في قلب محافظة الدقهلية، وعلى بعد 55 كيلومترًا من مدينة المنصورة، يقع تل الفرخة، أحد أهم المواقع الأثرية التي تعود لعصور ما قبل الأسرات، هذا الموقع الفريد لم يكن مجرد تل أثري عادي، بل كان مركزًا اقتصاديًا ودينيًا حيويًا شهد بدايات الحضارة المصرية. اقرأ أيضاً| حكايات| «مسجد بيبي خانم».. جوهرة سمرقند ومفترق طرق الثقافات بين التاريخ والترميم وأسفرت الاكتشافات الأثرية في هذا التل عن مفاجآت مذهلة، أبرزها تمثالان خشبيان مذهبان يعودان إلى نحو 6000 عام، ما يجعلهما من أقدم التماثيل المعروفة في التاريخ المصري القديم. لكن التل لم يقتصر على هذه القطع الفريدة، بل كشف عن مصانع للجعة، ومدافن للأطفال، ومنازل قديمة، مما يوفر صورة شاملة عن الحياة اليومية للمصريين قبل توحيد القطرين. وفي هذا التقرير، سنستعرض بالتفصيل سبب تسمية التل بهذا الاسم، والاكتشافات الأثرية المهمة فيه، مع التركيز على التمثالين الخشبيين النادرين، بالإضافة إلى الاكتشافات السابقة التي تسلط الضوء على أهمية هذا الموقع في تاريخ مصر القديمة. ** تل الفرخة: لكل اسم حكاية، وتل الفرخة ليس استثناءً. يعود سبب تسميته بهذا الاسم إلى الروايات المحلية التي تشير إلى وجود شكل يشبه الفرخة (الدجاجة) في طبيعة التل، أو ربما لأن السكان القدامى كانوا يربون الطيور في هذه المنطقة، وهو ما يتماشى مع طابعها الزراعي والاقتصادي. لكن بعيدًا عن التفسيرات الشعبية، فإن التل أثبت أنه كان مركزًا تجاريًا مهمًا يربط بين مصر وبلاد الشام، حيث عُثر فيه على فخار مستورد من تلك المناطق، مما يدل على أنه كان نقطة محورية في شبكة التجارة القديمة. ** اكتشافات أثرية مذهلة في تل الفرخة 1- التمثالان الخشبيان النادران في عام 2006، عثرت البعثة البولندية للتنقيب عن الآثار على اثنين من أندر التماثيل الخشبية في تاريخ مصر القديمة، يعودان إلى عصر نقادة الثالثة (حوالي 3500 قبل الميلاد). التمثالان يمثلان رجلين عاريين، أحدهما أكبر بحجم يتراوح بين 70-80 سم، والآخر أصغر (35-40 سم). المثير للدهشة أنهما مطعمان بالذهب، وعيونهما مرصعة بحجر اللازورد النادر، مما يدل على مكانة الشخصين الممثلين في التماثيل، والاحتمال الأكبر أنهما كانا حاكمًا وابنه. رغم أن التماثيل الخشبية من هذه الفترة نادرة جدًا، فإن هذين التمثالين صُنعَا بدقة متناهية تعكس المهارات الفنية المتقدمة للمصريين قبل التاريخ. تم العثور عليهما في الطبقة "ب" من الموقع، وقد كانا ملفوفين بورق مذهّب، إلا أن أجزاء منهما تعرضت للتلف بسبب الزمن. واليوم، يحتلان مكانة مميزة داخل المتحف المصري الكبير، حيث أثارا تساؤلات كثيرة لدى الزوار عن تاريخهما الفريد. 2- المقابر والأواني الفخارية لم يكن الكشف عن التمثالين هو الاكتشاف الوحيد في تل الفرخة، فقد كشفت الحفريات عن 33 مقبرة تعود لعصر ما قبل الأسرات، أغلبها مخصصة للأطفال. تم العثور داخل هذه المدافن على أوانٍ فخارية وحجرية، وخرز مصنوع من العقيق الأحمر، مما يدل على أن هذه المقابر لم تكن عشوائية، بل كانت تخضع لمراسم جنائزية خاصة. 3- مصانع الجعة القديمة من بين أكثر الاكتشافات إثارةً للدهشة في تل الفرخة وجود أقدم مصنع للجعة في مصر، يعود إلى عصر نقادة الثانية والثالثة. كانت الجعة تُصنع من القمح، وكان المصريون القدماء يصدرونها إلى بلاد الشام واليونان عبر فرع النيل المنديسي. تكشف هذه المصانع عن الجانب الاقتصادي للموقع، حيث لعب دورًا رئيسيًا في تزويد المصريين القدماء بهذه المشروبات التي كانت تُستخدم في الطقوس الدينية والاحتفالات. 