«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من كنوز "البوابة".. مصطفى بيومى يكتب : أم كلثوم فى عالم نجيب محفوظ.. والاستماع لها والاستمتاع بأدائها هو القاعدة فى عالم أديب نوبل
نشر في البوابة يوم 12 - 04 - 2024

تتصدر عرش الغناء عنده دون مزاحمة باستثناء الصراع مع منيرة المهدية فى بداية الظهور
لا تقتصر أهمية أم كلثوم فى عالم نجيب محفوظ على تصدر عرش الغناء دون منافسة جدية أو مزاحمة، باستثناء الصراع مع منيرة المهدية فى بداية الظهور، لكنها تُعدَّ من أهم الشخصيات فى إبداع الكاتب الكبير، وربما تحتل المكانة الثانية فى عالمه الرحيب بعد الزعيم المقدس ذى السحر الخاص؛ سعد زغلول.
باستثناء أقلية ضئيلة، تقل كثيرا عن المعادين لسعد والرافضين لزعامته، فإن إجماعا كاسحا يتفق على الإعجاب بأم كلثوم والإقرار بتفردها، وهو إجماع يتجاوز صراعات الأجيال وخلافات الاجتهاد السياسى وتباين الأفكار.
البداية والنشأة
لم تكن الساحة خالية عند ظهور أم كلثوم، ذلك أن المرحلة التاريخية -عشرينيات القرن العشرين- تشهد وجود عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهو ما ينعكس على عالم محفوظ، حيث يتبدى الولع بكثرة من العلامات الغنائية البارزة، فى مقدمتهم عبده الحامولى ومنيرة المهدية، لكن انتماء الأول للقرن التاسع عشر، وسيادة الثانية فى الربع الأول من القرن الجديد، يضفى على أم كلثوم مكانة خاصة تنبع من تفوقها المطلق اعتبارا من بداية الربع الثانى فى القرن، وهى الفترة التى تمثل الإطار الزمنى للغالبية العظمى من أبطال نجيب وشخوصه.
مع بداية الظهور، تطل منيرة المهدية لتمثل منافسا شرسا أكثر شعبية وانتشارا. أفراد شلة أطفال «المرايا»، يتذاكرون يوما مطربة «جديدة»، أم كلثوم، يقول عنها سرور عبدالباقى:
» - سمعتها فى فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية!
ف«كبر علينا» ذلك وقال جعفر خليل:
- صوت منيرة يعلو ولا يُعلى عليه.
وانتهره خليل زكى، عديم الاهتمام بالغناء، قائلا بوقاحته المعهودة:
- لا تردد آراء أمك بيننا!».
الأغلبية الساحقة من «الرأى العام»، ممثلا فى أطفاله، تنحاز إلى منيرة المهدية، ومقولة سرور، البريئة العابرة، تمثل «صدمة» ينم عليها استخدام الراوى لتعبير «كبر علينا»، واندفاع جعفر خليل للدفاع، ومبادرة خليل زكى بالهجوم الوقح!.
إذا كان هذا هو موقف الصغار الذين لم يتشكل وجدانهم ويكتمل وعيهم بعد، لكنهم يعكسون الشائع السائد فى عالم الكبار الناضجين، فإن الجيل الأقدم يبدو أكثر حذرا وحرصا فى التعامل مع الصوت الجديد.
فى «قصر الشوق»، يستشهد إسماعيل لطيف فى حواره مع كمال عبدالجواد بأغنية للمطربة الجديدة أم كلثوم: «الحقيقة إن قلبك موجع، إنه يغنى مع المطربة الجديدة أم كلثوم: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا».
هذا الاستشهاد يمثل بدايات استيعاب الجيل الجديد لصوت أم كلثوم والاندماج معها، لكن جيل الآباء يختلف.
فى الرواية نفسها، يستمع السيد أحمد عبدالجواد، أحد أبرز المولعين بالغناء فى عالم نجيب محفوظ، إلى أسطوانات المطربة الجديدة، ولا يبدى شيئا من الحماس والتعاطف: «أعارها أذنا حذرة مضمرة لسوء الظنون، فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها».
