ارتبكت حكومة نتانياهو أمام ثبات الموقف المصرى ورفضه الحاسم تصفية القضية الفلسطينية وإجلاء الغزاويين من القطاع؛ وفى إطار محاولات الضغط على إدارة ترامب لتحفيزها ضد القاهرة، كلَّفت تل أبيب سفيرها لدى واشنطن يحيئيل لييتر بشن هجوم غير مسبوق على مصر أمام مؤتمر ليهود الولاياتالمتحدة، تجاهل فيه إصرار حكومته انتهاك اتفاقية كامب ديفيد باحتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وانبرى فقط فى توزيع اتهامات مستهلكة حول مدى التزام القاهرة باتفاقية السلام المبرمة تحت رعاية أمريكية عام 1978. كان للهجوم الموتور بالغ الأثر فى تحريك عقلاء الأوساط اليهودية لاحتواء الموقف، والحيلولة دون اختبار صبر المصريين بتصريحات غير مسئولة، لا سيما فى ظل أجواء محتقنة بالأساس على الصعيدين الإقليمى والدولي. اقرأ أيضًا | مؤسسة هند رجب.. ملاحقة مجرمى عدوان غزة وحسب مقال للكاتبة الإسرائيلية سيمدار بري، هرول رئيس ما يُعرف بالكونجرس اليهودى العالمى رون لاودر إلى القاهرة، محاولًا امتصاص غضب المصريين، وأشاد بالجهود المصرية المبذولة لحلحلة الواقع المأزوم فى قطاع غزة. لكن نعومة رأس حربة الطوائف اليهودية على مستوى العالم لم تمنع القاهرة من تكرار وتأكيد موقفها خلال اللقاء، وإصرارها على حتمية بقاء الفلسطينيين على أرضهم، وإعادة إعمار القطاع دون إجلاء قاطنيه مع اعتماد حل الدولتين كأساس لأى تسوية فلسطينية مع إسرائيل. خلال زيارة القاهرة، لم يغفل رون لاودر انفلات حكومة اليمين الإسرائيلى المتطرف عند إدارة ملفات بالغة الحساسية، أو حتى مع اختيار عناصر دبلوماسية مكلفة بمهام صعبة، فتاريخ سفير تل أبيب لدى واشنطن ملغَّم بما يحول دون توليه المنصب، وقد تؤشر سيرته الذاتية على ذلك؛ فرغم انخراطه فى العمل الأكاديمى (تدريس الفلسفة) حتى انتقاله للعمل الدبلوماسى فى يناير 2025، لم ينسلخ السفير نهائيًا عن سوابق أنشطته وأيدلوجياته اليمينية، ولم يفصل بينها وعمله الدبلوماسى الجديد. من بنسلفانيا، هاجر يحيئيل لييتر إلى إسرائيل عام 1978 واعتبر كتاب «التمرد» لمؤلفه رئيس وزراء إسرائيل الأسبق مناحم بيجن مرجعًا فكريًا، مارس بتوجهاته اليمينية المتطرفة نمط حياته فى العمل العام، فأصبح محسوبًا على «منظمة الدفاع اليهودية» الإرهابية، التى أسسها فى الولاياتالمتحدة الحاخام المتطرف مئير كهانا. وينتمى لييتر إلى معسكر المستوطنات، وفى عام 1992، أشرف على صندوق دعم ما يُسمَّى ب«مجلس مستوطنات الضفة الغربية» برعاية وزير البنى التحتية فى حينه أرئيل شارون. وفى عام 2000 كان من بين مؤسسى منظمة ONE JERUSALEM، وهى منظمة يمينية أدارت صراعًا ضد تقسيم القدس فى إطار تسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية، حاول رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك تمريرها فى مؤتمر كامب ديفيد. ربما يعكس جانب من تلك المعطيات هوية الشخصية اليمينية التى حاولت يائسة تأليب الرأى العام فى الولاياتالمتحدة ضد مصر، لكن السفير الإسرائيلى المتطرف وحكومته غضا الطرف فى المقابل عن ارتباك الداخل الإسرائيلى وانقلابه على نتانياهو وكذلك ترامب نتيجة للممارسات ذات الصلة باستعداء مصر وإثارة حفيظتها فى توقيت بالغ الخطورة. وبينما حذر المحرر العسكرى الإسرائيلى المخضرم يارون بن يشاى من مغبة انسياق نتانياهو وراء تحفيزات ترامب على استئناف العمل المسلح فى قطاع غزة، وتعارض الخطوة مع محاولات مصرية لتهدئة الأجواء ونزع فتيل الأزمة على الحدود مع مصر، أبدى المحلل الإسرائيلى ناحوم بارنيع اندهاشًا من منح ترامب رئيس وزراء إسرائيل ضوءًا أخضر ل«فتح أبواب جهنم فى القطاع». وفى تلميح واضح لرغبة الرئيس الجمهورى فى توريط نتانياهو وحكومته، كتب بارنيع فى مقال بصحيفة «يديعوت