صباح شتوى قارس البرودة تسود بسببه كآبة تخيِّم على وجوه وأجساد المتواجدين فى الشارع، لا أحد يكاد يتحرك أو يتكلم لكن قدوم سيارة يعلو منها صوت عدوية صاخبًا «بلاش اللون ده معانا» كان كافيًا لإحداث تغيير جوهرى فى المشهد بأكمله، وكأن الربيع، بمعجزةٍ ما، حلَّ فجأة ومعه طغت حيوية ودفء ارتسمت بهما الابتسامات على الوجوه، تغير حال بائعة المناديل العجوز، وبائع الخضار، والعابرين وأنا بينهم، شملتنا جميعًا حالة الابتهاج التى أخذت بمنادى سيارات جالس على الرصيف وإن لم نملك جرأته وخفته التى تراقص بها جسده فى جلسته. دقائق طويلة استغرقها كوكتيل الأغانى الصادرة من سيارة شعر صاحبها بالفخر بما فعله من تغيير مزاج الناس بهذه الطريقة وكأنه نفسه عدوية أو من اكتشفه وقدمه للسميعة، لهذا تعمد أن يستغرق وقتًا أطول فى صف سيارته مع أن المكان فى ذلك التوقيت المبكر كان شبه فارغ، وحتى بعد أن أنهى مهمته فى صف السيارة تباطأ ولم يطفئ المحرك إلا بعد انتهاء الفقرة الغنائية وسارع ليخرس صوت المذيع كى لا يبقى فى الهواء سوى صوت عدوية وبقايا ما أثاره من بهجة! لم أسمع عدوية يومًا إلا وخطر على ذهنى ما دار من معارك ثقافية ومجتمعية حول صوته، ومع أنى لم أشهد وقائعها التى دارت فى السبعينيات إلا أنها كانت من القوة والعنف بحيث بقيت متواصلة لنتوارثها فى التسعينيات وإن خفت تأثيرها إلى الحد الأدنى وفى نطاق ضيق، فى جلسات وندوات المثقفين الذين بدا أن أغلبهم أصبحوا أكثر قابلية لتقبل الذوق الشعبى والاعتراف بوجوده، لكن ما لم يكن أحد يتوقعه أن زلزال عدوية الفنى ستمتد تبعاته لتطغى على الأشكال الغنائية والموسيقية الأخرى لتندلع المعركة مرة ثانية بالآليات نفسها تقريبًا لكن ليس ضد فنان بعينه هذه المرة بل حول إنتاج جيل التسعينيات الغنائى والسينمائى بشكل خاص والأدبى كذلك وإن بصورة مغايرة. ليس من المفهوم بالنسبة لى الأسباب الكامنة وراء النزوع إلى فرض لون واحد من الفن فى مصر، ما سر غياب ديمقراطية الاستماع والقراءة والمشاهدة؟ رغم أن القاعدة الأولى فى الفن تنص على ضرورة حرية التجريب ومنح مساحات أوسع للعب وعدم التوقف عند مسلمات باعتبارها قواعد ما، ولا يعنى هذا بالطبع عدم تصنيف أعمال بعينها باعتبارها من الكلاسيكيات المحفوظة ضمن التراث المؤسس للفن فى ثقافة ما. لا أحد بمقدوره وضع تعريف للفن بحيث يمكن تطبيقه عندما تثور أسئلة أو اعتراضات حول ما يقدمه فنان بعينه أو لون لم يعتده الناس، وبالمثل فإنه لا يمكن القطع بوظائف ثابتة للفن بحيث نقتنع بمقولات (على الأغلب تنطلق من تنظيرات سياسية) ترفض فنًا ما بدعوى تغييبه لوعى الجماهير، أو تزييفه للأولويات، وغيرها مما قرأناه وسمعناه كثيرًا ولم يكن له من أثر فى تقديرى سوى أنه أضرَّ بمسألة الفن فى مصر ضررًا بالغًا من حيث أراد أن ينفع! الكثير من أسئلة الفن الحقيقية غابت بسبب قضايا مزيفة، الإنتاج الفنى نفسه لم يعد بالقوة والألق اللذين كان عليهما فى فترات سابقة، لأننا لم نفهم على وجه الدقة كيف انتهت معركة عدوية ومناوئيه، لا شك فى أن انتصاره كان ساحقًا وانحياز الأذن المصرية له ولموهبته وضع ما يشبه الأسس