تتشكل ذائقة الجيل الذى ينتمى إليه أحمد على أغانى عبده الحامولى ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوى، وليس من الميسور إضافة الصوت الجديد الشاب إلى التراث المزدحم المستقر، ولا تجدى شهادة الزعيم سعد زغلول فى الإحساس بالصوت وتذوقه.
فى جلسة الشراب التى يتذكر فيها أحمد سماعه لأسطوانات المطربة الجديدة فى منزل صديقه محمد عفت، يسأل عفت العالمة العتيقة جليلة عن رأيها فى أم كلثوم، فتقول: «صوتها، والشهادة لله، جميل. غير أنها كثيرا ما تصرصع كالأطفال»!.
يبدو أن محمد عفت، الذى يقتنى الأسطوانات ويسمعها لأصدقائه، من المؤمنين بموهبة المطربة الصاعدة، وقادر على التخلص من مؤثرات تراثه الغنائى التقليدى، فهو يعود ليقول:
- «البعض يقولون إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت منيرة نفسها»!.
تتوالى ردود الفعل المحتجة الرافضة لمقولته الجريئة، وتهتف جليلة مدافعة عن مقام منيرة ومكانتها:
- «كلام فارغ!، أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟
وتقول زبيدة بازدراء:
- فى صوتها شيء يذكرنى بالمقرئين، كأنها مطربة بعمامة! ويقول أحمد عبدالجواد رافضا، مقرا فى الوقت نفسه بشعبية الصوت الجديد وانتشاره:
- لم أستطعمها، ولكن ما أكثر الذين يهيمون بها، والحق إن دولة الصوت زالت بموت سى عبده».
البداية القوية لا تحول دون الانقسام والتحامل العنيف الجائر على الموهبة الثرية، ذلك أن توجهها يصطدم بالشعبية الجارفة لمنيرة المهدية وهيمنتها على عشاق الغناء. أحمد عبدالجواد يتخلص من الصراع وعبء الاختيار، فهو يرى البطولة المطلقة لعبده الحامولى، ولا متسع عندئذ لمنيرة وأم كلثوم معا!.
بعد استقرار أم كلثوم على العرش، فى سنوات تالية، يستمر الصراع بلا هوادة، فهذا الاستقرار لا ينفى وجود متحمسين إلى درجة التعصب الأعمى لكل ما هو قديم، فى مواجهة غلاة المحبين لأم كلثوم إلى درجة الهوس والتطرف غير المحدود.
فى «خان الخليلى»، يرى أحمد عاكف، المحافظ التقليدى، أن الغناء القديم هو الطرب الذى يأسر النفوس بغير عناء. وإزاء هذا التصريح، يتساءل سيد عارف فى إنكار:
«- وأم كلثوم وعبدالوهاب؟»
لا يملك أحمد إلا الاستمرار فى الدفاع عن رأيه، فيقول:
«- عظيمان فيما يرددان من وحى القديم، تافهان فيما عداه!».
ويأتى تعليق سيد متعصبا لا هوادة فيه:
«- أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل!».
عندئذ، لا يجد عاكف مفرا من الإقرار بعظمة «صوت» أم كلثوم، دون اعتراف مماثل بعظمة «فنها»!:
- أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية!».
رأى غرائبى قوامه التناقض والتلفيق، بما يتوافق مع شخصية قائله. كيف يكون الصوت عظيما لا خلاف عليه، و«الناحية الفنية» تافهة ما لم تلتزم بالقديم؟ وهل يمكن الفصل بين الصوت وما يسميه بالناحية الفنية؟.
السيادة والتفرد
تسود أم كلثوم بلا منافس، وتتهاوى قلاع المدافعين عن القديم السابق لها.
فى «السكرية»، يعترف رضوان ياسين لعبدالرحيم باشا عيسى بأنه من «غواة» أم كلثوم، وكان ذلك فى مطلع الأربعينيات، ولا يجد الباشا، المحب للقديم من الغناء، مفرا من الخضوع لسريان الزمن وتحولاته: «جميل، لعلى من عشاق القديم، ولكن الغناء كله جميل، فأنا أحب ثقيله وخفيفه كما يقول المعرى». وإذا كان أحمد عاكف، فى المرحلة التاريخية نفسها كما تقدمها «خان الخليلى»، يتفلسف ليميز بين الصوت وأصول الفن، فإن شقيقة الأصغر رشدى يبدو نموذجا للجيل التالى الذى يعشق أم كلثوم، ويرضخ لفنها وسحره وجاذبيته بلا مقاومة.
