لم «يقصر» الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب طوال حملته الانتخابية فى الإعراب عن دعمه المطلق لإسرائيل. حتى أن تحليلات عديدة كانت تقدر بأن نتنياهو يطيل فى حربه ولا يخضع للضغوط الدولية لإنهائها، انتظارا لقدوم ترامب «المخلص»، لكن العكس هو ما يبدو أنه حدث، فعندما التقى الرجلان فى فلوريدا فى يوليو، طلب ترامب من نتنياهو إنهاء الحرب قبل مغادرة بايدن منصبه. ◄ نتنياهو يسعى لإعادة ترتيب شاملة للشرق الأوسط بدعم ترامب ◄ القوى الدولية بدأت تظهر صبراً أقل تجاه تل أبيب وفى المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية المحتدمة التى خاضها ترامب أمام منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، بدا أن ثمة تصويتا عقابيا ينتظر الإدارة الديمقراطية عن دعمها الأكيد لإسرائيل، حتى مع كل الانتقادات العلنية التى كالتها لحكومة بنيامين نتنياهو. وفى مسعاه لتأكيد هذا النهج العقابى، أكد ترامب للناخبين المسلمين والعرب أنه ينوى إنهاء هذه الحرب. ◄ صدمة وتوتر تلك التصريحات تلقاها نتنياهو وفريقه اليمينى بصدمة وتوتر، إذ إن ترامب لم يعد فقط بإنهاء الحرب، بل وعد أيضا فى خطاب الانتصار مساء يوم الانتخاب بأن الجيش الأمريكى تحت قيادته لن يدخل حربا، وهذا النهج غير مشجع لنتنياهو وفريقه الذى كان يأمل فى أن يبدأ بحروبه وعدوانه فى المنطقة مرحلة يعمل فيها على تغيير المشهد السياسى الإقليمى بدعم أكيد من الولاياتالمتحدة، فعندما يرى نتنياهو فى الرئيس الأمريكى قناعة ورغبة أكيدة فى عدم الدخول فى حروب لابد وأنه سيراجع نفسه أمام هذه الأفكار. صدمة أخرى تلقاها نتنياهو من ترامب قبل أيام قليلة عندما قال السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام، فى مقابلة مع موقع «أكسيوس»، إن الرئيس الأمريكى المنتخب «يريد إنهاء الحرب فى غزة وعقد صفقة لتبادل أسرى، قبل دخوله إلى البيت الأبيض لتولى منصبه فى 20 يناير المقبل» وهو ما يدفع نتنياهو إلى «خانة اليك»، أما إذا ما قبل نتنياهو وحكومته بذلك فستتعرض حكومته للانهيار جراء انسحاب اليمين المتطرف منها، أما إذا لم يقبل نتنياهو بهذا المطلب من ترامب، فإن ذلك يعنى فترة متوترة من علاقات الرجلين، ولا يستبعد فيها أن يخرج ترامب عن الإملاءات التقليدية للمؤسسات الأمريكى واللوبى اليهودى ليفاجأ العالم بسلوك عدائى علنى غير معتاد من الرؤساء الأمريكيين، والشعور ذاته يسود فى تل أبيب، إذ يعتقد المسئولون الإسرائيليون أن إدارة ترامب قد تتبنى نهجاً مختلفاً تجاه غزة، وتحديداً فى ما يعرف ب «اليوم التالى» للحرب. ووفقًا لتحليل نشرته مجلة «فورين أفيرز»، فإن نتنياهو يسعى لإعادة ترتيب شاملة للشرق الأوسط ويعول بشدة على ترامب فى دعمه لتحقيق ذلك، لا سيما وأن الإسرائيليين يرون أن ترامب داعم قوى لإسرائيل وأقل اهتمامًا بالمعايير والمؤسسات الدولية مقارنةً بسلفه الديمقراطى، علاوة على ذلك، أعلن الرئيس المنتخب عن خطط لاستئناف حملته للضغط الأقصى على إيران وإعطاء الأولوية لتوسيع اتفاقيات أبراهام فى المنطقة، وتوقع الكثيرون أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستدعم إسرائيل دون قيود. كما أن اختيار ترامب لشخصيات مؤيدة لإسرائيل فى فريقه يعزز هذه الفكرة. ◄ رهانات خاسرة هذه الافتراضات بحسب التحليل تبدو مبالغا فيها وخطيرة، فالنصر التكتيكى فى ساحة المعركة، دون ترتيبات سياسية أو دبلوماسية، لا يمكن أن يحقق الأمن الدائم، وقد تجد إسرائيل نفسها عالقة فى حروب متعددة ومضطرة لتحمل مسئولية رعاية عدد كبير من المدنيين فى