تتعرض المنطقة لتغيرات تُزلزل ثوابت سياسية استمرت لسنوات وعقود.. أما الثابت - فى كل تلك التغيرات - فهو القتل والقهر المُستمران فى غزة المنكوبة. ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي القتل والفتك والإرهاب والتوحش في عدوانه الأعمى على قطاع غزة، والذى لم ينقطع يوما منذ أن بدأ بوتيرته الفاحشة فى 7 أكتوبر 2023 حتى فى أيام الهدنة فى نوفمبر 2023 وفى هدنة يناير- مارس 2025، لم يتوقف القتل، ومن الجلى- حتى للإسرائيليين أنفسهم- أن جيش الاحتلال لا يقتل إلا المدنيين هذه المرة.. ففى جولة الحرب السابقة - قبل هدنة يناير- كانت تحدث بين وقت وآخر اشتباكات على الأرض بين مقاتلى حماس وعناصر الجيش الإسرائيلي، فيكبد بعضهما البعض أحيانا خسائر، لكن هذه المرة فإن الفتك يطال المدنيين بشكل أساسي. والتوغل البرى لجيش الاحتلال هذه المرة محسوب بشكل يقلص من فرص الاشتباك على الأرض مع عناصر المقاومة، بحيث يحاصر الفتك فقط العزل الذين لا حول لهم ولا قوة. ولا تبطئ إسرائيل أبدا وتيرة إبادتها للفلسطينيين، فمن لا يفوز منهم بالشهادة وينجو إلى السماء، فالجحيم موعده على الأرض.. إما إصابة وإما فقدا وإما خوفا وإما قهرا، وربما ذلك ما يرغب به رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذى يريد تنفيذ القتل النفسى والاجتماعى للفلسطينيين، فيقضى على ماضيهم «ذكرياتهم» ويشوه حاضرهم «عبر آلام الفقد والإصابة والقهر» ويهدد مستقبلهم «عبر بث الخوف والرعب من القادم». فالكل عدو لنتنياهو، ليس حماس فقط، بل كل عربى وكل مسلم تعتبره قوى اليمين المتطرف هناك عدوا لابد من القضاء عليه، ولا يقتصر القصف الوحشى على خيام ومنازل تأوى الأطفال، بل يتم استهداف مقار الرحمة، وهى المستشفيات، حتى يتم القضاء على شريان الحياة لدى الفلسطينيين العزل، ولم يكن استهداف مستشفى المعمدانى إلا أحدث صور هذه الوحشية.. إذ يقضى على آمالهم حتى فى الشفاء أو التعافى أو حتى تسكين الآلام. ◄ الأهداف والنتائج رُبما تُقدم حرب غزة دروسًا واستنتاجات مُهمة حتى من قبل أن تنتهى، ومن بين ما تقدمه من دروس هو أن السياسات قد يكون لها أهداف مرجوة لكنها تختلف عن النتائج المُتحققة والمُترتبة بالفعل، أما الطرف الفائز فهو الذى تتطابق عنده الأهداف بالنتائج، وأما فى الوضع الآخر، مع فشل تحقق الأهداف، تقاس استفادة كل طرف من النتائج المتحققة واقعياً، وبدون الخوض فى عملية «طوفان الأقصى» التى خططت لها حماس، حيث غالبا ما يتم مناقشتها بين المجتمعات هنا فى إطار من الاحتقان والتشنج، إلا أن الأكيد أن الحركة لم تكن تتخيل أن يحدث هذا الانقسام الداخلى بين إسرائيل، وهذا الانفجار الداخلى الشامل الذى يتزايد يومًا بعد يوم، هذا الانفجار الداخلى سببه المباشر سياسات نتنياهو، التى تجاهلت الأسرى الإسرائيليين طوال ما يقرب من 18 شهرا، بينما بالتأكيد لم يكن فى تخطيط حماس أن تستمر المعركة