فى مطاردته للجارة نوال، يسر بالسينما التى تختارها محطة أخيرة فى رحلة المتابعة الطويلة، ومرد سروره أن السينما تعرض فيلم «دنانير» الذى تقوم أم كلثوم ببطولته: «وأدرك أن هذه المطاردة أتاحت له لذتين عزيزتين».
وهكذا تتساوى لذة الاستماع إلى أغانى أم كلثوم فى الفيلم، مع لذة المغامرة العاطفية الجديدة فى حياته.
داخل صالة العرض، يبقى رشدى مخلصا لعاطفته الغزلية، فيتجول بصره بين البناوير والألواج والمقاعد، مزجيا تحيات المودة إلى الصدور والنحور والثغور والمعاصم، لكن هذا كله ينتهى ببزوغ صوت أم كلثوم: «فما أن يغرد الصوت الإلهى بأغنية النبع «طاب النسيم العليل» حتى غفل عن الوجود».
تفكر نوال، بعد عودتها إلى البيت، فى جارها المثابر العنيد الذى يتبعها عامدا، وتتوقف أمام انشغاله بأم كلثوم على حسابها: «ومن عجب أنه نسى وجودها فى السينما بترنيم أم كلثوم!، أما هى فلبثت تشعر بوجوده عن كثب منها طوال الوقت».
لأن أم كلثوم تمارس هذا التأثير على العاديين من الناس الذين يحبون الغناء ويذوبون فيه، فإن ممارسى الفن، مع اختلاف مواهبهم وحظوظهم فى الانتشار، يقرون بتفوقها ويستسلمون بلا مقاومة لشهرتها ولا يحملون بتجاوزها. غاية الطموح هو الاستمرار والتواجد فى ظل سيادتها، ولعل هذا ما يفسر أن مدعى الفن على صبرى، فى «بداية ونهاية»، على الرغم من غروره وتعالمه الكاذب، لا يصل به التهور النرجسى إلى ادعاء منافسة أم كلثوم أو التشكيك فى مكانتها، فهو يخاطب تابعه الخائب حسن كامل فى مرارة وتهكم: «ماذا يُسمع الآن فى الراديو؟. لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء. ولو كانت المحطة تراعى وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبدالوهاب».
بعد سطور قلائل، ينهال «نقده الفنى» على محمد عبدالوهاب، ما يكشف عن اعتقاده بأنه أولى منه بالغناء فى الإذاعة، لكنه لا يتعرض لأم كلثوم مقرا بأنه دونها.
عندما يصل على صبرى إلى محطة اليأس من الغناء، متفرغا لإدارة القهوة والاتجار فى المخدرات، يعترف بأن الراديو محتكر بمعرفة أم كلثوم وعبدالوهاب وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، ومن الجلى أن أم كلثوم فوق النشاز المنسوب إلى الشرذمة غير المسماة!.
قبل اعتزال الغناء، لا يجد على صبرى مفرا من حفظ أغانى محمد عبدالوهاب وطقاطيق أم كلثوم، حتى يتسنى له العيش «فى البلد الذى لا يقدر الفن»، والأمر نفسه يتكرر مع الشقيقين إبراهيم وزكى ضرغام، فى قصة «صباح الورد». تقتصر ثقافتهما الفنية على حفظ الأدوار والتواشيح القديمة: «ثم مضيا مع الزمن يحفظان أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب».
خصوصية ميرامار
لعل «ميرامار» هى أكثر روايات نجيب محفوظ تجسيدا للمكانة الرفيعة التى تحتلها أم كلثوم فى الحياة المصرية، وتعبيرا عن الدور الذى تلعبه فى الحراكين الفنى والاجتماعى معا.
العلاقة بين سكان البنسيون لا تتجاوز حدود التعارف الشكلى التقليدى، حتى تقترب الليلة الأولى لموسم أم كلثوم، فيعرف الصحفى العجوز عامر وجدى أنهم سيسهرون حول الراديو: «وأنها ستكون ليلة طيبة عامرة بالشباب والغناء».
لا تقتصر السهرة على الاستماع للغناء والاستمتاع به، ذلك أنها أيضا أداة تواصل اجتماعى وتعاون إنسانى وتحرر من وطأة الروتين والملل، وعلى هذا التوجه يجمع السكان المختلفون فى كل شيء تقريبا.
حسنى علام، المندفع المستهتر اللامبالى، المسكون بالشهوات والمجون، يقول عن السهرة ذات الخصوصية المتفردة: «ليلة أم كلثوم ليلة متوجة حتى فى بنسيون ميرامار. أكلنا وشربنا وضحكنا. خضنا فى كل موضوع حتى السياسة».
ويقف الشيوعى المأزوم منصور باهى فى خندق واحد مع حسنى، على الرغم من التناقض الكامل بينهما، فى الإحساس بطبيعة السهرة الاستثنائية: «ليلة أم كلثوم، ليلة الخمر والطرب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس».
ولا يختلف الأمر بالنسبة للانتهازى الوصولى سرحان البحيرى، ذى الشخصية المغايرة تماما لشخصيتى حسنى ومنصور:
«وكانت ليلة أم كلثوم.
نازعنى المزاج إلى قضائها فى بيت على بكير لنتلقى السماع فى جو هادئ جدير به، كما دعانى رأفت أمين إلى السماع فى مسكنه، ولكنى فضلت – بعد تفكير – السهر مع أسرة البنسيون لأوثق علاقتى بأفرادها».
الفوارق الشاسعة بين الثلاثة أكثر من أن تُعد أو تُحصى، لكنهم يتفقون على خصوصية الليلة وطقوسها المميزة.
ويمتد التأثير الطاغى لأم كلثوم ليطول غير المصريين. مدام ماريانا، صاحبة البنسيون يونانية الأصل، لا تغير المحطة الإفرنجية التى تدمن سماعها إلا ليلة أم كلثوم. يسألها عامر وجدى، بعد وصوله إلى البنسيون بغرض الإقامة الدائمة: «ألا نغير المحطة الإفرنجية؟»، وتأتى إجابتها واضحة سريعة حاسمة لا تردد فيها أو مجاملة: «عدا ليلة أم كلثوم فلا محطة غيرها!».
فى ليلة أم كلثوم، يستمع حسنى علام مع النزلاء الآخرين، وسرعان ما يعجز عن التركيز بسبب قلقه وملله وتوتره الدائم، ويدهشه أن المدام تحب أم كلثوم وتصغى إليها فى اهتمام: «ولعلها لاحظت دهشته فقالت:
- سمعتها عمرا طويلا!».
وفى مناسبة أخرى، يعلق حسنى على طواف ماريانا بحجرات البنسيون حاملة المبخرة: «إذن فأنت تحبين أم كلثوم وتؤمنين بالبخور؟».
أى شيء يبقى من الانتماء الغربى لليونانية العجوز، وهى التى تحب أم كلثوم والبخور؟.
الاستماع إلى كوكب الشرق والاستمتاع بها هو القاعدة فى عالم نجيب محفوظ، وخلاف ذلك هو الاستثناء النادر الذى لا يُقاس عليه ولا يُعتد به. إنها مصدر السعادة والبهجة كما فى المقطع الأول من قصة «الميدان والمقهى»، مجموعة «الفجر الكاذب»: «يتهادى صوت أم كلثوم من الراديو ليسعد صباح السامعين».
يشكل صوتها جزء أصيلا فى نسيج اللوحة المعبرة عن إيقاع الحياة المصرية، مندمجا فى منظومة الصباح والشباب والإشراق والصفاء. ولأنها مصدر السعادة والبهجة، وعلامة التحقق والانتعاش، فإن المعاناة فى سبيلها محتملة، وإذ تشكو اليونانية ماريانا:
» - عيب ثومة أنها تبدأ فى وقت متأخر جدا!
يعلق عامر وجدى كأنه ينفى العيب أو يبرره:
- ولكن الشباب نجحوا فى التغلب على آلام الانتظار».