4- الدفنات الحيوانية ودلائل استئناس الكلاب كشفت الحفريات في التل عن بقايا هيكل عظمي لكلب صيد من فصيلة السلوقية، وهي الكلاب التي كانت تُستخدم للصيد وكان يقتنيها الأثرياء. يُعتبر هذا الكشف دليلًا على استئناس المصريين للحيوانات واستخدامها في الصيد منذ آلاف السنين. 5- المباني والمخازن القديمة كشفت البعثة البولندية عن مبانٍ ضخمة مشيدة من الطوب اللبن تعود لعصر نقادة الثالثة، بالإضافة إلى مبانٍ أخرى يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من الأسرة الأولى. كما تم العثور على ختم نادجر (أحد ملوك ما قبل الأسرات) مصنوع من الخزف، عليه كتابات هيروغليفية، وهو ما يدل على أن المنطقة كانت تحت إدارة مركزية قوية. ** الاكتشافات السابقة في تل الفرخة 1- اكتشافات 2015 تم الكشف عن أربع مقابر جديدة بموقع تل الفرخة، 3 منها تضم دفنات لأطفال، والرابعة مقبرة تعود لعصر نقادة الثالثة، وتضم حجرتين شمالية وجنوبية. كما تم العثور على عدد كبير من الأواني الفخارية، و180 خرزة من العقيق الأحمر، مما يشير إلى تطور الطقوس الجنائزية في تلك الفترة. 2- اكتشاف منطقة صناعية في 2018 في عام 2018، أعلنت وزارة الآثار المصرية عن اكتشاف منطقة صناعية تعود لعصر ما قبل الأسرات، تضم ورشًا لتصنيع الفخار والأدوات الحجرية، مما يعكس التقدم التكنولوجي للمصريين القدماء حتى قبل توحيد البلاد. 3- اكتشاف 83 مقبرة في 2020 في عام 2020، تم العثور على 83 مقبرة في تل الفرخة، 80 منها تعود لحضارة "بوتو"، بينما تعود الثلاث المتبقية لعصر نقادة الثالثة. اتخذت هذه المقابر شكل حفر بيضاوية، واحتوت على أثاث جنائزي وأدوات فخارية، مما يضيف بعدًا جديدًا لفهم الممارسات الدينية والجنائزية في مصر القديمة. ** أهمية تل الفرخة في فهم التاريخ المصري يُعتبر تل الفرخة نافذة على حياة المصريين القدماء قبل عصر الأسرات، حيث يكشف عن تطور المجتمعات الزراعية، والتجارة، والتكنولوجيا، والطقوس الدينية. اقرأ أيضاً| ليس مجرد قطعة قماش.. قصة نسيج أوزوريس الجنائزي الفريد بالمتحف المصري تبرز الاكتشافات الأثرية في الموقع الدور الحيوي الذي لعبه المصريون في التبادل التجاري مع الشرق الأدنى القديم، كما تكشف عن بدايات الإدارة المركزية التي أدت لاحقًا إلى توحيد مصر تحت حكم ملك واحد. يظل تل الفرخة أحد أهم المواقع الأثرية التي تكشف أسرار الحضارة المصرية قبل التوحيد، فقد كشف عن أقدم تماثيل خشبية مطعمة بالذهب، وأقدم مصنع للجعة، ومدافن للأطفال، ومباني إدارية تعود لعصور ما قبل التاريخ. هذه الاكتشافات تؤكد أن تاريخ مصر لم يبدأ فقط مع الأسرات الفرعونية، بل يمتد إلى آلاف السنين قبل ذلك، حيث وضعت أسس الحضارة العظيمة التي شهدها العالم لاحقًا. يستمر البحث في هذا الموقع الفريد، ومن المؤكد أن تل الفرخة لا يزال يخفي في باطنه أسرارًا أخرى تنتظر أن تُكشف، لتضيف المزيد إلى فهمنا لعصر ما قبل الأسرات في مصر.