أحرونوت»: «تستمد رؤية ترامب إلهامها من أسلوب كلاسيكى يجسد صراع رعاة البقر ضد الهنود، فبدلًا من مساعدة نتانياهو فى الاستقرار على أرض الواقع، يدفعه الرئيس الجمهورى إلى الهاوية». ومضى الكاتب يقول: «كل رئيس أمريكي، بداية من هارى ترومان إلى جو بايدن، سعى بدوره إلى كبح جماح إسرائيل تجاه الجانب العربي. أحيانًا بتهديد صريح، مثل أيزنهاور عام 1956، وأخرى بمزيج من سياسة العصا والجزرة، مثل نيكسون فى حرب أكتوبر 1973، ومثل بوش الأب فى حرب الخليج وبوش الابن فى حرب لبنان الثانية، ومثل سلسلة من الرؤساء الديمقراطيين الذين نظروا بعين السوء إلى توسيع المستوطنات وسلوك إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة». وإمعانًا فى التعبير عن سطحية سياسة ترامب، وإثبات مدى خطورتها، أوضح الكاتب: «الآن يقود الولاياتالمتحدة رئيس يفكر ويتصرف بشكل مختلف: «إذا كانت غزة بسكانها البالغ عددهم مليونى نسمة مشكلة، فسوف نقوم بتوزيع سكانها فى بلدان أخرى». منذ قرن وأكثر يتجادل اليهود والعرب حول إشكالية الترانسفير، ويتناقشون فى جوانبها الأخلاقية والقانونية والعملية دون التوصل إلى تفاهم، ثم يأتى ترامب ويتصور أن حل المشكلة يكمن فى جملة واحدة: يقوم الجيش الإسرائيلى بتنظيف القطاع، وتتولى الولاياتالمتحدة المسئولية عنه، وتستوعب الأردن ومصر سكانه، ليدفع السعوديون فاتورة بناء «ريفييرا» على أرض القطاع خلال سنوات قليلة». من استهجان طرح ترامب، والتحذير من مغبة الانسياق خلفه إسرائيليًا، حاولت الكاتبة ليئور بن آرى تهدئة خواطر القاهرة بعد انفلات السفير المتطرف يحيئيل لييتر، ورغم تواتر التقارير الإسرائيلية المعبرة عن تردى العلاقات بين القاهرة وتل أبيب على خلفية ممارسات حكومة نتانياهو غير المسئولة فى قطاع غزة، واحتقان الوضع على حدود سيناء، رأت بن آرى أن «كل ما يشاع حول انزلاق الأزمة إلى مواجهة بين مصر وإسرائيل لا يعدو كونه مجرد تغريدات وتقارير مفبركة Fake Reporter». رغم ذلك أضافت الكاتبة الإسرائيلية: «لا أحد فى إسرائيل يستهين بإمكانية حدوث تحول فى الموقف المصرى ضد إسرائيل، ومع ذلك لا تقبض المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على اليد المفقودة التى تنشر الشائعات حول نية مصر تغيير مواقفها تجاه الوضع كله، ربما يكون ذلك نتيجة لزيادة مشاعر الخوف والذعر لدى الجمهور الإسرائيلي، الذى يعانى أيضًا من صدمة بالغة منذ أزمة 7 أكتوبر 2023». إلا أن صدى التغيير فى المواقف الذى تتحدث عنه بن آرى لا يتعلق بمصر، وإنما يخص جبهة إسرائيل الداخلية التى انقلبت بأجهزتها الأمنية على حكومة نتانياهو، وربما يؤكد ذلك اعتماد رئيس الوزراء الإسرائيلى على طاقم جديد لإدارة مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة؛ فبعد تنحية رئيس الموساد دافيد بارنيع، ورئيس جهاز الأمن العام ال«شاباك» رونين بار عن الصفوف الأمامية فى المفاوضات، استولى وزير الشئون الاستراتيجية بتكليف من نتانياهو على دورهما. وترسيخًا لإبراز مدى توتر العلاقات بين نتانياهو ورونين بار، يعتزم نتانياهو الإطاحة بالأخير، فبحسب تقرير معلوماتى للصحفية الإسرائيلية موران أزولاي، لم تصبح إقالة رئيس ال«شاباك» أمرًا واقعًا، لكن نتانياهو يستعد بالفعل لليوم الذى يلى رونين بار فى المؤسسة الأمنية. وأضافت أزولاي: «ارتفعت أصوات المعارضة خلال الأيام القليلة الماضية، وانطلقت منها انتقادات واسعة ضد نتانياهو على خلفية هجومه غير المبرر على رئيس ال«شاباك». من خلال ذلك، يبدو مدى انقلاب السحر على الساحر، وبدلًا من نجاح مهمة السفير الإسرائيلى المتطرف ضد مصر، تغيَّرت عناصر المعادلة، وانقلب الداخل الإسرائيلى على نتانياهو وحكومته، وربما قاطن البيت الأبيض هو الآخر فى آن.