ما الذي يمنعنا من تحويل بيوت الفنانين والمبدعين أو تلك الأماكن التي تناولوها في أعمالهم الأدبية والفنية الشهيرة، إلي مزارات سياحية؟ لماذا تغيب السياحة الأدبية عن مصر؟ ما مصير بيت أم كلثوم وطه حسين وعباس العقاد وغيرهم؟ أسئلة عديدة طرحها الروائي يوسف القعيد في حديثه لأحد برامج قناة "الجزيرة" منذ أيام قليلة، فآثرنا أن نطرحها من بعده علي عدد من المثقفين ومسئولي الآثار بمصر. القعيد تساءل في البرنامج حول وضع المناطق التي تناولها الروائي السوداني الطيب صالح في أعماله، أو تلك تناولها العراقي جبرا إبراهيم جبرا، والجزائري الطاهر وطار، والتونسي محمود المصري، وغيرهم، وقال: لا أعرف بالضبط ما الذي يعوق تحقيق مشروع مثل هذا في مصر، ففي الوقت الذي تدر فيه قرية "سترادفورد" التي ولد بها شكسبير دخلا سياحيا كبيرا، تجري مفاوضات لهدم منزل عباس محمود العقاد بمصر الجديدة، كما تم هدم بيت أم كلثوم وإقامة عمارة قبيحة مكانه. وفي اتصال هاتفي معه قال القعيد: هناك مشروع مقدم لمحافظ القاهرة تحت عنوان "المزارات المحفوظية"، يحدد الأماكن التي كتب عنها نجيب محفوظ، والتي من الممكن أن تتحول لمزارات سياحية، كقصر الشوق والسكرية وبين القصرين ومقهي "قشتمر" الذي تحمل رواية اسمه، ومازال المقهي موجودا بنفس الاسم حتي الآن، وترجع أهميتهم إلي أن صاحبه هو الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان يجلس عليها عدد كبير من الأدباء والفنانين، لكننا لا نعرف مصير هذا المشروع حتي الآن"؟ وعلّق الكاتب صلاح عيسي قائلا: مشاريع تحويل بيوت الفنانين والأدباء إلي متاحف ومزارات سياحية موجود بالفعل، كمتحف رامتان الثقافي لطه حسين، وكرمة ابن هانئ الذي تحول إلي متحف أحمد شوقي، وبيت الأمة الخاص بسعد زغلول، الذي استطاعت الدولة أن تحافظ علي جميع متعلقاته كما هي بنفس ترتيبها، بالإضافة إلي أن حديقة الفيلا تحولت إلي مركز ثقافي ومكتبة تضم جميع مؤلفاته. وعاد عيسي ليقول: لكن ما يعوق هذا المشروع أن بعض الأدباء لا يمتلكون أو يعيشون في بيوت مستقلة؛ حيث يسكنون في منازل بداخل عمارات، كالأديب الكبير نجيب محفوظ، الذي كان يسكن في شقة عادية مازالت أسرته تعيش فيها حتي الآن، وأضاف: كما يوجد إشكالية قبول ورثة الأديب أو الفنان التبرع ببيته للدولة، أو الموافقة علي الثمن الذي تحدده الدولة لاقتنائه، ففي حالات كثيرة يتلقي الورثة عروضًا من أغنياء لا تستطيع الدولة أن تقدمها لهم، كما حدث في فيلا يوسف وهبي التي تحولت إلي فندق، وفيلا أم كلثوم التي تحولت إلي برج، وإن كانت الدولة قد أخذت حاليا جزءًا من مقتنيات أم كلثوم، وحولتها إلي متحف في حديقة قصر المانسترلي، يضم مكتبة فضية وورقية تشمل كل ما كتب عنها حتي وفاتها، والأفلام التي شاركت بها، وبعض أوراق وعقود الغناء، وفساتينها التي كانت تغني بها. وأوضح الروائي إبراهيم أصلان: نحن بشكل عام لا يوجد لدينا وعي بأهمية هذه المسألة، وعلينا في كل مرة أن نجاهد في سبيل الإبقاء علي آثار كبار فنانينا ومفكرينا حتي يتحقق شيء من هذا، ولدينا كوارث في هذا الشأن ربما كان علي رأسها بيت أم كلثوم، وهذا خطأ بالغ البشاعة ولا يمكن نسيانه، وأضاف صاحب "مالك الحزين": الحفاظ علي هذه الأماكن يتضمن إحياء قيم كفيلة بأن تغني هذا المجتمع، وأن تكون مثالاً للشباب ومزارات لعشاق كثيرين للمبدعين، فالمشكلات التي أحاطت ببيت كفافي في الإسكندرية، وبيت سيد درويش، وكثيرين آخرين، ربما المقارنة تكون مجدية في مثل هذه الحالة إذ سافرنا للخارج، وإلي فرنسا تحديدا، سنجد أعلي بعض أبواب حجرات الفنادق شريحة نحاسية تخبرنا أنه أقام بها فنان أو شاعر في يوم من الأيام. كما أننا نجد بعض هذه الشرائح علي أرائك ومقاعد بعض مقاهي باريس، ويظل المكان حريصا علي تسجيل هذا الشيء باعتباره ليس فقط إحياء لذكري قامة كبيرة، ولكن لخلق ذاكرة مشتركة بين الأمكنة وزوار المدينة، وحينما تسير في شوارع فرنسا تجد علي جدار فندق من الفنادق أن "فلان" انتحر من فوقه، وكثيرة هي الأسماء التي يحرصون علي بقائها رغم أننا كعابرين لا نعرف عنها شيئا. ويؤكد أصلان: هذه قدرة باريس علي عمل علاقة قوية ما بينها وبين جمهرة الناس، سواء كانوا مواطنين أو زائرين، ونحن لدينا علامات ضخمة جدا لو كانت موجودة في أي مدينة متحضرة أو تمتلك مثل هذا الوعي والإحساس بالمسئولية تجاه تراثها الفني والأدبي لكان صادفنا كما يصادفنا في الخارج، تماثيل الأدباء والفنانين متناثرة في الميادين، وهنا أقول إنه كان من الضروري أن يشاركنا رجل مثل القصبجي أو زكريا أحمد أو عشرات غيرهم بتماثيلهم في حياتنا العامة، بينما نحن نجد تمثالا لعبد الوهاب وآخر لأم كلثوم موضوعًا في الأوبرا، فلا يتسني لأحد مشاهدتهما إلا رواد الأوبرا، وخسارة الوطن بسبب هذا التقصير خسارة ضخمة جدا، لأننا نبدو كأننا لسنا بلدا حظي بقامات ضخمة من المبدعين، الذين كان لهم ومازال تأثيرهم في المحيط الذي تواجدوا فيه. وأكد الناقد والفنان التشكيلي عز الدين نجيب بدوره أنه لاشك أن بيوت الفنانين التشكيليين والأدباء والشعراء والموسيقيين من أكثر مواقع الجذب السياحي في العالم المتقدم، وهي توضع علي قوائم المزارات في السياحة الثقافية في كل مكان، إلا في مصر!! التي رأي أنها لا ترعي أي أثر لهؤلاء الراحلين، باستثناءات قليلة يكون وراءها جهود لمتطوعين مؤمنين بصفة شخصية بأهمية هذه المعالم الثقافية، سواء كانوا من أسر الفنان أو من أصدقائه ومحبيه، والأمثلة موجودة عندنا مثل متحف زكريا الخناني، ومتحف عفت ناجي وسعد الخادم بالزيتون، ومتحف حسن حشمت وغيرهم. ويوضح نجيب: ربما كان لي مع الفنان عصمت داوستاشي دور مهم لإنجاز مشروع متحف عفت ناجي وسعد الخادم، وحاولت أيضا إقامة متحف لأعمال الفنانة إنجي أفلاطون، وقمت بإقناع أسرتها بإهداء جميع أعمالها التي تصل إلي ألف لوحة بين ألوان زيتية ومائية ورسوم تحضيرية للدولة، في مقابل أن تتكفل الدولة ببناء متحف لأعمالها في منطقة الفسطاط، ولم يتم تنفيذ هذا المشروع علي الرغم من مضي أكثر من عشرين عاما علي وفاتها، بل قامت الدولة بعزل بعض أعمالها في مجمع الفنون في مدينة 15 مايو علي سبيل الرمز". وتابع: كتبت مرارا مطالبا بإقامة متحف للفنان عبد الغني أبو العنين في بيته الذي بناه له شيخ المعماريين حسن فتحي علي طريق