حتى الآن. ومن كل ما سبق، فإن نتنياهو ماض فى حرب إبادته ضد القطاع من ناحية، ومن ناحية أخرى إدارة غضب أهالى الأسرى فى إسرائيل عبر التلويح بقرب حدوث صفقة بين وقت وآخر، هذا الكارت - المتعلق بصفقة لإعادة الأسرى- يتم استخدامه بشكل دقيق من نتنياهو بما يضمن له عدم إغضاب اليمين فى حكومته. فاليمين لا حاجة له فى إتمام صفقة أو إعادة الأسرى، لكن حاجته الأساسية هى فى استمرار الحرب وإتمام التهجير، لكن اليمين ذلك، ليس كل إسرائيل، ففى الأيام الأخيرة تزايد عدد الموقعين عن رسائل جنود الاحتياط التى ترفض استمرار الحرب فى غزة، ليس من باب الشفقة أو الرحمة بأهلها العزل أو اعتراضا على خسائر بشرية بين صفوف الجيش، ولكن رفضا لمسار يعرقل إتمام صفقة تعيد أسراهم لدى حماس، وهو ما يعنى أن هؤلاء أنفسهم غير معترضين على الحرب فى ذاتها، لكن الحرب وفقًا لهم مسار اختاره نتنياهو لإطالة أمد بقائه فى السلطة، وهذه الرسائل علق نتنياهو عليها بالتنديد والاستهجان والاتهام بالعمالة للخارج! ومع ذلك، فإن الحديث أو عدمه عن صفقة مرتبط بأمر آخر بشكل خاص، وهو الضغوط الأمريكية. ◄ ضغوط أمريكية ◄ والسؤال الآن هو.. لماذا توجد ضغوط أمريكية بشكل مُتقطع لإتمام صفقة وعودة الأسرى؟ بداية، أثبت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وإدارته أن لا رؤية سياسية لديهم لمستقبل غزة، وأن رفضهم الطرح العربى لم يولد لديهم بديلًا آخر، فترامب يرغب فى رؤية الفلسطينيين خارج القطاع لكنه لا يعرف إلى ذلك سبيلًا، كما أن توتر علاقته مع إسرائيل بين وقت وآخر يحدد ويملى بشكل كبير خطابه السياسى المهادن أو الرافض للحرب فى غزة، لكن هذه المرة يبدو الموضوع مختلفا بشكل ما، فترامب فى حاجة إلى عمل أى إنجاز سياسى ينتشله من قاع الارتباك الذى يعانى منه على الصعيد العالمى الآن جراء الحرب التجارية التى أشعلها. ترامب، الذى وعد بإنهاء الحرب فوجئ بمدى تعقد الوضع فى حرب أوكرانيا، وأن الحل ليس سهلًا كما بدا له من قبل ودفعه للوعد بإنهاء الحرب فى 24ساعة، كما أن الوضع فى الشرق الأوسط أيضًا بالغ التعقيد، وأن تأييد رغبات إسرائيل قد يأتى بتكلفة سياسية كبيرة لأمريكا تتعلق بعلاقاتها الثمينة مع دول المنطقة، كما أن حربه التجارية وهى بمثابة رأس الحربة فى برنامجه الانتخابى فشلت فشلًا ذريعًا حتى الآن، إذا كان ترامب يتخذ من التعريفات أداة للضغط على الدول، ومن ثم فهى سياسة بطبيعتها مؤقتة، إلا أن الصين فاجأته بالردود الانتقامية، ودخل الجانبان فى سباق لبناء الحصون التجارية المانعة بما ألحق خسائر ضخمة للاقتصاد الأمريكى ودفع الأفق لمزيد من الغموض والقتامة، ومن ثم فترامب الذى سيتم آخر أبريل الحالى المائة يوم الأولى من إدارته، وهى عتبة زمنية سياسية هامة لأى رئيس، فى أمس الحاجة لتحقيق أى إنجاز يرتكز عليه، حتى وإن كلفه ذلك من قناعاته السياسية وتحيزاته الشخصية. ◄ محادثات