رشدى عاكف، فى «خان الخليلى»، يغفل عما حوله ليستمتع بأم كلثوم فى أغانى فيلم «دنانير»، لكن سرحان البحيرى لا يستطيع أن يتجاهل زهرة وهو يستمع، ولعل انشغاله بالحب هو ما يفسد عليه استمتاعه «المعتاد»، أو على حد تعبيره: «لم أستمتع بأم كلثوم كالعادة، ولا رددت معها بعض المقاطع، ولكن نشواتى تفاعلت كسيال كهربائى مع زهرة».
الفارق بين رشدى وسرحان هو الفارق نفسه بين مغامرة عاطفية لم تكن قد وصلت إلى حافة الحب بعد، وبين حب ملتهب يعانى من أزمة حقيقية معقدة، وهذا الفارق هو ما يؤدى إلى انتصار أم كلثوم على نوال، وتراجعها أمام زهرة!.
العلامة والرمز
غياب استمتاع سرحان يمثل الاستثناء النادر فى علاقته مع أم كلثوم، وهو ما يمثل مظهرا من مظاهر «الشذوذ» عند شخصية أخرى تستبدل بالنواح والعديد أغانى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
من مظاهر «الشذوذ» التى يتسم بها عبدالمنعم الكاشف، فى قصة «صباح الورد»، وتعبر عن شخصيته المضطربة: «أنه مولع بنواح الندابات أكثر من أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب».
فى هذا السياق، يبدو التشبه بأم كلثوم هو الأداة الوحيدة المتاحة لتقريب المعنى الذى تعجز اللغة العادية عن استيعابه.
فى «السكرية»، لا تجد العالمة المتقاعدة جليلة ما تعبر به عن مكانتها القديمة المندثرة، إلا أن تقول لكمال عبدالجواد: «كنت فى أيامى كأم كلثوم فى أيامك الكالحة».
المراهنة هنا على معرفة كمال اليقينية بالمكانة التى تحتلها أم كلثوم فى الثلاثينيات والأربعينيات، وبالقياس يمكن تخيل مكانة جليلة وشهرتها فى الزمن القديم.
تعود جليلة إلى ماضيها المزدهر المندثر مستعينة بأم كلثوم، ويلومه مستقبل أخريات على ضوء ما تمثله المطربة المتربعة فوق القمة، حالمات بمجدها والتطلع إلى خلافتها. النجاح الذى تحققه المطربة الشابة وداد صبرى، فى قصة «صباح الورد»، يذكر الراوى بما كان يقوله أبوها لأبيه فى زمن قديم، فى سياق مديح ابنته الموهوبة: «هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء».
وهل من نموذج يُحتذى يفوق أم كلثوم؟!
لأن الفكاهة تمثل ملمحا رئيسا فى عالم نجيب محفوظ، فإن أم كلثوم لا تنجو منها، لكن: أى نمط من الفكاهة يُمارس معها وتندمج فيه؟ إنها الفكاهة المنطلقة من الإقرار بعظمتها وتفردها، والمستثمرة لمكانتها غير المتنازع عليها.
المفترض فى المحامى الإخوانى محمد حامد برهان، فى «الباقى من الزمن ساعة»، هو نفوره من الغناء لأسباب فكرية تتعلق بعقيدته السياسية، ذات الجذور الدينية، المعادية للفن، لكن هذا لا يمنع الإخوانى العتيد من توظيفه لأغنية كلثومية شائعة للسخرية من جمال عبدالناصر، وليس من المطربة، فهو يقول ساخرا عن «نزهة» اليمن التى تنقلب إلى متاهة: «أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم «أسيبك للزمن»؟. يُقال إن الأصل هو: أسيبك لليمن!».
وفى «السراب»، يعود الدكتور أمين رضا من بعثته الأوروبية ساخطا متذمرا متمردا، مبشرا بالانحياز إلى الحكومات الفاسدة المعجلة باشتعال الثورة، بديلا للحكومات الشعبية التى لا تستطيع أن تفعل شيئا، وعندما يُسأل:
» - ألا تجد فى مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟
يدير عينيه البراقتين فى الحاضرين ويقول مبتسما:
- بلى.. أم كلثوم».
وبعد انتهاء سهرة أم كلثوم فى «ميرامار»، يقول منصور باهى للعجوز عامر وجدى، المنتمى إلى الماضى البعيد:
» - هل سمعت فى ماضيك صوتا كهذا الصوت؟
فيجيب العجوز باسى:
- إنه الشيء الوحيد الذى لا نظير له فى الماضى»!
