فى كل عدوان إسرائيلى، يتجلى الدور المصرى كمحور أساسى فى احتواء الأزمة وفتح مسارات الإغاثة والمساعدات، لكن مصر تُدرك أن مجرد إعادة الإعمار هو مجرد بداية ويجب التوجّه نحو «التعافى المبكر»، واستعادة الحياة فى القطاع ليس فقط عبر البناء، بل عبر توفير اقتصاد مُستدام، وخدمات قوية، وبنية تحتية قادرة على الصمود أمام أى عدوان مستقبلى، الرؤية المصرية اليوم تتجاوز مفهوم «الإعمار» إلى مفهوم «التعافى المبكر»، وهو تحول استراتيجى بالغ الأهمية، لتظل مصر هى رئة القضية التى تمنح الشعب الحياة، والتى تضع الحلول فى مواجهة المراوغات، وتقف صلبةً أمام محاولات تصدير الأزمة. ما الفرق بين إعادة الإعمار والتعافى المبكر؟ إعادة الإعمار تعنى إصلاح ما دُمِّر فقط، دون ضمان عدم تكرار الكارثة. أما التعافى المبكر فهو إعادة بناء الحياة نفسها، وضمان استقرار الخدمات، وخلق بيئة اقتصادية تمنع غزة من أن تظل رهينة الحصار والعدوان المستمر، هذا ما تدفع به القاهرة بقوة: استراتيجية جديدة لا تجعل غزة مجرّد كومة أنقاض تُعاد صياغتها بعد كل حرب، بل كيانًا قادرًا على الصمود والتعافى السريع من أى ضربة. الدمار والتعويضات الحديث عن إعادة إعمار غزة أصبح يقترن فى دوائر سياسية ودبلوماسية كثيرة بمبدأ المحاسبة والتعويض، فكما تدفع الدول المعتدية فى النزاعات الدولية تعويضات عن الجرائم التى ترتكبها، الأصوات تتعالى الآن بضرورة أن تتحمَّل إسرائيل مسئولية الكلفة المدمرة لعدوانها المتكرر على القطاع. ما الذى يجعل مطلب التعويضات أمرًا ضروريًا؟ 1- وقف دائرة الخراب المتكررة: إذا عرفت إسرائيل أن كل قنبلة تُلقيها ستكلفها ماديًا، فسيتغيَّر حسابها الاستراتيجى للحروب. 2- تحميل الاحتلال مسئولية أفعاله: من غير المقبول أن يستمر الاحتلال فى تدمير البنية التحتية فى غزة، بينما تتحمَّل الدول العربية والمجتمع الدولى تكاليف إعادة البناء. 3- خلق رادع قانونى وأخلاقى: لا يُمكن للعالم أن يستمر فى الصمت أمام جريمة مستمرة، حيث يتم تدمير مدينة بالكامل ثم يُطلب من الضحايا أن يُعيدوا بناءها من أموالهم الخاصة، هذه الأصوات والتحليلات تتحدَّث عن تغيير المعادلة: لا إعمار دون محاسبة، من يُدمِّر عليه أن يدفع الثمن، مَن يحتل عليه أن يتحمَّل مسئولية الخراب، مَن يُشعل الحرب، يجب أن يُحاسب على تداعياتها. أى محاولة للحديث عن مستقبل غزة دون هذه المبادئ، هى محاولة لإعادة إنتاج الكارثة نفسها، وتهيئة المسرح للعدوان القادم. غزة ليست مشروعًا مؤقتًا، وليست مجرد حطام يُعاد ترتيبه بعد كل حرب. غزة مدينة تعيش تحت قصف الاحتلال، ولن يكون هناك حل حقيقى إلا عندما تتوقَّف إسرائيل عن التعامل معها كهدف عسكرى دائم، ويبدأ العالم فى التعامل معها كقضية حقوقية وإنسانية وسياسية تحتاج إلى حل جذرى، وليس مجرد ترقيع مؤقت. لماذا لا تدفع إسرائيل فاتورة إعادة الإعمار؟ فى كل الحروب التى شهدها العالم، كانت هناك آليات دولية لإلزام الطرف المُعتدى بتحمُّل تكاليف الضرر الذى ألحقه، ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، العراق بعد غزو الكويت، حتى الحروب الأهلية الإفريقية كان لها صناديق تعويضات تدفعها الأطراف المُتسبِّبة فى الدمار، لكن عندما يتعلَّق الأمر بإسرائيل، فإن الأمر مختلف تمامًا: 1- لا توجد أى ضغوط دولية تُلزم الاحتلال بتعويض الفلسطينيين عن خسائرهم. 2- العالم يُموِّل إعادة الإعمار، بينما تستمر إسرائيل فى تلقى دعم عسكرى بمليارات الدولارات من الولاياتالمتحدة وأوروبا. 3- لا يتم الحديث عن العدوان الإسرائيلى باعتباره جريمة حرب تتطلب محاسبة، بل يتم التعامل معه كحدث عرضى يتطلب «معالجة إنسانية». هذه ليست مجرد ازدواجية معايير، بل تواطؤ دولى واضح، يجعل من غزة مختبرًا مفتوحًا للدمار، حيث يتم اختبار الأسلحة الإسرائيلية، ثم تُترك الأنقاض للمجتمع الدولى ليُعيد ترتيبها. هل يُمكن فرض تعويضات على إسرائيل؟ من الناحية القانونية، فإن فرض تعويضات على إسرائيل ليس فقط ممكنًا، بل هو حق مشروع وفقًا للقانون الدولى، أى دولة تخوض حربًا وتُدمِّر مدنًا ومنشآت مدنية، تكون مسئولة عن دفع تعويضات. إسرائيل ليست استثناءً، لكن العالم يُعاملها كذلك. هناك عدة طرق يُمكن من خلالها فرض هذه التعويضات: - رفع قضايا فى محكمة العدل الدولية لإجبار إسرائيل على تحمُّل المسئولية المالية عن الدمار. - استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة ضغط، تمامًا كما يتم التعامل مع دول أخرى ارتكبت جرائم مماثلة. - إنشاء صندوق دولى لإعادة الإعمار، يُموَّل عبر اقتطاعات من المساعدات المالية والعسكرية التى تتلقاها إسرائيل سنويًا. إذا كان العالم جادًا فى إنهاء معاناة غزة، فليبدأ من هنا: إلزام إسرائيل بدفع الثمن، وليس تحميل الضحايا أو المجتمع الدولى مسئولية إعادة بناء ما دمَّره المحتل. المعادلة الحالية، لم تعد مقبولة، حيث يتم التعامل مع غزة كمشروع «إغاثى» بدلًا من كونها قضية احتلال واستعمار استيطانى مستمر. المجتمع الدولى أمام اختبار أخلاقى وسياسى أزمة غزة ليست مجرد ملف إنسانى، بل اختبار لجدية النظام الدولى فى تحقيق العدالة إذا استمرت إسرائيل فى قصف غزة دون أى محاسبة، وإذا استمر المجتمع الدولى فى لعب دور «الممول السلبى» لإعادة إعمار ما دمَّره الاحتلال، فهذا يعنى أننا أمام نموذج عالمى جديد لإدارة الحروب، حيث تُمنح إسرائيل ترخيصًا بالدمار، ويُطلب من الآخرين دفع الثمن.