غزةولبنان، كما أن ترامب نفسه شخصية غير متوقعة، وقد تجد إسرائيل نفسها معزولة عالميًا بعد أن تراهن على دعمه، ومن ثم، ففى سعيه لتحقيق نصر دائم، قد يكتشف نتنياهو أنه جعل الوضع الإسرائيلى أكثر هشاشة. نتنياهو نفسه يواجه ضغوطًا من ائتلافه الذى يعتمد عليه للبقاء فى منصبه، ومن أبرز هؤلاء الأصوات وزير المالية بتسئيل سموتريتش ووزير الأمن الداخلى إيتمار بن غفير، وهما أيديولوجيان يمينيان يطالبان بأن تواصل إسرائيل العمليات العسكرية حتى القضاء على جميع أعدائها. وفى غضون أسبوع من الانتخابات الأمريكية، أعلن سموتريتش أن عودة ترامب تعنى أن «2025 سيكون، عام السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة» وهى تسمية للضفة الغربية هذا الإصرار المتشدد، الذى يتماشى مع غريزة نتنياهو السياسية للبقاء، أصبح عقبة مستمرة أمام أعضاء المؤسسة الأمنية الذين يفضلون أن تختتم قوات الدفاع الإسرائيلية عملياتها الهجومية. وفي ظل ضعف المعارضة فى الكنيست، تمكن نتنياهو من مواصلة الحرب دون مواجهة تحديات كبيرة، وبالنسبة لرئيس الوزراء، تخدم العمليات العسكرية المطولة هدفين مزدوجين هما إصلاح الردع الإسرائيلى المتهالك وصرف الانتباه عن أدائه السيئ فى 7 أكتوبر وبعده، حتى احتجاجات عائلات الأسرى الإسرائيليين فى غزة لم تشكل عائقًا كبيرًا، لعدة أشهر، كانت هذه العائلات بدعم قوى من بايدن تدعو إلى صفقة تبادل أسرى، وتحظى بتأييد شعبى كبير، لكن نتنياهو تمكن من الاعتماد على جناحه اليمينى، إلى جانب معارضة شروط حماس لإطلاق الأسرى، للتغلب على هذه الجيوب من المقاومة. ومع ظهور ترامب، يُفترض أن الولاياتالمتحدة ستقلل، بدلاً من زيادة، الضغط على إسرائيل لإنهاء حملاتها العسكرية. ◄ حسابات خاطئة نتنياهو وحلفاؤه يقللون من شأن المشكلات العديدة التى تقوض هذه الطموحات الكبيرة، أولاً، إيران وحلفاؤها لن يختفوا، إذ أظهرت المواجهات فى غزةولبنان أن حماس وحزب الله وكذلك الحوثيون فى اليمن لديهم مخزون من الأسلحة ويظلون قادرين على قصف إسرائيل يوميًا بمئات الصواريخ والصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار التى تقتل الإسرائيليين وتدمر ممتلكاتهم، وحتى إذا فشلت هذه الجماعات فى التغلب على الدفاعات الجوية الإسرائيلية، فإنها نجحت فى إثارة الفوضى العامة، مما يدفع الإسرائيليين باستمرار إلى الملاجئ ويعطل تدفق حياتهم اليومية. وبنفس الأهمية، فإن أى خطط إسرائيلية ضخمة للمنطقة لن تتحقق دون مساعدة كبيرة من واشنطن، فى وقت سيفر فيه ترامب من الحروب والالتزامات العسكرية الأمريكية فى الخارج، حتى لو لم يسحب ترامب الموارد التى خصصها بايدن لإسرائيل، فإن ميوله الانعزالية قد تنذر بتقليل الدعم فى المستقبل، مما يحد من حرية المناورة لدى الجيش الإسرائيلى. ثانيًا، إلى جانب ذلك، هناك الوضع الداخلى المعقد لإسرائيل، الذى قد يعتقد نتنياهو أنه أكثر ملاءمة له مما هو فى الواقع. بعد أكثر من عام من الحرب المستمرة، يشعر الجمهور الإسرائيلى بالإرهاق، حيث ما زال أكثر من 100 رهينة محتجزين فى غزة، وعشرات الآلاف من الأشخاص ما زالوا نازحين عن منازلهم، وقضى جنود الاحتياط فى الجيش الإسرائيلى مئات الأيام بالزى العسكرى بعيدًا عن عائلاتهم وأعمالهم، الغضب تجاه أولئك الذين يتجنبون هذه المسئولية، وخاصة الحريديم، الذين يمثلهم أعضاء فى الكنيست وهم جزء رئيسى من ائتلاف نتنياهو، أصبح ملموسًا. وبالنسبة للعديد من الجنود فى الخدمة الفعلية، يتضاءل الحماس لتنفيذ أوامر الحكومة. أما على المستوى السياسى، فإن مبادرات ترامب لا تتوقف عن إثارة دهشة