المريوطية، وقدمت زوجته الراحلة الفنانة رعاية النمر عرضا إلي وزير الثقافة بإهداء البيت واللوحات والمقتنيات النفيسة من الفنون الحرفية للدولة، لكن وزارة الثقافة لم تكترث بالهدية التي قدمت إليها، ولم ترد بكلمة قبول أو رفض علي طلب زوجة الفنان، باستثناء قيام مكتبة الإسكندرية باستضافة مجموعة محدودة من لوحاته في جناح خاص بالفنان قبل وفاة السيدة رعاية النمر بقليل، بناء علي مناشدة منها للسيدة سوزان مبارك، باستثناء ذلك لا نعرف مصير تراث عبد الغني أبو العنين الذي يتجاوز آلاف القطع. تابع نجيب: إدراج تلك البيوت علي خريطة السياحة يعد حفاظا علي تراث رموز الإبداع من الاندثار، وتعتبر مدارس لتعليم قيم الفن لأبناء المناطق المحيطة بها، وللدارسين من كليات الفنون في مجالات التخصص المختلفة، أو هكذا ينبغي أن تكون". ونوه نجيب: قمنا في عام 1990 بتجربة جميلة في أعقاب الحملة الغريبة لبيع تراث مصر من لوحات الفن العالمي في مزاد علني، وهي إنشاء "الجمعية المصرية لأصدقاء المتاحف"؛ وكان من أهدافها حصر المعالم الثقافية لرموز الإبداع في مصر، كالبيوت التي عاش فيها مشاهير الفنانين والأدباء والمفكرين، سواء كانت مملوكة لهم أو مؤجرة، والدعوة إلي ترميمها والحفاظ عليها وفتحها للزيارة، أو علي الأقل وضع علامات تدل عليها مصحوبة بلوحة لتاريخ الفنان أو الأديب أو رجل الفكر الذي كان يعيش فيها يوما من الأيام، وهي فكرة تهدف إلي بناء ذاكرة للوطن، تلهم الأجيال المتتالية بمعاني الوطنية وحب الجمال. وتم بالفعل من خلال نشاط الجمعية في سنواتها الأولي وضع الكثير من المشروعات لتحقيق هذا الهدف، لكن توقف كل شيء لغياب الإيمان بدور الجمعية ورسالتها من قبل المسئولين علي مختلف أنواعهم. من ناحية أخري، قال الدكتور مختار الكسباني أستاذ الآثار الإسلامية ومستشار المجلس الأعلي للآثار: إن مبادرة تحويل بيوت المبدعين إلي متاحف ومزارات سياحية يتم بالاتفاق بين أسرة الأديب أو الفنان ووزارة الثقافة، وبإشراف قطاع الفنون التشكيلية، وقال: إذا احتاج القطاع إلي خبرة من ناحية التنسيق أو الإعداد المتحفي يمكن أن يقوم المجلس الأعلي للآثار بتقديمها لهم، وذلك كمتحف جمال عبد الناصر الذي يخضع للإدارة المركزية للمتاحف والمعارض بقطاع الفنون التشكيلية، فهذه المتاحف ليست مسجلة أثريا، لكنها مسجلة في إطار المباني التاريخية التي يجب الحفاظ عليها؛ وذلك لأنها لم يمر عليها مائة عام كي تسجل بهيئة الآثار، وبعد أن يمر عليها هذه المدة يمكن أن تسجل في هيئة الآثار. وأكد الكسباني أن بيوت المبدعين وأماكنهم غير مدرجة علي علي خريطة السياحة، وإن كانت زيارتها تخضع لرغبة الأفواج السياحية لزيارة أماكن أعلام البلد، وفي هذه الحالة يدرج المكان في البرنامج السياحي، وهذا هو ما يحدث في ألمانيا عندما يقوم السائحون بزيارة بيت بيتهوفن. وطالب الكسباني قطاع الفنون التشكيلية، بالاهتمام بهذا الجانب وأن تضع في اعتبارها الاهتمام ببيوت رموز المجتمع، خاصة أن هذه الأماكن ليست تابعة لمتاحف الآثار، كبيت سعد زغلول، وهو مبني تاريخي، به مقتنياته الشخصية وكل أدواته ومتعلقاته، فهذا مكان حياتي.