لكيفية التعامل مع الفن، غير أننا وكما يحدث عادة فى معاركنا الثقافية والفكرية ننسى (الدروس المستفادة) مما جرى وعليه فإن المعارك نفسها تتكرر مرة وراء أخرى لكنها تفقد مع كل تكرار الزخم والاهتمام الجماهيرى والنتيجة الطبيعية هذا الانفصال الهائل الحادث الآن فى مختلف مجالات الفن.. بين فكرة الفن نفسه وبين المنتج الفنى، بين التراث العظيم الذى صنعناه وبين الرغبة فى التعبير عن الذوق السائد واليومى المتغير. نحن لم نفهم أيهما كان على صواب فى موقفه من عدوية.. مَن آزره أم مَن لعنه؟ على ماذا استند كلاهما فى رأيه أم أن الأمر لا يعدو أن يكون صراعات فنية لا ينبغى علينا الالتفات لها وتحكيم ذائقتنا الخاصة القائمة على قاعدة المشهد السابق ذكره هنا، ما يطربنا ويبهجنا هو بالضرورة ال«فن» فما إذن حاجتنا إلى نظريات ونقاشات مثقفين؟! لكن المسألة فى الحقيقة ليست على هذا القدر من الخفة أو قل السطحية، لأنه وللآن وحتى مع المتغيرات فالفن فى أى من مجالاته قائم على تطور النظريات المؤدية إليه، وعلى الرغم من القول بعدم وجود وظيفة محددة له إلا أننا نستنتج وظيفته من كل عمل على حدة، أى أنه وببساطة لدينا وظائف للفن بعدد الأعمال التى تم إنتاجها، وآلاف الأعمال الفنية من غناء وموسيقى ورواية وسينما مكتوب لها أن تبقى بسبب ما قدمته من تطوير فى مجالها أو لتلبيتها حاجة إنسانية ما وعلى الأغلب لن يكون من بينها ما يعبر فقط عن ذائقة جماهيرية من دون السعى إلى إضافة جمالية. ليس من الواضح ما الذى استفدناه من حرب عنوانها الرئيسى: ما هو الفن وما الذى يريده الجمهور؟ على الرغم من أن هذه الحرب الغريبة، وهذا الانشغال، لهما جذور بعيدة نسبيًا، ومن يقرأ سيرة أم كلثوم على سبيل المثال يمكنه تتبع أحد الفصول المهمة فيها. فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» (صدرت الطبعة الخامسة منه عن سلسلة كتاب اليوم مؤخرًا) يحكى محمود عوض كيف واجهت أم كلثوم فى بداية رحلتها الفنية الذائقة الجماهيرية السائدة وقتها برفضها أداء المونولوجات والطقاطيق المبتذلة الطاغية على الغناء فى عهدها ووصل إيمانها بما تفعل أنها عاندت مخمورًا أشهر مسدسه فى وجهها يأمرها بأداء بعض من هذا الغناء ليحدث له (الانبساط) وفى تاريخ الفن المصرى الكثير من تلك الوقائع فى مجالات أخرى غير الغناء من بينها ما فعله يوسف بك وهبى لفرض الانضباط فى المسرح ليتمكن من إيصال رسالته الفنية. فى السبعينيات تم تحميل عدوية فوق ما تحتمله موهبته، قيل إنه النتيجة الطبيعية للانفتاح، أصبح مدانًا هو ومن يسمعه، وبعد عدوية تواصل الأمر على هذا النحو، شعارات سياسية تواجه فنًا، ومع صدق الأحكام النقدية حول أعمال وفنانين بعينهم إلا أن النتيجة المباشرة لتحميل الفن مآزق السياسة أن أضحى النقاش برمته بلا قيمة ما يمكن الإفادة منها، ومع هزيمة النظرية النقدية المتقنعة بالسياسة فى مواجهة ذوق الجمهور لم يعد يمكن لأحد، سوى إن تحلى بالجرأة، المجاهرة برأيه حول عمل ما: أغنية، فيلم، رواية، قصيدة. اتسع مفهوم الحرية ليمكن معه تمرير أى شىء والرهان قائم فقط على عودة الحس السليم إلى الذائقة الجماهيرية!