الإسرائيليين، فمثلا «السلام من أجل الازدهار» خطة ترامب القصيرة الأجل للسلام الإسرائيلى الفلسطينى فى 2020 كانت تتضمن فى نهاية المطاف إنشاء دولة فلسطينية، وقد تعرضت لانتقادات من قادة المستوطنات بأنها «تعرِّض وجود دولة إسرائيل للخطر». يمكن أن تكون مواقف ترامب العامة تجاه السياسة الخارجية بنفس القدر من الإشكالية بالنسبة لإسرائيل، فبعد أن قال للصحفيين فى سبتمبر إنه «علينا التوصل إلى اتفاق مع طهران»، واصل التعليق فى الشهر التالى بأنه سيعمل على «وقف المعاناة والدمار فى لبنان». وبحسب تحليل «فورين أفيرز»، فإنه بالرغم من الانتصارات التى حققتها إسرائيل فى ساحات المعارك، تواجه خطرًا حقيقيًا، ويعتمد نجاحها فى إنهاء الصراعات الحالية إلى حد كبير على كيفية إدارة بنيامين نتنياهو للعلاقات مع الرئيس الأمريكى القادم، دون التزامات تتعلق بإعادة الانتخاب، قد يكون ترامب أكثر ميلاً للتصرف وفقًا لنزعته التبادلية البحتة، وسيحتاج نتنياهو إلى مهارة كبيرة لتجنب أى ضغائن قد يحملها ترامب وتحقيق توافق بين أهدافهما، ومن المفارقات أن العقبة الأكثر صعوبة أمام نتنياهو قد تكون الأحزاب اليمينية التى تدعمه حاليًا. ◄ اقرأ أيضًا | ترامب يختار السيناتور السابق ديفيد بيرديو لمنصب سفير الولاياتالمتحدة لدى الصين ◄ ضحية أم مارقة؟! كانت الحرب الممتدة لأكثر من عام قد فضحت الدولة العبرية التى تحركها أيديولوجية استيطانية تقوم على العنصرية والعدوان، وعلى مدار عام كامل، استعرضت إسرائيل أبشع إرهابها بحق المدنيين العزل فى غزة، لم تفرق بين مقاتل ومدنى، ولم تفلح براءة الأطفال ولا استغاثات النساء والشيوخ ولا الرايات البيضاء التى رفعها الأهالى فى كبح آلتها العسكرية التى أطلقتها بشكل هيستيرى سفكا لدماء الفلسطينيين. والعالم الذى ظل آسفا لمحرقة اليهود على يد الزعيم النازى هتلر قبل نحو 80 عاما، لم يهتز أمام هذه المحرقة فى غزة، وكانت تحركاته لوقف الحرب على استحياء ودون جدوى، لكن الشعوب كان لها رأى آخر، فالخروج المتتالى للمظاهرات العارمة والحاشدة فى عدة مدن ومناطق حول العالم كان له أثره فى لفت نظر الساسة، إلى أن الاحتلال يتناقض كلية مع مقولات حقوق الإنسان والحريات التى تستقر فى منظومة القيم الغربية، وكما تلقى الرئيس الأمريكى تصويتا عقابيا فيما يتعلق بحرب غزة، «بغض النظر عن ثقله فى حسابات الناخبين» فهذا التصويت العقابى أيضًا ليس بعيدًا عن القادة الغربيين الآخرين. وبدا أن القوى الدولية غير الولاياتالمتحدة بدأت تظهر صبرًا أقل تجاه تعنت إسرائيل، فقد فرضت كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة قيودًا على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، مشيرةً إلى مخاوف بشأن الامتثال للقانون الدولى، ولم تشارك هذه الدول فى دعم إسرائيل بعد الهجوم الصاروخى الإيرانى الثانى فى أكتوبر، وفى الشهر نفسه، هددت إدارة بايدن أيضًا بتقييد نقل الأسلحة إذا لم تتحسن عمليات إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، لكنها لم تتخذ هذه الخطوة بعد، كما تناولت منتديات تاريخية معادية لإسرائيل، مثل الأممالمتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، سلوكها الحالى. وفي 21 نوفمبر، وافقت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بتهم تتعلق بجرائم حرب فى غزة، ويمكن لهذا الضغط الدولى المتزايد أن يؤدى إلى عواقب سلبية على استقلالية عمليات الجيش الإسرائيلى، وكذلك على قدرة الإسرائيليين على التجارة والسفر إلى الخارج، لكن الأهم هو انتهاء مقولة «ضحايا هتلر» إلى الأبد.