استثنائية يُمكن النظر للمحادثات غير المباشرة التى أجريت بين الولاياتالمتحدةوإيران السبت الماضى فى سلطنة عمان، هذه المحادثات لم يخالف بها ترامب فقط رغبة إسرائيل، بل هى من الناحية الفعلية تصب فى صالح إيران على المدى الطويل من أكثر من جهة، فأولًا هذه المحادثات لا تنهى النشاط النووى فى إيران بل تحيد الخطر النووى طوال عهد الإدارة الأمريكية الحالية، أى أن ترامب يؤمن إدارته من انتكاسة سياسية تتعلق باحتمال إعلان إيران عن توصلها لسلاح نووى. ومن ثم فهو يشترى وقت إدارته ويحيد «الخطر الإيراني» عنه، وثانيًا هذه المحادثات تقوى النظام السياسى فى طهران وتزيد من شعبيته، فهذا النظام المعادى لأمريكا وإسرائيل قد خضع له ترامب أخيرا، وبعد أن كان انسحب من الاتفاق النووى الإيرانى عام 2018 لصالح تشديد العقوبات وسياسة الضغوط القصوى، عاد ليتحدث ويتفاوض معه. بل وعارض ترامب إسرائيل فى خطوته ذلك، إذن فترامب فى حاجة أكيدة لأى إنجاز سياسى يستر به عورات اقتصاده الذى يعانى جراء سياسة ترامب نفسه على الصعيد التجارى العالمي. ◄ نظام عالمي جديد ويدفع ترامب أيضًا للبحث عن أى إنجاز سياسى يضعه فى مركز وبؤرة الأضواء -الإيجابية- عالميا، ما أحدثته سياساته التجارية على الصعيد العالمى، ففيما يتعلق بمُقاربته فى الملف الأوكرانى، بدا أنه يتخلى تمامًا عن الحلفاء الأوروبيين ويتركهم وحدهم فى مواجهة احتمالات انتقام موسكو، بل ويُهدد صراحة أنه لن يأبه إذا ما هاجمت روسيا أراضى أى دولة من حلفاء الناتو ممن لا يدفع نصيبه من أموال المُنظمة، وإلى جانب البعد الأمنى، استهدف ترامب اقتصاداتهم بتهديدات التعريفات ثم استهدف قادتهم ونخبهم عبر هجمات حادة عبر نائبه جى دى فانس فى عدة مناسبات، وتوترت العلاقات على جانبى الأطلنطى للحد الذى ينذر بحدوث شرخ قوامه انهيار الثقة، وتمتد تداعياته وتأثيراته إلى ما بعد إدارة ترامب. ومن البديهى، أن تتم ملاحظة معارضة أوروبية تخرج القارة عن فلك أمريكا على المستوى السياسى والاقتصادي، وقد يمتد ذلك للمستوى الأمنى أيضًا، وما يعنيه كل ذلك بالنسبة لقضايا المنطقة هو انفصال تدريجى فى مواقف الغرب عن بعضه البعض. فلم يعد الأوروبيون حريصين فى سياساتهم تجاه المنطقة على الدوران فى فلك الحليف الأمريكي، وبعد زيارة هامة للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لمصر، أعلنت فرنسا أنها تبحث الاعتراف بفلسطين فى شهر يونيو القادم، وهذا على سبيل المثال. وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال الفتك فى غزة مُستمرا، ولا يزال استهداف أى مظهر من مظاهر الحياة مستمرا من قبل الاحتلال ولا يزال تآمر اليمين الإسرائيلي مستمرا بحق الضعاف العزل، وفى المُقابل لا يزال الإيمان والصبر يملأ القلوب فى غزة، ولا تزال الصور المنقولة من القطاع تظهر حجم الفجاعة التى تصاحب دومًا من قبل الأسئلة بكلمات «حسبنا الله ونعم الوكيل».