة. الحديث عن تحويل منزل سيد درويش إلى متحف، يتجاوز كونه فعلًا رمزيًا، إنه فى جوهره مقاومة للنسيان. ففى بلدٍ يعج بالكنوز الثقافية، يتراجع كثير من هذه الكنوز تحت وطأة الإهمال أو الصمت الرسمى، وهنا تأتى أهمية مثل هذه المبادرات التى تُعيد الاعتبار لرموزنا التاريخية، وتؤسس لمساحة يلتقى فيها الماضى بالحاضر، ويتواصل فيها الجيل الجديد مع من صنعوا تاريخه. التحوّل من النية إلى التوقيع الرسمى، ومن التصور إلى التصميم، هو وحده إنجاز فى ظل التحديات المتعددة، المالية والإدارية والبيروقراطية، لكن أصحاب المشروع يؤمنون أن الإرادة الشعبية قادرة على تذليل الصعاب، وأن النجاح الأول كفيل بجذب تشجيع واسع من محبى سيد درويش داخل مصر وخارجها. وبرغم صعوبة ما هو قادم لإتمام المشروع، فإن هذه الخطوة تمثل بداية لمسار جديد يعيد للفن مكانته، وللمبدعين حقوقهم الرمزية والمعنوية. تحويل منزل سيد درويش إلى متحف ليس مجرد وفاء لموسيقار عظيم، بل وفاء لروح الفن الذى قاوم، ولثقافة لم ترضَ بالسكوت. هو وفاء لذاكرة مصر... حين كانت تغنى للحرية وتقاتل من أجل الحياة. وربما، بعد هذه الخطوة، لا يبقى فقط أن نحتفل بها، بل أن نسير على دربها، فتراثنا لا يحتاج فقط إلى الحنين، بل إلى من يؤمن به، ويحوله إلى ضوء فى آخر النفق.