فى كل مجتمع هناك من يعيشون على الهامش، ليس لأنهم اختاروا العزلة، بل لأن الحياة وضعتهم قسرًا فى زوايا النسيان، أطل علينا مسلسل «ولاد الشمس»، وسط الضوضاء الدرامية، ليطرح قضية أولئك المهمشين قسراً، ويكشف أبوابًا موصدة على الألم، ويضىء مساحات معتمة فى الوجدان المجتمعى، أبحر العمل بجرأة وصدق فى دهاليز دور الأيتام، ليُخرج من بين جدرانها القاسية قلوبًا تنبض بالحلم، والخوف، والحنين، والخذلان، تغلغل بعمق فى النفوس لنرى ندوبًا زُرعت فى الأفئدة، قبل أن يكتمل الوعى. قدّم المؤلف «مهاب طارق» دراما تمشى على الجمر، لا تُجمّل الواقع أو تبالغ فى قسوته، بل تطرحه كما هو: عالم يئنّ من الداخل، يخضع لأشخاص يتفاوتون بين الرحمة والتقصير، بين من يرى الطفل رقمًا فى ملف، ومن يراه إنسانًا يستحق الاحتواء، واحترم المخرج الجرح الإنسانى ولم يستغله؛ عدسة المصور لا تستعرض، بل تشخّص، زوايا تلتقط التفاصيل المهملة، إضاءة تُبرز البرودة الرمادية، ألوان باهتة تعكس العزلة، وموسيقى تنبض من الداخل لتنساب فى المشهد، كل تلك العناصر تضافرت لخلق حالة شعورية متكاملة. التمثيل فى «ولاد الشمس» ليس أداءً، بل انصهار كامل داخل التجربة الدرامية، طه دسوقى وأحمد مالك طاقات فنية مبدعة، تمتلك إحساساً وقدرة فطرية على الذوبان فى الشخصيات، الأطفال لم يظهروا كأدوات درامية، بل وجوهٌ تنطق بالوجع، قبل أن تنطق بالحوار فى مشاهد حُفرت فى وجدان المتلقى، ولا يمكن إلا أن نتوقف احترامًا أمام الأداء الرصين، والحضور الآسر للفنان محمود حميدة، الذى لا يُجيد تقمص الدور فحسب، بل يسكبه على الشاشة بكل جوارحه، تلك هى لغة الأداء الدرامى حين تبلغ ذروتها. الإيقاع فى الحلقات الوسطى شابه شىء البطء، كما بدت خطوط علاقات بعض الموظفين داخل الدار وقصص ماضيهم مفتعلة أحيانًا، ولم تسلم بعض الشخصيات الثانوية من التنميط وضعف العمق النفسى، لكنها ملاحظات لا تنتقص من القيمة الإنسانية العالية التى يحملها العمل.. «ولاد الشمس» ليس ترفًا دراميًا، بل رسالة إنسانية، تقول: خلف كل جدار فى دار أيتام، قلب صغير يحتاج إلى من يراه، يسمعه، ويؤمن به، لا يدّعى المسلسل امتلاك الحل، لكنه يفتح أعيننا على سؤال وجودى: من يرعى قلوبًا لم يختر أصحابها الحياة التى وُلدوا فيها؟ وهل ما زال بوسعهم أن يروا فينا شيئًا من الشمس.