أما طلبة مرزوق، الإقطاعى الرجعى المعادى لثورة يوليو، الذى يملأ الرواية بسخرياته اللاذعة من النظام الناصرى وقراراته، فإنه يستمع إلى أم كلثوم فى السهرة نفسها بعمق، ويهمس لحسنى علام ساخرا: «من نعم الله أنهم لم يصادروا أذنى!».
فى النماذج السابقة جميعا، فكاهة مرتبطة بأم كلثوم، لكنها لا تسخر منها ولا تتهكم عليها. المحامى الإخوانى يستثمر الأغنية دون المساس بصاحبتها، للسخرية من عبدالناصر وورطته فى حرب اليمن، والدكتور أمين رضا يتهكم على واقع وطنه المتخلف من خلال أم كلثوم، القيمة الوحيدة الجديرة بالاحترام، وبذلك يسخر «من خلالها»، ولا «يسخر منها». الأمر نفسه يتحقق مع عامر وجدى، الذى ينتمى إلى زمن سابق لظهور أم كلثوم وممتد إلى ما بعد سيادتها وتألقها. إذا كان التعصب للزمن القديم يفرض عليه أن يحب كل ما فيه، فإن خصوصية أم كلثوم تتبدى فى أنها «الظاهرة الوحيدة» التى لا نظير لها فى ماضيه، أما مرزوق فيسخر من مصادرات وتأميمات الثورة، ويحمد الله على أنهم لم يصادروا أذنيه، وكأنهما تقبلان المصادرة، حتى يستمتع بالاستماع!.
لا يخلو الأمر من هجوم حقيقى على سيدة الغناء العربى، لكن الهجوم، مثل الفكاهة المرتبطة بها، لا يتعرض لها فى ذاتها. عبدالرحمن شعبان، المستغرب المعادى للشرق والشرقيين فى «المرايا»، يسخر من الولع الشرقى بالألقاب، وفى إطار هذه السخرية يتعرض لأشهر ألقاب أم كلثوم متهكما: كوكب الشرق.
لا يخلو الأمر كذلك من برود نسبى يعترى بعض الأجيال، بحكم المتغيرات الاجتماعية والمؤثرات الإعلامية، تجاه أم كلثوم. سنية المهدى، فى «الباقى من الزمن ساعة»، تنزعج لجهل حفيدها بزعماء مصر قبل ثورة 23 يوليو، ومن بروده أيضا تجاه أغانى أم كلثوم وولعه بعبدالحليم حافظ والأغانى الإفرنجية!.
تبقى ملاحظة أخيرة حول الموقع الذى تحتله أم كلثوم فى عالم نجيب محفوظ، ونعنى بذلك استخدام بعض الأغانى للتعبير عن حماس مستمع أو ذكرياته، أو لتؤدى دورا فى تشكيل نسيج فنى خاص يستهدفه الروائى.
فى «خان الخليلى»، يتجلى الحماس لأغنية بعينها عند المعلم زفتة، وهو مدمن عتيد قليل الكلام عادة، لكن الحوار الذى يتطرق إلى الغناء يثيره فيقول معلقا: «اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سى عبده إذا غنى ياليل، وعلى محمود إذا أذن الفجر، وأم كلثوم فى امتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!».
من مفردات لغة الإدمان، يستمد تقييمه الفنى، الذى يتسم بالإيجاز ومعانقة اليقين الذى لا يطوله الشك!. الأغنيات المرتبطة بذكريات معينة، نجدها عند العجوز الحكيم محتشمى زايد فى «يوم قتل الزعيم». يستدعى ذكريات شبابه وما يرتبط به من انطلاق وتحرر واستمتاع بالحياة: «أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلى، والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحى، إن كنت أسامح وأنسى الأسية».
الأغنية الأولى لمنيرة المهدية، والثانية لأم كلثوم.
وفى قصة «الرجل الآخر»، مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»، يترنم أحد السابلة شاديا: «أهل الهوى يا ليل».
يأتى هذا الترنم تعبيرا عن سيادة العادى المألوف، من منظور قاتل مختلف عن غيره، فى إطار ضبابى يمزج الواقع بالأحلام، والحقيقة بالخيال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.